صنعاء 19C امطار خفيفة

"التلفريك" في جبال ريمة: الخدمة أولاً والمتعة مؤجلة

"التلفريك" أو القاطرة المعلقة، فكرة رائعة ارتبطت أساساً بعشّاق السياحة الجبلية وهواتها. هذا النوع من وسائل النقل الجوي الخفيف أثبت نجاحه في أعالي جبال "ريمة" على نحو مثير، ولكن لدواعٍ خدمية بحتة: نقل السلع وأشياء المواطنين الثقيلة.

تلفريك جبل يفوز الذي يصعد من وادي ضفون الى قمة جبل يفوز ـ مديرية الجعفرية غرب ريمة

 

آخر هذه التجارب البديعة تم تنفيذها في إحدى قرى عزلة "الأسلاف" شرق محافظة ريمة ذات التضاريس الجبلية الوعرة والبيئات الأكثر اخضراراً في المناطق الوسطى من اليمن.

لا تصل السيارات المحملة باحتياجات السكان إلى كثيرٍ من القرى المبعثرة في صدور الجبال. لكن أحد المهندسين المحليين من سكان قرية "الجبل" دفعته الحاجة إلى التفكير بجدية، بحثاً عن تدابير ناجزة لوضع حد لمعاناة واحدة من أجمل قرى الريف: قرية الجبل، وأيضاً كوسيلة نقل ذكية ومربحة.

محطة وصول بريد التلفريك مع العمال والمواطنين في قرية الجبل مديرية السلفية ( تصوير يوسف الجبل)

 

يقول المهندس عماد الشاوش (35 عاماً): "كنت في قرية عُدِّن غرب مدينة الجبي عندما بدأت أفكر في تنفيذ فكرة خطوط التلفريك". ويضيف المهندس عماد: "كنت مخزن بقات ضخم يومها".

ويومها كان عماد مقاول بناء في تلك النواحي الغربية لـ"ريمة" شديدة الوعورة. وكانت عملية نقل الأسمنت على أكتاف الشقاة أو على ظهور الدواب من آخر محطة وقوف السيارات إلى مكان البناء تكلّف نصف قيمة الشراء.

محطة الإنطلاق حيث يستعد العامل وضع ثلاث الى اربع احجار الى داخل الحوض وارساله الى القرية بمسافة 700م في مدى زمني لا يستغرق بضع دقائق ( تصوير يوسف الجبل)

 

"هذا مكلف جداً وكما يقولون الحاجة أم الاختراع"، يقول المهندس عماد الذي التمعت الفكرة داخل رأسه في "عزلة عُدّن"، ثم شرع في تنفيذها واختبارها عملياً عندما انتقل إلى عزلة "الرييّم" في مديرية مزهر، فنجحت وحققت له أرباحاً مبهرة.

وعندما عاد إلى قرية "الجبل"، وجد أن تكرار الفكرة هنا مسألة شديدة الإلحاح. بات الأمر سهلاً: المسافة أقصر واشتراطات الأمان والسلامة مضمونة إلى حدٍ كبير مقارنة بتجربته في "الرييّم"، حيث المدى أبعد والانحدار أشد.

الى هذا الحقل بمحاذاة قرية الجبل يهبط البريد بأمان محملاً بالسلع والمواد الثقيلة ( ت يوسف الجبل)

 

حبل معدني شديد الصلابة (خبطة على اتجاهين) ملفوف بإحكام على أسطوانتي حديد عجلة السيارة، إحداها في محطة الانطلاق والأخرى في محطة الوصول إلى باب القرية، والأسطوانتين مثبتتان بإحكام إلى عمود من الحديد القوي المغروس في الأرض على نحو ثابت ومنيع. ثم حوض ناقل معلق على عجلة حديد (مكَرَة) يندفع عبر الحبال بمسافة 500 متر إلى القرية الأولى، ثم إلى القرية التي تليها 700 متر.

 

الصندوق في مهمة نقل جوي.jpg

 

وفي الجوار عند محطة الانطلاق، سيارة شاص (صالون) عبارة عن غرفة القيادة والتحكم، يتم التشغيل بواسطة المكينة (مكينة السيارة).

النقل الجوي آمن

ينقل سكان القرية عبر هذه الوسيلة الجميلة والفعّالة أشياءهم الثقيلة مثل: الحديد والإسمنت والأحجار والطوب وأكياس القمح والدقيق وأسطوانات الغاز وغير ذلك من السلع المجلوبة من الأسواق.

ويحمل الصندوق (أو الحوض الناقل) ما يصل وزنه إلى 200 كجم. وبالإمكان تطويره وتوسيعه ليصبح وسيلة نقل للمرضى والمتعبين وحتى للمتعة: لهواة السياحة وعشّاقها.

هذه الفكرة العبقرية آمنة ومضمونة، وعلى مدى سنواتها التشغيلية لم تُسجل أي حوادث. كما أنها وإن حدثت ـ افتراضاً ـ فإنها لن تكون خطرة: لن يسقط الحوض المعلق من الجو إلى الأرض ولن ينقطع الحبل الحديدي "هذا مستحيل.. لكن إذا حصل شيء فسيعود البريد إلى نقطة البداية" كما يقول صاحب الفكرة ومالكها المهندس عماد.

آمن لكنه مكلّف

بالنسبة للناس، خصوصاً كبار السن، هذه فكرة جبارة ورائعة. وهي أكثر إدهاشاً لدى الشبان والصغار الذين يترددون كثيراً إلى محطة التلفريك للطيران عبر هذا القارب الجوي الذي يخترق الهواء النظيف ويتوارى أحياناً وسط أمواجٍ من الضباب الكثيف.

