صنعاء 19C امطار خفيفة

"الضريب القاتل"... مزارع تحترق وخسائر بالملايين تهدد آلاف الأسر اليمنية

"الضريب القاتل"... مزارع تحترق وخسائر بالملايين تهدد آلاف الأسر اليمنية
الصقيع يدمر المحاصيل الزراعية

بين ليلة وضحاها، تتحوّل حقول القات والخضروات في عدد من المحافظات اليمنية إلى أراضٍ محروقة ومساحات سوداء ذابلة، وكأن يدًا خفية قد مرّت عليها وأحرقتها. الجاني هذه المرة ليس الحرب ولا الأزمات الاقتصادية، بل البرد القارس، المعروف محليًا بـ"الضريب"، الذي ترك وراءه صدمة عميقة في نفوس آلاف المزارعين الذين وجدوا أنفسهم على حافة الانهيار الاقتصادي. 

"كل شيء احترق في لحظات، رأينا أوراق القات تذبل أمام أعيننا وكأن النار قد أكلتها"، هكذا يصف أحمد السالمي، أحد مزارعي منطقة مريس في محافظة الضالع، ما حدث لمزرعته. السالمي، الذي كان يعتمد على محصول القات لتأمين رزقه، ليس سوى واحد من آلاف المزارعين الذين دمر الضريب مزارعهم هذا العام، متسببًا في خسائر مالية كارثية، حسبما يوثق هذا التقرير. 

 
 

الكارثة بالأرقام: خسائر بالمليارات 

 
تشير تقديرات أولية إلى أن خسائر مزارعي القات بسبب الضريب في محافظات البيضاء وذمار والضالع فقط، تجاوزت المليار ريال يمني، حيث تُعتبر هذه المحافظات من أبرز مناطق زراعة القات في اليمن. موجات الصقيع الأخيرة، التي اجتاحت عدة محافظات، كانت الأشد قسوة منذ سنوات، وفقًا للمواطنين. لقد ضربت الضالع، مريس، الشعيب، الحصين، ودمت، ووصلت إلى رداع في البيضاء، والنادرة والرضمة في إب. ومع ذلك، لا توجد إحصائيات رسمية دقيقة لحساب الخسائر الناجمة عن هذه الكارثة. 
مزارع قات
في غياب الإحصائيات الرسمية، يعتمد تقدير حجم الخسائر على شهادات المزارعين، الذين أكدوا أن تأثير موجة البرد تجاوز التوقعات. المزارع السالمي أوضح أن غلته التي كانت شبه جاهزة للبيع، تُقدّر قيمتها السوقية بأكثر من 4 ملايين ريال (ما يعادل 8.000 دولار أمريكي)، فضلًا عن مليون ريال أُنفق على الشقاء  والماء والأسمدة لرعاية المحصول.
المزارع إبراهيم الفرح، من مديرية الرضمة في محافظة إب، هو الآخر لم ينسَ صباح الخميس 18 ديسمبر المشؤوم الذي انخفضت درجة الحرارة ليلتها إلى درجة واحدة مئوية فوق الصفر، حينما استيقظ ليجد محاصيل القات في مزرعته محترقة بالكامل. يقول: "في اليوم السابق عقدت مع المشتري صفقة لبيع الغلة بمليوني ريال (ما يعادل 4 آلاف دولار)، لكن في ليلة واحدة، أجهز الضريب على كل شيء". ويوضح: "لم تُجدِ الأغطية الزراعية نفعًا في حماية المحاصيل في حقول وادي الأجنب كافة"، وهو ما أكده أيضًا مزارعون في مناطق أخرى مثل الشعيب، قيفة، جهران، ضوران، يريم، وغيرها.
وفقًا لإحصاءات غير رسمية، تم الإبلاغ عن نحو ألف حالة "ضريب"، جمعها معد التقرير من مشاركات المزارعين في 4 مجموعات "فيسبوك" مهتمة بالزراعة والطقس في اليمن، منذ أكتوبر الماضي حتى أوائل يناير. ومع ذلك، يشير الخبراء إلى أن الرقم الحقيقي قد يكون أكبر بعشرة أضعاف، ما يجعل الكلفة الكلية للخسائر كارثية، وبمليارات الريالات.
 

ظاهرة تتزايد حدتها

 
"الضريب" ليس مجرد موجة برد عادية؛ بل هو ظاهرة زراعية شتوية مدمرة تتكرر سنويًا، مسببة خسائر فادحة للمزارعين. تنشأ هذه الظاهرة بسبب تداخل عوامل الطقس البارد مع ارتفاع نسبة الرطوبة، مما يؤدي إلى تجمد قطرات الندى (الطل) على أوراق النباتات. وعندما تنخفض درجات الحرارة إلى درجة واحدة فوق الصفر أو ما دونها، يتجمد الماء داخل خلايا الأوراق، ما يتسبب في تمزقها وتحولها إلى اللون البني الداكن وكأنها احترقت. وفي بعض الحالات، يتفاقم الأمر ليصل إلى تشقق السيقان والفروع.
قطرات الندى (الطل) متجمدة فوق الاغطية المستخدمة لحماية المزروعات
واجه المزارعون في اليمن موجات برد قاسية عبر العقود، خصوصًا خلال شهري ديسمبر ويناير. تتزامن أخطر هذه الموجات مع ما يُعرف بـ"مربعينية الشتاء"، ووفقًا للفلكيين، فهي فترة زمنية تتميز ببرودة شديدة في ليالٍ محددة، أبرزها:
برد إقبال شهر الـ13 (5-10 ديسمبر).
برد مقرانة الـ13 (11-15 ديسمبر).
برد الوقوف (17-22 ديسمبر).
برد الانصراف أو الرجوع (أواخر ديسمبر وبداية يناير).
برد الفاصل (4-9 يناير).
برد مقرانة الـ11 (8-13 يناير).
ورغم أن هذه الليالي لا تحدث كلها في عام واحد، فإنها تعد الأشد خطورة، حسبما يؤكد المريسي.
تتفاوت خطورة "الضريب" وتأثيراته على المزروعات من مكان لآخر، ومن حقل لآخر، كما تشير المعلومات. مع ذلك فقد تضاعفت حدتها بشكل ملحوظ في العقد الأخير، إذ امتدت تأثيراتها من الشتاء إلى الربيع في بعض الأعوام، مثل 2008 و2016، وفقًا للمريسي. وتشير تقارير هذا الموسم إلى انخفاض درجات الحرارة في المناطق الجبلية مثل صعدة، عمران، صنعاء، ذمار، البيضاء، وإب، إلى أقل من درجة مئوية تحت الصفر، مع زيادة نسبة الرطوبة، مما زاد من تأثير الظاهرة، وأدى إلى دمار واسع في مزارع القات والخضروات. 
 

السموم والأسمدة كمحفزات للكارثة

 
ظاهرة "الضريب" لا تنتج فقط عن عوامل طبيعية كما يعتقد الكثيرون، بل تتفاقم بسبب ممارسات زراعية خاطئة تُضعف النباتات، وتجعلها أكثر عرضة للتأثر، بحسب الخبراء في الزراعة والفلك. إذ أدى اعتماد المزارعين على الأسمدة والسموم بشكل مفرط إلى تحويل زراعة القات إلى صناعة تعتمد على تقنيات كثيفة، وأحيانًا مدمرة، كما يفيد المزارع صادق ناصر، في حديثه لـ"النداء"، مشيرًا إلى أن "المزارع يتحمل جزءًا كبيرًا من المسؤولية عن تفاقم تأثير الضريب، بسبب الجهل بخطورة استخدام الأسمدة والسموم، وخاصة في فصل الشتاء. السماد الأبيض والأسمدة المحتوية على النيتروجين، مثل السماد الحديدي، تجعل المزروعات أكثر هشاشة أمام الصقيع". مؤكدًا بأن مزارعه التي "لم تستخدم فيها الأسمدة والسموم لم تتعرض لأي أضرار منذ بداية أكتوبر وحتى اليوم، بينما احترقت كل الحقول المجاورة في وادي الأجنب بالرضمة".
ضريب القضب
ويتفق معه الخبير الزراعي محمد الكبسي، الذي ينصح بتجنب استخدام الأسمدة وذبل الدجاج خلال هذه الفترة، وعدم رفع الأغطية عن المحاصيل في ليالي "قران الـ15"، وغيرها من الفترات التي تشهد الصقيع. مشددًا على أهمية تجنب السقي خلال هذه الأيام الباردة. 
 

تحذيرات وتدابير يائسة

 
حذّر فلكيون وخبراء زراعيون، في بعض ليالي نوفمبر وديسمبر الماضيين، من موجات البرد القاسية، وحثّوا المزارعين إلى استخدام الأغطية الزراعية. ومع ذلك، لم تكن هذه التدابير كافية لحماية المحاصيل في العديد من المناطق الأشد برودة، خصوصا في الموجات مثل ما يُعرف زراعيًا بـ"ليالي مقرانة الخمستاعشر"، و"برد الوقوف"، وغيرها من الفترات ذات الطقس القاسِ في الأشهر الزراعية، حيث تتدنى درجات الحرارة إلى أقل من درجة مئوية واحدة تحت الصفر، مع نسبة رطوبة مرتفعة تصل إلى 35%، طبقا للباحث الفلكي يحيى المريسي.
ورغم هذه التحذيرات والتدابير، شهد المزارعون ليالي قاسية كليلة 13 نوفمبر الماضي، وليلة 6 ديسمبر، وليلة 18 ديسمبر، على سبيل المثال، احتراق عشرات الحقول المزروعة بالقات والخضروات في محافظة ذمار (مديريات الحداء، جهران، وعنس) ومناطق أخرى مثل صنعاء، عمران، والضالع، حيث انخفضت درجات الحرارة إلى مستويات متدنية للغاية مع نسبة رطوبة تراوحت بين 20% و35%، ودرجة تكثيف بين -5 و-10، وفقًا لتقارير الفلكيين. الضريب لم يقتصر على منطقة معينة، فقد ضرب مساحات شاسعة من المزارع تمتد من وادي عقار بمحافظة عمران إلى وادي قراوة بمنطقة مريس بمحافظة الضالع. حيث ينشر المزارعون صورًا لمزارعهم المتضررة، مع تعليق يقول: "الضريب اليوم في (اسم المنطقة)...".
ضريب البطاطا
في السنوات الأخيرة، وجد المزارعون أن الإجراءات المعتادة، كاستخدام الأغطية البلاستيكية، لم تعد كافية لمواجهة قوة الضريب. لجأ المزارعون إلى مضاعفة الأغطية، وغيروها بمختلف الأنواع، واضطروا إلى إشعال النيران والتعكير لتدفئتها وحمايتها من الطل. البعض جرب استخدام المراوح لتجفيف الطل، وهي تقنية أثبتت نجاحها في بعض المناطق مثل دماج بمحافظة صعدة، لكنها فشلت في مناطق أخرى بسبب اختلاف الظروف المناخية.
مع ذلك، وبغض النظر عن تفاوت تأثير هذه التدابير، فإن تكاليفها المقدرة بملايين الريالات تظل باهظة، ولا يستطيع الجميع تحملها.
 

لا أشجار محمية

 
تعد شجرة القات من بين أكثر الأشجار المقاومة لقسوة الطقس وتقلباته، لكن مع ازدياد قسوة الضريب، لم تعد محمية، وأصبحت مؤخرًا ضمن أبرزها تضررًا، كما يقول المزارع محمد قاسم، من منطقة الشعيب: "اعتدنا على موجات برد خفيفة، لكنها كانت تمر بسلام على القات. أما الآن، فإن الضريب يحرق القات وكأنه سكب عليه زيتًا مشتعلًا".
تتفاقم الكارثة سنويًا، مع تزايد اعتماد آلاف اليمنيين على زراعة القات كمصدر رئيسي للدخل، خصوصًا مع انقطاع الرواتب منذ عام 2016، وغياب الفرص الاقتصادية. وبحسب دراسة حديثة، يمثل القات مصدر رزق رئيسيًا لأكثر من نصف مليون أسرة يمنية، حيث يغطي 167 ألف هكتار من الأراضي الزراعية، ويشكل 33% من الناتج الزراعي في اليمن. ومع ذلك، فإن تعرض هذا المحصول للضريب يهدد الأمن الاقتصادي المحلي للمزارعين بشكل مباشر وكارثي.
 
اغصان القات بعد تأثرها بالضريب
بات تأثير الضريب على مزارع القات يغطي على انعكاساته وتأثيراته الفادحة على المحاصيل الزراعية الأخرى والأساسية كالخضروات والحشائش، حسبما يشكو محمد الوجيه، وهو أحد مزارعي الخضروات المتضررين، ويروي تجربته قائلًا: "مزرعة الكوسا الخاصة بنا كانت في منتصف عمرها، والمحصول خلقة الله. لكن الضريب أتى على كل شيء، وأحرق الأوراق بالكامل، ويبس الغرس تمامًا. ولم نجد شيئًا نبيعه في السوق".
وفي 6 ديسمبر الماضي، كانت مزرعة البطاطا التابعة للمزارع أحمد القاضي، في منطقة عاثين، مديرية ضوران آنس بمحافظة ذمار، ضحية للضريب الذي صاحبته درجات حرارة منخفضة ونسبة رطوبة مرتفعة ورياح باردة. يقول القاضي: "خسرت نصف مليون ريال تقريبًا على هذا الموسم في مزرعة كانت تنتج نحو خمسة أطنان من البطاطا". وحسب تقديره وفقًا لأسعار اليوم، كان من الممكن أن يجني منها أكثر من مليوني ريال، لكنه يقول: "قدر الله وما شاء فعل".
منصور الضراب، مزارع آخر من يريم، عانى من نفس الكارثة في اليوم ذاته، إذ نشر صورًا لمزرعته "البطاطا" المحروقة في صفحة زراعية على "فيسبوك"، للإبلاغ عن حجم الخسائر.
وفي 18 ديسمبر، وصل الضريب إلى مناطق جديدة لم تشهد هذه الظاهرة من قبل. المزارع صفوان مريط، من الحيمة، قال: "في الليلة الماضية، ضرب الضريب الحقول، حتى إن محصول القضب لم يسلم. الكارثة امتدت إلى مناطق لم نكن نتوقعها".
 

الضرائب تضاعف المأساة

 
الأضرار لا تتوقف عند حدود الحقول الزراعية، بل تمتد إلى الأسواق والمستهلكين. في أسواق صنعاء، ارتفعت أسعار القات بنسبة 300% بسبب نقص الإمدادات. يقول تاجر القات عبده أحمد: "الناس يشكون من ارتفاع الأسعار، والزبائن مفلسون، لكننا نحن التجار أيضًا نعاني. ليس لدينا ما نبيعه..".
عبده احمد, بائع قات في صنعاء  احد المتضررين جراء الضريب
بجانب خسائر الضريب، يعاني المزارعون وتجار القات، من أعباء الضرائب الباهظة المفروضة عليهم. يروي صدام عبده، تاجر قات: "دفعت ضرائب تتجاوز قيمة المحصول نفسه، وفي النهاية، تلف القات أثناء نقله بسبب التأخير في نقاط التفتيش". "نحن نواجه عدوين: الضريب والضرائب. كلاهما يحرقنا، لكننا لا نملك سوى الصبر". بهذه الكلمات يلخص المزارع عبدالله السالمي مأساة آلاف المزارعين في اليمن.
في مواجهة هذه الكوارث، طالب المزارعون الجهات الحكومية والمنظمات الدولية بتقديم دعم حقيقي، كـ"إعفاء المزارعين من الضرائب مؤقتًا، وتقديم تعويضات مالية عن الخسائر، ودعم تقنيات زراعية مبتكرة، مثل أنظمة التدفئة والأغطية الحرارية".
 

تجارب دولية: ماذا نتعلم من الآخرين؟ 

 
في دول أخرى ذات ظروف مناخية مشابهة، مثل المغرب والأردن، تم اعتماد تقنيات متقدمة لحماية المحاصيل من الصقيع. تشمل هذه التقنيات: البيوت البلاستيكية المدفأة، أنظمة الري الدافئ، وأجهزة الإنذار المبكر: لتنبه المزارعين إلى أي تغيرات مفاجئة في الطقس، مما يمنحهم وقتًا لاتخاذ التدابير اللازمة. ورغم أن تكلفة هذه الحلول قد تكون مرتفعة، وفق مختصين، إلا أن تطبيقها بشكل تدريجي في اليمن قد يسهم في تقليل الخسائر وإنقاذ المحاصيل.
مع تزايد تأثيرات التغير المناخي على الزراعة في الدول النامية، يصبح دور المجتمع الدولي أكثر أهمية. يقول الباحث الاقتصادي عبدالله المقطري: "يجب على المنظمات الدولية التدخل لدعم المزارعين اليمنيين. هذه الكوارث ليست محلية فقط، بل هي نتيجة لتغيرات عالمية في المناخ".
واقترح المقطري إنشاء صندوق دعم دولي مخصص لمواجهة الكوارث الزراعية في اليمن، يهدف إلى توفير التمويل اللازم لتطبيق تقنيات حديثة وبناء بنية تحتية زراعية مستدامة.
"الضريب القاتل" ليس مجرد ظاهرة طبيعية، بل هو جزء من أزمة أوسع تهدد الزراعة في اليمن. وما لم تتدخل الجهات المعنية سريعًا، فإن "الضريب القاتل" قد يُكتب عنه الكثير، لكن لن يبقى مزارعون ليقرؤوه. وبينما ينتظر المزارعون الدعم، تظل صور المزارع المحترقة تتوالى، شاهدة على كارثة لم تكتب فصولها الأخيرة بعد.
 

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً