"يا تواب تب علينا وارحمنا... واغفر لنا يا تواب"
يأتي الصوت تحمله الريح عصر اليوم السابق بحلول شهر رمضان.
ما إن تسمعه قريتنا، ويشنف صوت ابن عامرة أسماعنا، حتى نزداد شوقًا لشُربة رمضان وشفوت رمضان، وانقشاع الخوف عن تفاصيل القرية، فنكون أحرارًا في الخروج نعبث مع الليالي، ونستفز الليل الذي يجلب الخوف أيام الفطر قبل حلول رمضان... لا ندري كيف كانوا يستدلون على هلال رمضان في القرية، ربما كانوا يعتمدون على إذاعة عدن، ربما..
عصر كل يوم رمضاني ترانا نردد:
يا رمضان عني وقله
تندي اللحوحة بكله
يكون لليل هيبته وحضوره ابتداء من مسجد قريتنا الصغيرة، حيث يأتي كل واحد من الكبار ببضع تمرات في قرطاس من بقايا جرائد الإنجليز..
يا رمضان عَنِّي وقله
تندي اللحوحة بكله
يكون لصحن المسجد تسجيل ذكريات الشهر الكريم كل عام، يأتي الكبار وكل في جيبه تمرات يضعها أمامه، ليأتي من لم يكن في جيبه حبات تمر، حتى إذا أذن العم عبدالواسع، امتدت الأيدي للتمر مُسبِّحة بحمد الكريم العليم..
يكون للصلاة في غرفة المسجد الصغيرة المزدحمة بالمشاعر، طعمها ورونقها في الليالي الكريمة...
يتحلق أفراد كل أسرة حول اللحوح والشفوت والشوربة التي نظل ننتظرها عامًا كاملًا... لذيذة هي بلا حدود..
يضاء إتريك الديوان، هنا يسري الأمان في القرية، نتوزع على دور القرية العتيقة، نلعب "الغُمَيًاني".. نطوف على بيوت القرية آمنين حتى يقبل السحور ياالله لطعم "العُشَر"...
في قريتي كانوا لا ينامون، وإن تعاطى بعضهم القات سمرة ليالي رمضان، فلوقت قصير يذهبون للنوم، يصحون باكرين ملبين نداء الأرض.
في تعز يستقبل سكان المدينة رمضان، منذ الشعبانية، هنا تسمع المدينة تتردد بين الضبوعة والقاهرة وصبر:
يا مساء يا مساء الخير يا مساء
يا مساء وأسعد الله المساء
يا مساء ليلة الشعبانية
يا مساء من يعوده ثانية
يا مسا جيت أمسي عندكم
يا مساء هي لنا ما هيش لكم
يا مسا جيت أمسي عندكم
يا مساء ما دريتو أصلكم
يا مساء جيت أمسي من يريم
يا مساء بالقراعة والشريم
يا مساء جيت أمسي من تعز
يا مساء وعشانا يختبز
يا مساء جيت أمسي من قدس
يا مساء والجعالة هي بلس
يا مساء جيت أمسي قاصدك
يا مساء يرحم الله والدك
يا مساء افسحونا شانسير
يا مساء نندي الحب من خدير
يا مساء افسحونا بشعير
يا مساء نحسك الصعب الصغير
كم نلاقي من أهل البيوت من مقالب، أبرزها بقايا الغساول تنداح على رؤوسنا، ومن بعض البيوت بعض البُقَش.
من على منارة جامع المظفر قبل أن يهوي بها الريح، يجيء إلى بقية أنحاء المدينة صوت المغربي يؤذن للمغرب، هنا يدوي مدفع جبل القاهرة، وقبلهم يكون صوت الحدائي يرتل القرآن ترتيلًا...
وقبل الغروب ترى الصحون تتداول بين المنازل؛ صورة من صور التكافل الاجتماعي، لا غني فيها ولا فقير...
وفي البيت مساء من بعد صلاة التراويح، ترى دخان البخور يلون الأمسيات، وأصوات المقرئين والمنشدين وإزعاجنا يتسلل بينهما... وفي صباحات رمضان نحول شارع 26 سبتمبر إلى مساحات نتقاسمها للعب الكرة، وفي الليالي نتسابق على "كيرم" مقهاية النجاشي، ركن مدرسة ناصر...
في صنعاء يستقبل الشهر الكريم من يوم "يا نفس ما تشتهي"، يقومون بطلاء المنازل بحملات نظافة يتم تجديد البيوت... ويكون لليل الرمضاني في صنعاء القديمة رائحته العبقة بالإيمان..
ومن الثانية فجرًا تدوي أصوات المآذن بالدعاء حتى يحل السحور..
هي قطفة من ليالي السحر في رمضان...
كل عام وأنتم خيره وبركته...
مرحب مرحب يا رمضان!
2024-03-15