متعة الارتفاعات الشاهقة واستدارة النظر على جميع الجهات، تبدو القرى ومدرجاتها الخضراء واضحة للمسافر عبر التلفريك الذين تغمرهم مشاعر الدهشة وتندفع من صدورهم شهقة الانتعاش.

الحاج علي عقيلي جبل مع المصور يوسف جبل في لحظة تأمل من وسط الحقول ( ت يوسف الجبل).jpgيتأمل الحاج علي عقيلي جبل (80 عاماً) هذه الوسيلة الفعالة وهو يراها تنقل إليه الأشياء الثقيلة، ويشعر بالانشراح والراحة: الأشياء التي كان يصعب وصولها إلى البيت إلا بشق الأنفس.

لكن الحاج علي عقيلي يأسف لمسألة واحدة: أجرة النقل مكلفة جداً وباهظة.

"دفعت على نصف سلة طماطم 500 ريال" يقول الحاج علي، ويتمنى لو يتم تطوير المشروع من خلال البحث عن وسائل تشغيلية أقل كلفة، "مثلاً على بطاريات أو على طاقة شمسية لأن أجرة النقل باهظة".

بإمكان التلفريك أن ينقل في اليوم الواحد حدود 600 كيس أسمنت، وهي كمية ممتازة إذا ما تم احتسابها بالنظر إلى قيمتي الزمن والجهد اعتماداً على وسائل النقل الأخرى.

التلفريك فكرة قديمة هناك

فكرة "التلفريك" في جبال "ريمة" ليست حديثة التجربة. فالمواطنون يستخدمونها منذ أربعين عاماً.

في مطلع ثمانينات القرن الفائت، وصل فريق هندسي أوروبي بالتنسيق مع الحكومة اليمنية إلى مديرية الجعفرية (غرب ريمة) قاصدين قمة "جبل يفوز" لتركيب برج الاتصالات اللاسلكية ـ محطة تقوية بالميكروويف (المنتهية صلاحيتها الآن).

وعندما وصل الفريق الهندسي إلى وادي "ضفون" أسفل جبل "يفوز" الشاهق، وجدوا أن هذه الانحدارات صعبة للغاية إذا ما أرادوا نقل المعدات الخاصة بالمحطة إلى القمة على ارتفاع 2000 م فوق سطح البحر، وعندما حاولت السلطات إقناع المواطنين بالسماح بشق الطريق من وسط الحقول رفضوا بشدة.

عندئذٍ فكر المهندسون بحلول بديلة لكنها مكلفة: إنشاء قاطرة جوية على غرار ما عملوه في النمسا. ثم شرعوا في التنفيذ، وبعد أشهر نجحت الفكرة.

وعندما غادر الفريق الهندسي المنطقة بعد أن نجح في مهمته، ترك "التلفريك" في كامل جهوزيته التشغيلية خدمة للأهالي.

ومن يومها والتلفريك يعمل دون توقف كوسيلة نقل جوي فريدة هي الأولى من نوعها في منطقة الشرق الأوسط.

يشعر بعض المواطنون اليوم في مديرية الجعفرية بالأسف لأن فكرة الطريق التي عرضها على آبائهم الفريق الهندسي قبل أربعين عاماً كانت فرصة لوصول الإسفلت إلى قمة الجبل.
لكن الأغلبية اعتبروا موقف آبائهم كان صائباً حفاظاً على مدرجاتهم الكثيفة بأشجار البن والقات "التي ورثوها كابراً عن كابر".

يا للأسف، توقف "التلفريك" عن العمل قبل سنتين، وعادت مشقة النقل من جديد بعد استراحة أربعة عقود.

هذا التوقف دفع بالمواطنين إلى الشروع في صورة جماعية بشق وتعبيد الطريق إلى القمة عبر خرائط بعيدة لا تمر على الحقول ورصها بالأحجار في تصميم فريد وغير مسبوق.

صورة قديمة لغرفة نقل

 

الأرض في الجعفرية باهظة والحفاظ عليها يتطلب أقصى درجات المسئولية والتضحية.

تلك المدرجات الزراعية التي رفض آباؤهم التفريط بها لا تزال في عهدة الأمان مثل الكنوز والبصائر.

يقوم الشباب في تلك العزل (عزل الجعفرية) باجتراح الطريق من وسط الصخور والضياح ورصها بالأحجار الساندة لتشييد واحدة من أصعب الطرق والممرات الجبلية في اليمن عبر انساق جبلية شديدة الانحدار ضمن مخططات هندسية لا تأتي على الحقول.

بالنسبة للسكان الأصلاء وأصحاب الأرض، فإن التضحية بمدرجاتهم الزراعية الأصيلة ليس بالأمر الهيّن.

ومن يذهب إلى مديرية الجعفرية يشعر بالذهول والإعجاز وهو يتأمل بناء الأجداد لتلك التدرجات العجيبة رغم الانحدار المخيف.

لقد اندهشت بعثة "نيبور" لجمال تلك الحقول المثمرة بالبُن و"الخرمش" عندما زارتها البعثة كأول محطاتها مطلع القرن الثامن عشر في ذروة ازدهار تجارة البُن عبر العالم.

وصلت البعثة إلى عزلة "اليمانية" وإلى سوق "علوجة" الواقع على خط التماس مع "وصاب" ووثّق "نيبور" تفاصيل مدهشة عن تلك الحقول كواحدة من عجائب اليمن السعيد في كتابه الشهير: "من كوبنهاجن إلى صنعاء".

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً