صنعاء 19C امطار خفيفة

"ابني بريء.. لكنهم أقوى مني"

كيف سحق محافظ ذمار ومستشاروه العدالة وسرقوا حياة شاب بريء؟

2025-03-04
كيف سحق محافظ ذمار ومستشاروه العدالة وسرقوا حياة شاب بريء؟
أكرم المسلمي

"أنا أم.. لا أملك نفوذًا، ولا أموالًا، ولا قبيلة تحميني.. أملك فقط دموعي، وصوتي الذي لا يسمعه أحد!" بهذه الكلمات الموجعة، تفتح والدة أكرم المسلمي جرحًا لا يندمل، جرحًا صنعته أيادٍ متنفذة في ذمار، حيث لا يقف القانون إلى جانب الضعفاء، بل يُستخدم لحماية الأقوياء وتدمير حياة الأبرياء.

في أحد سجون مدينة ذمار، يقبع أكرم المسلمي خلف القضبان منذ أكثر من أربع سنوات، رغم أن المحكمة أعلنت براءته. إنه مجرد شاب بسيط يحلم بمستقبل أفضل ويعيل أسرته، لكن ذنبه الوحيد أنه لم يكن يملك اسمًا ثقيلًا أو أموالًا تشتري له العدالة. في المقابل، هناك في مكاتب السلطة، يجلس محافظ ذمار، الرجل الذي تجاهل حكم المحكمة، وحوّل نفوذه إلى جدار يحمي القاتل الحقيقي، ويُبقي المظلوم خلف القضبان.

في هذه القصة، يمكننا أن نرى كيف يُمكن لمن يملك القوة أن يسحق حياة إنسان بقرار واحد، بينما تبقى صرخات الأمهات مجرد صدى في مدينة يحكمها الأقوياء.

صورة مصغرة للفيديو

ليلة الجريمة.. وبداية التلاعب

منتصف ليل الثلاثاء، 3 نوفمبر 2020، كانت الحاجة عائشة الشامي (65 عامًا) تجلس في منزلها الصغير في ذمار، تتابع التلفزيون، حين باغتها الموت على يد حفيدها، يحيى الفتاحي (15 عامًا)، الذي كان يعيش معها لحمايتها. ادعى يحيى بداية بأن لص دخل البيت وقتل جدته. لكن محاولة "صفاء (والدته) منع الأطباء من فحص رأس أمها، بحجة أنها أوصت ألا يلمسها أحد بعد وفاتها". بالإضافة إلى ملاحظة أحد العاملين الصحيين، للخدوش على صدر يحيى، أثارا شكوكه. وعندما سئل عن ذلك، ادعى أن الجروح نتيجة اشتباكه مع اللص المزعوم. أبلغ العامل خبير البحث الجنائي بذلك، ليتم اعتقال يحيى للتحقيق معه.

في الساعة السابعة والنصف صباحا، اعترف يحيى لمحققي البحث الجنائي بمحافظة ذمار بالجريمة، قائلا: كانت الجدة قد اكتشفت سرقة حفيدها لأموالها، وحينما سمعها تهمس لإحدى خالاته بأمره، وبدافع الخوف من افتضاح أمره، "دخل المطبخ وأحضر كماشة حديدية، ولفها ببطانية حتى لا تصدر صوتًا. عاد إلى الغرفة متظاهرًا بالنوم، ثم انقض على جدته وضربها على رأسها ضربات متتالية". حاولت مقاومته، حتى أنها جرحت صدره بأظافرها، لكنه واصل ضربه حتى سقطت مضرجة بدمائها. 

جانب من الحكمالتحقيقات الأولية، تقارير البحث الجنائي، وأدوات الجريمة، وافادات أفراد الأسرة  -حصلت النداء على نسخة منها- أكدت جميعها هذه الرواية، ودفنت الضحية وفقًا لذلك.  

اعتراف يحيى بجريمته، مثل صدمة كبيرة للجميع، وقد كرر اعترافه حتى امام أفراد العائلة بينهم والده وخاله مراد، علم مراد وعدد من اولياء الدم إلى معلومات تشير إلى تورط والدي يحيى ومشاركتهم بالجريمة، وطلب التحقيق مجددًا، دون جدوى، وأُحيلت القضية إلى النيابة. 

لكن القصة لم تنتهِ هنا... فالعدالة في ذمار ليست خطًا مستقيمًا... بل متاهة يضيع فيها الضعفاء.

تدخل الحباري وإفساد مسار العدالة

كشفت وثائق القضية رقم عن تدخلات سياسية وأمنية غير مسبوقة قلبت مسار العدالة رأسًا على عقب. ففي البداية، وبعد أن وجهت النيابة العامة اتهامًا واضحًا ليحيى الفتاحي بقتل جدته، دخلت شخصيات نافذة على الخط، كان أبرزها يحيى الحباري والمحافظ.

بعد أيام من الدفن وتقديم واجب العزاء، وصل يحيى الحباري إلى منزل مراد الصنعاني محاولًا فرض تحكيم قبلي بديلًا عن القانون، ومتحدثًا بغرور حيث "عرض مبلغ 100 ألف دولار كدية للضحية"، إلا أن مراد "رفض رفضًا قاطعًا وطرده من المنزل"، مما أشعل غضب الحباري، الذي توعد مراد بدفع ثمن رفضه.

هذا الرد كلّف مراد وعائلته الكثير، عندما بدأت لعبة النفوذ. حيث التقى الحباري وعاطف بالمحافظ، وأقنعوه بأن تحقيقات البحث الجنائي شابتها اختلالات، وأن يحيى الفتاحي بريء، بل وادعوا أن مراد الصنعاني وأصدقائه قد يكون لهم صلة بالجريمة. 

في إطار هذا التحرك، زار الحباري السجن "وتبرع بمبالغ مالية لترميم مرافقه"، كما زوده بعدد كبير من الفراش والبطانيات، مستخدمًا نفوذه كرئيس لمجلس أمناء مؤسسة السجين. كما بنى غرفة خاصة ليحيى الفتاحي داخل السجن، مزودة بأسرة مريحة، ونُقل إليها مع عدد من الأحداث المساجين، مما أثار شبهات حول ترتيب خاص له.

مخطط جديد ومتهمون جدد

بحث المتنفذون عن كبش فداء جديد، فوجدوا أن أكرم المسلمي هو الحلقة الأضعف، بسبب ارتباطه بمراد الصنعاني من خلال عمله في محلات الصفاء للبهارات.

أقنعوا المحافظ بتشكيل لجنة أمنية، برئاسة مدير الأمن، الذي كلف الباقر الوشلي - مدير أمن مديرية ذمار آنذاك - بتنفيذ عمليات اعتقال طالت أكرم المسلمي، مراد الصنعاني، أحمد شرهان، مروان المزيجي، وصهر مراد الصنعاني، دون أي دليل حقيقي.

 

خطف واعتراف تحت التعذيب

في 30 ديسمبر 2020، اختطف مسلحون يتبعون الوشلي الشاب أكرم المسلمي من أمام محلات الصفاء للبهارات في سوق الربوع بمدينة ذمار التي يعمل فيها، واقتادوه إلى وجهة غير معلومة. 

لنحو شهرين، لم تعلم أسرته عنه شيئًا، كما يقول علي المسلمي شقيقه الأصغر للنداء.

رافق علي والدته المسكينة متنقلين من مستشفى إلى مستشفى، من مركز شرطة إلى آخر، بحثًا عن ابنها الذي يعيلها، دون جدوى. وتروي بحزن: "ذهبتُ إلى كل مكان، طرقتُ كل الأبواب، سألتُ في كل قسم شرطة... لم أكن أعلم إن كان حيًا أم ميتًا."

بعد عشرة أيام، تم إبلاغ والدته من سجناء مفرج عنهم أن أكرم محتجز في إحدى الزنازين السرية، في قسم الجنوبية في تهمة قتل ويواجه التعذيب القاسي. وتقول: "ما عاد دريت بحسي وذهبت انا وابني الصغير للقسم وانكروا وجوده، بعدها اعترفوا انه عندهم ولكن ممنوع الزيارة".

عندما حاول أهالي المعتقلين مثل والدة أكرم، تقديم شكاوى للنيابة العامة، وجهت الأخيرة أوامرها للبحث الجنائي لزيارة قسم الجنوبية، إلا أن الوشلي منع دخول اللجنة، بل وأرسل أطقمًا مسلحة لترهيب أهالي الضحايا. في إحدى الحوادث، تعرضت والدة أكرم المسلمي لاعتداء جسدي أثناء محاولتها زيارة ابنها.

في قسم الجنوبية تعرض أكرم والاخرين لتعذيب وحشي استمر 48 يومًا وهم معصوبي الأعين، وبحسب افاداتهم فقد حضر الحباري شخصيًا في بعض جلسات التعذيب، لدرجة أن المعتقلين أفادوا بشم رائحة عطره الفاخر خلال التحقيقات كونهم. 

وتفيد والدة أكرم بأن ابنها أخبرها تعرضه "للضرب، الصعق بالكهرباء، والحرمان من النوم لأيام، والإيهام بالغرق"، وقد أكد ذلك محمد المقدشي واخرون، شاهدوا "أكرم والمزيجي، مكبلين في زنزانة انفرادية وفي حالة يرثى لها". 

كان المحققون يريدون شيئًا واحدًا: اعترافه.

أمام هذه الوحشية، وتحت وطأة الألم، انهار أكرم بعد 48 يوما، واخبرهم ما أرادوا سماعه، ووقع لهم على اعترف بجريمة لم يكن يعلم عنها شيئا.


"محافظ" على القاتل

بعد اكثر من شهرين وفي اول زيارة سمحوا بها لاسرته، لم يتمكن علي ووالدته، من التعرف على أكرم الا بعد ان نادى عليهم من خلف شباك حجز الإصلاحية في ذمار. يقول علي: "كان هزيل الجسم ومتعب ولما شافنا دعاني وانهار بالبكاء". 

وأمام هذه الفوضى، نُقل المتهمون وملف التحقيق الكيدي إلى البحث الجنائي للتصديق على المحاضر المزيفة، إلا أن مدير البحث آنذاك، أبو صخر الخطيب، رفضها رفضًا قاطعًا، مؤكدًا أن الملف الأصلي انتهى وتم تحويله إلى النيابة، التي سبق أن أصدرت قرار الاتهام بحق يحيى الفتاحي. 

ومع ذلك، وتحت ضغط المحافظ، رضخت النيابة وأصدرت قرارًا جديدًا، يقلب القضية رأسًا على عقب، ويتهم: أكرم المسلمي: القاتل الرئيسي، يحيى الفتاحي: مساعد القاتل، أحمد شرهان: مضلل الحقيقة، ومراد الصنعاني: حيازة سلاح ناري دون ترخيص.

عقب هذا القرار، عقد المحافظ مؤتمرًا صحفيًا غير مسبوق، متحدثًا عن "اعترافات" أكرم المسلمي، ومشككًا في تحقيقات البحث الجنائي. وفي اليوم التالي، أفرجت النيابة عن مراد الصنعاني بعد ثبوت براءته، مما أثار غضب المحافظ والحباري. ولم يمض وقت طويل حتى استخدم المحافظ نفوذه للإفراج عن يحيى الفتاحي أيضًا، والذي خرج من السجن وسط احتفالات وأهازيج البرع وكأنه عريس، حيث استقبله المحافظ بنفسه، بل وقام لاحقًا بتوظيفه وتوظيف والده في مكتبه.

عائلة تمزقها المأساة

بينما كان أكرم يقبع في زنزانته، كانت والدته تعيش كابوسًا لا ينتهي. لقد عاش أكرم نحو خمس سنوات من القهر. لا تهمته كانت حقيقية، ولا محاكمته كانت عادلة، ولا حتى سجنه كان قانونيًا.

خارج السجن، كانت والدته تبيع كل ما تملك لمتابعة القضية.
أما شقيقه الأصغر، علي، فكان مراهقًا في السادسة عشرة من عمره عندما اختُطف أكرم. فجأة، وجد نفسه مسؤولًا عن الأسرة، والسعي وراء العدالة.
 
يقول علي: "كنت أدرس... ثم فجأة، أصبح عليَّ أن أعمل، أن أواجه القضاء، أن أتابع القضية، أن أكون رجل البيت."
لقد ترك مدرسته في الصف التاسع، واشتغل على دراجة نارية ليعيل والدته ووالده المتعب، وفي الوقت ذاته، ظل يلاحق المحاكم والنيابات، رافضًا الاستسلام. رغم كل ذلك، تفوق في دراسته المنزلية وحصل على معدل 88% في الثانوية العامة.

هذا الطفل الذي حُرم من أخيه بات يكرر جملة واحدة:
"كنت أريد أن أدرس الهندسة... لكن بعد ما رأيتُ الظلم بعيني، قررت أن أدرس الشريعة والقانون لأدافع عن المظلومين."

محاكمة أكرم المسلمي واستمرار الظلم

كشفت شهادات شهود العيان، سجلات حركة الهاتف، تتبع حركته الأقمار الصناعية، وحتى تصريحات معظم أولياء الدم، كلها قالت شيئًا واحدًا: "أكرم بريء"، وتثبت تواجده في صنعاء لحظة وقوع الجريمة. إلا أن النيابة رفضت النظر في كل هذه الأدلة العلمية او سماع الشهود، ولم تعيرهم أي اهتمام، وفقًا لعلي.

لم ترضخ المحكمة لضغوط المحافظ، ونظر في كافة الأدلة واستمع لشهادات الشهود. مع ذلك، استمرت محاكمة أكرم المسلمي لأربع سنوات، بينما جُمّدت محاكمة يحيى الفتاحي، الذي بقي طليقًا. وبالرغم من تقديم ستة شهود لإثبات براءة أكرم، وطلب المحكمة لسجلات المكالمات التي تثبت تورط يحيى الفتاحي ووالديه، تم تعطيل القضية عمدًا لمدة أربع سنوات وثمانية أشهر.

 وفي 19 يناير 2025، حكمت  المحكمة الجزائية في ذمار ببراءة أكرم المسلمي من تهمة القتل، وأمر بتعويضه ماليًا عن الأضرار المادية والنفسية التي لحقت به. بل وأمرت بنشر اعتذارات رسمية في الصحف المحلية لإعادة اعتباره. 

ورغم أن المادة 472 من قانون الإجراءات الجزائية التي تنص على أن البراءة تعني الإفراج الفوري، إلا أن السلطة في ذمار لها قانونها الخاص. المحافظ، رجال الأعمال، والنيابة المتواطئة، كلهم رفضوا تنفيذ الحكم. بل إن المحافظ وجّه بابعاد القاضي واستبداله عقب هذا الحكم، وفقًا لمصادر مطلعة. 
وبحسب والدة المسلمي فقد رفض رئيس النيابة ذمار الإفراج عنه بحجج واهية، مدعيًا انتظار الاستئناف أو استشارة المحافظ، رغم أن القانون لا يتيح له الطعن في حكم البراءة.

لكن، حتى هذه اللحظة، لا يزال أكرم في السجن.

لم تتوقف والدته وشقيقه عن الصراخ أمام المحاكم والنائب العام والمحامي العام الأول: "المحكمة قالت إنه بريء، فلماذا لا يفرجون عنه؟ من يحكم هذه البلاد؟ الله أم المحافظ؟"


نهاية مؤقتة أم بداية جديدة للعدالة؟

في هذه المدينة، لا يحتاج الإنسان أن يكون مذنبًا ليُسجن... بل يكفي أن يكون ضعيفًا. 

رغم الحكم ببراءته، لا يزال أكرم المسلمي خلف القضبان  ضحية نظام يحكمه النفوذ لا القانون. وحدها صرخات والدته وأخيه تحاول اختراق جدار الصمت، فهل ستُفتح الأبواب، أم سيبقى الضعفاء يدفعون الثمن؟

في حين يواصل مراد الصنعاني، ابن الضحية نفسها، ترديد كلماته التي لم يتراجع عنها: "أكرم لم يقتل أمي، لماذا يُسجن وهو بريء؟ إذا كانت العدالة تُباع، فمن يشتريها للفقراء؟" واضاف: لا يزال الجاني الحقيقي حرًا، محميًا بنفوذ المال والسلطة.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً