اقترن فصل " الخريف" في اليمن بالوفرة واكتمال السنة الزراعية: السيول وموسم قطف الأعناب. قديمًا كانت "واين" هي الاسم الأبجدي لشجرة العنب في اليمن. اليوم لم تعد العنب سوى فاكهة.
يا جانيات العناقيد
طاب العنب طاب يا غِيد
والله لا سامر الجيد
لوما تغيب المضية
شَمّ الزهور الزكية
في سفح صنعاء الأبية
وفي حقول الرعية
حيث البدور المضية
يا قمرية في جُبا الدار
محبوب قلبي صلين سار
قالت: نزل يجني اثمار
من الحقول الندية
كيف استطاع الفنان أحمد السنيدار أن يصوغ هذا اللحن الفريد ليتماشى مع موسم الخريف ضمن تحليق مكثّف للذات اليمنية في الأعالي.
وهل كان الشاعر محمد بن محمد الذهباني يطل من النافذة الشرقية لمفرج دار الحجر على سقائف العنب في وادي ظهر، وهو يكتب هذه اللوحة بكل هذا الشغف: شغف العاشقين في مواسم القِطاف والجني.
أغسطس/ آب هو ذروة الشهور والمواسم، وفيه تتدفق السيول من جبال السراة على السهول الغربية بالموازاة مع غمرة الأعناب وتدفقها على الأسواق اليمنية.
ارتبطت شجرة "العنب" بالوجود اليمني بكل تعبيراته عبر العصور: بالزراعة والثقافة وطقوس العبادة وبحفلات الملوك وحروبهم.
هكذا رافقتهم. ولم يكن توثيقها بالرسم الأحفوري على الألواح والصخور: عناقيدها وأوراقها وخمرتها، عملًا فنيًا عارضًا أو هامشيًّا. بل هي شجرة الخلود في نصوص ومتواليات الميثولوجيا الدينية.
ذهب كثير من المفسرين إلى القول إنها الشجرة التي أكل منها آدم، فأُخرج من الجنة.
ويرد وصف الجنات في الكتب السماوية، متضمنًا ثمرة العنب كأبرز صنوف الفاكهة: "جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعًا،" "ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون..."، "وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب"، "حدائق وأعنابًا".
و"شجرة العنب" في العهد القديم هي أول شجرة غرسها الإنسان. وجاء في الكتاب المقدس "أن نوحًا غرس كرمًا".
اهتم ملوك اليمن عبر العصور بشجرة العنب اهتمامًا فريدًا، إذ كان ارتباطهم بها وثيقًا ضمن تمثيلٍ روحي آخذ بشدة طابع القداسة. وتتدلى عناقيد شجرة العنب وأوراقها في كثير من نقوش وأعمدة القصور والمعابد القديمة بكثافة.
في نص "ترنيمة الشمس" الفريد المكتشف سنة 1973 في مديرية ردمان ـمحافظة البيضاء، وردت لفظة "واين" في متن القصيدة، مقرونة بـ"مزْر"، وهو لفظ معناه في المعجم السبئي "نبيذ".
هكذا ورد شطر "الترنيمة":
"وين مزر كن كشقحك" الذي يترجم إلى: "والعنب صار خمرًا عندما سطعت".
وبما أن قصيدة ترنيمة الشمس نقش أدبي فريد، فإن الترنيمة "تضعنا من أول وهلة في جو طقوسي تعبدي ملؤه الابتهال والضراعة إلى المعبود"، وفقًا لتوصيف مجلة "نزوى" العمانية.
والمثير إذ نكتشف أن مشروب العنب كان مظهرًا أساسيًا حاضرًا بقوة ضمن طقوس العبادة.
"ذات مزر" آلهة النبيذ في العهود القديمة لسكان جنوب شبه الجزيرة، وقد وثقته الحكومة اليمنية قبل أربعة عقود، وثبتته على ورقة العملة النقدية من فئة عشرين ريالًا.
الجزء الأكبر من منحوتة "ذات مزر" معروض ضمن المقتنيات الفريدة لمتحف "والترز" للفنون التابع لولاية ميرلاند الأمريكية، مجلوبًا من اليمن. والجزء الآخر من هذه المنحوتة موجود في المتحف البريطاني (يعود تأريخ تلك القطع إلى منتصف القرن الثاني قبل الميلاد).
توصف اليمن بـ"أرض الجنتين" لوفرة هذه الثمار. كما أن تسميات "جنة ـ جنات ـالجنات" تتكرر في مواضع عديدة داخل قيعان الهضبة العليا من اليمن ذات التربة الأكثر خصوبة في البلاد، حيث أجود مزارع الأعناب وأكثرها زراعة. وهناك نجد: وادي الجنات -وادي ظهر -وادي النعيم -الجنات -وادي السر -شبام الغراس -ووادي الأعناب.
وفي قصص القرآن تعددت هذه الأمثال المستقرة لدى المفسرين والإخباريين، بأنها في اليمن: "واضرب لهم مثلًا أصحاب الجنة"، والمكان تحديدًا كما تشير الروايات، يقع ضمن نطاق القاع الزراعي المتاخم لصنعاء على حدود مديرية أرحب الغربية مع همدان وعيال سريح. وهي مناطق زراعية لاتزال تجود بأجود أنواع العنب: العاصمي والرازقي والبياض والجبري وغيرها.
كما أن "جنى" و"يجني أو يجنون" و"جنات" مفردات ذات أصل اشتقاقي واحد. وفي موسم الخريف (قطاف الأعناب وجني عناقيدها) كان سكان مدينة صنعاء -من ضمن عوائدهم- يخرجون إلى الأرياف القريبة "يخترفون"؛ إذ يقولون بلهجة صنعاء: "نخرج نخترف" في موسم حصاد الأعناب.
هذه العادة لاتزال سارية لدى كثير من البيوت الأرستقراطية الصنعانية. ومعلوم أن الإمام يحيى شيّد لنفسه قصرًا جميلًا في مدينة "الروضة"، ينتقل إليه صيفًا ضمن سياق هذه العادة الصنعانية، حيث إن أعناب "الروضة" تتمتع بمذاق فريد شديد الحلاوة، ولاتزال منطقة الروضة تحتفظ بهذه الفرادة، ولكن في نطاق محدود للغاية بعد انحسار مساحة الأرض الزراعية تحت زحف العمران (الروضة اليوم أصبحت ضمن نطاق مدينة صنعاء، وكانت إلى قبل 30 عامًا تبعد عن مدينة صنعاء القديمة حوالي 10 كم شمالًا).
ولم تكن مزارع الأعناب في اليمن مقصدًا أثيرًا لسكان المدن والتجمعات الحضرية القريبة منها فقط، إنما كان موسم "الخريف " في اليمن يستجلب الكثير من السوّاح وهواة الأسفار وكبار الشعراء الجاهليين مثل: طرفة بن العبد والأعشى وحاتم الطائي.
كان الشاعر الأعشى يأتي من "منفوحة" في اليمامة (وسط نجد) إلى مدينة "خَمِر" في هذا التوقيت.
وكانت قوافل "قريش" تقصد اليمن في رحلاتها التجارية على وقع موسم حصاد أعناب اليمن.
وذكر أبو الحسن الهمداني في كتابه "صفة جزيرة العرب"، أن الشاعر الجاهلي الأعشى (المعروف بأبي بصير) كان يقصد اليمن في موسم جني العنب، وأنه كان يمتلك معصرة "نبيذ" خاصة به في قرية "أثافت" القريبة من مدينتي "خَمِر" و"الخُمري" (على بُعد 90 كم شمال صنعاء وإلى الجنوب من صعدة).
و"أثافت" كانت قرية عامرة بالحياة تكتسيها ملامح التحضر والرفه، وظلت على هذه الحال حتى القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) عندما تعرضت المدينة للخراب على يد الإمام أحمد بن سليمان، وفقًا للمؤرخ المقدسي الذي قال أيضًا عن "أثافت" بأنها كانت ثالث محطة تمر بها قوافل الحجاج اليمنيين بعد صنعاء وريدة.
تتوسط "أثافت" وديان زراعية خصيبة وقيعان فسيحة شهيرة بزراعة العنب بأصنافه: ذيبين -البون -وادي خيوان -وادي دنان -الغولة -دماج -الصفراء وصعدة.
قال الأصمعي: وقفت باليمن على قرية فقلت لامرأة: بم تسمى هذه القرية؟
فقالت: أما سمعت قول الأعشى:
أحب أثافت وقت القِطاف
وعند عصارة أعنابها
ويذكر مؤرخ اليمن الأكبر أبو الحسن الهمداني أن "أثافت" كانت تسمى في الجاهلية "درنا"، وهي نفسها التي يقول فيها الشاعر الجاهلي الأعشى:
أقول للشرب في درنا وقد ثملوا
شِيموا وكيف يشيم الشاربُ الثَمِلُ
اشتهرت القصور والمدن اليمنية ببساتينها وحدائقها، وكانت نوافذ قصر غمدان تطل على بستان فسيح وفير العنب.
ومعروف أن وادي ظهر (شمال غرب صنعاء) أحد أفضل أودية الأعناب في اليمن. وما حكاية القصر الفريد المبني على الصخر والمعروف بدار الحجر، سوى قصر صيف تعاقب عليه الملوك والأئمة والأمراء منذ القدم، وصولًا إلى تجديداته في زمني المنصور علي (مطلع القرن التاسع عشر) والإمام يحيى حميد الدين (ثلاثينيات القرن الفائت).
والعجيب أن تاريخ الحضارة اليمنية بملوكها وقصورها ومعابدها ومآثرها الفريدة، يكاد يندثر، بينما ظلت شجرة "العنب" صامدة كتعبير وطني راسخ ينتمي إلى الأرض، ويرمز إلى هويتهم الواحدة.
العنب من النباتات المزروعة على نطاق واسع من العالم. ويعتقد البعض أن منطقة بلاد الشام هي الموطن الأصلي لهذه الشجرة قياسًا على أن ملوك الأنباط كانوا شديدي الولع بنبيذ "الكروم"، إذ أظهروا براعة فائقة في حفر صور عناقيد العنب على الألواح الحجرية. غير أن الاكتشافات الأثرية الحديثة من خلال النقوش قد تغير هذا الاعتقاد لتجعل اليمن هي الموطن الأول لشجرة العنب.
قبل سنتين عثر أستاذ التاريخ والحضارات القديمة بجامعة الحديدة الدكتور علي محمد الناشري، على نقش فريد محفور على صخرة بالقرب من "كريف" ماء في مدينة "سحار" شمال مدينة صعدة (24 كم) المشهورة بزراعة العنب والرمان.
يتضمن النقش ويحتوي على دلالات زراعية وثقافية واضحة، "حيث يذكر لأول مرة مزارع العنب وطرق ريّها والحفاظ عليها في حوالي القرن السادس قبل الميلاد، فضلًا عن ذكره لأسماء أماكن جديدة تقع في قاع سحار بصعدة"، كما يشير الباحث.
باشر الدكتور الناشري تحليل "النقش" الذي يعود إلى القيل يكرب إيل الموهبي، ويتألف من 15 سطرًا (فقرة) على هذا النحو:
1. يكرب إيل من بني موعب
2. أصلح أرضه الزراعية وأنجز كريف الماء
3. (المسمى) روين (وذلك) لسقي مزارع أعنابه
4. ذي البكر بموضع ضرايم الذي بين المدينتين
5. القحمة والفشغ (وتم ذلك) بعون ومقام
6. (المعبود) عثتر صاحب (معبد) صبر
7. من أجل سلامته وسلامة أهل
8. بيتهم/ قصرهم وليمنحه أثمار
9. الأعناب وغراسه من اليبند
10. بمزرعة الحظيرة
11. الأعناب وكريف الماء وضعهم في حماية
12. عثتر صاحب صبر
13. من كل نكاية وبأس
14. وأذى قد يلحق بذلك الكريف
15. ومراعي (الأنعام) وحماية مزارع القمح (المرجع: مجلة جامعة صعدة العلمية المحكمة، المجلد الأول، العدد الأول، يناير/ يونيو 2022).
يزرع العنب في اليمن ضمن مناخ جبلي معتدل البرودة. ولكن مزارعه الوفيرة تقع ضمن نطاق مديريات محافظة صنعاء: بني حشيش وخولان وبني الحارث وسنحان وهمدان وأرحب.
وتمتد زراعته شرقًا إلى جبل مراد في مأرب، وشمالًا إلى صعدة ونجران على نحو أكثر كثافة.
ولأنه من المحاصيل الزراعية الحساسة، فإن زراعة العنب تتطلب أقصى درجات الاهتمام والرعاية ضمن مراحل زراعته المعقدة، ووفقًا لقواعد وإجراءات منطقية قائمة أساسًا على العلم والخبرة.
وعلى خلاف بقية محاصيل الفواكه، فإن التعامل مع شجرة العنب من لحظة البداية: سواء عبر البذر أو الغرس، مرورًا بمواسم "البقيس" والسقي والتعريش والقطف، وصولًا إلى التجفيف، يستدعي مراعاة الكثير من التدابير الضرورية المعقدة: يجب أولًا أن تكون المساحة المخصصة لزراعة العنب واسعة وخالية من الأشجار الضخمة، وأن تكون منبسطة ومشمسة وذات تصريف جيد. ويفضل بعض خبراء زراعة العنب في محيط صنعاء أن تزرع على انحدارات مواجهة للجنوب (الجهة العدنية) لحمايتها من قرصة الصقيع.
هذا الإجراء المميز -ضمن التدابير الاحترازية من البرد- يجيب على التساؤلات الوجيهة لدى كثير من الناس: لماذا لا يزرع العنب في قيعان بني مطر الواسعة القريبة من صنعاء، بينما يزدهر ويترعرع ويطيب في بلاد خولان وبني حشيش ووادي ظهر وغيرها؟
"بني مطر" أو بلاد البستان من أكثر المناطق الزراعية ارتفاعًا في اليمن والجزيرة، ولا يلائم طقسها البارد البنية الرقيقة لشجرة العنب التي تبحث عن أماكن أكثر دفئًا.
ويعتبر "العنب" من الأشجار المعمّرة التي قد يمتد عمرها مائة عام. لذلك نجدها في كثير من المناطق مذكورة في البصائر القديمة الخاصة بالأرض، حاضرة بشخصيتها الاعتبارية بصورة مستقلة.
وهي من النباتات المعترشة والمتسلقة، إذ لا بد من تعريشات وقوائم حدائقية متناسقة كي تتمدد الشجرة فوق أعوادها وأعمدتها، وتنمو في امتدادات طولية تصل في أقصى الحالات إلى 17 مترًا.
ومثلما أن للعنب خصوصياته الزراعية والمناخية، فإن له مواسمه وعاداته. فالموسم المناسب لزراعته هو أواخر فصل الشتاء. وفي ذلك يقول علي ولد زايد:
قبس العنب في حَدَعشر
والسبع تبدي كرومه
وتفسير هذه القاعدة الزراعية أن تقليم أو قطع زوائد العنب يجب أن يتوافق مع شهر قراني يوافق بدايته من 8 يناير 26 كانون الأول، وينتهي في 3 فبراير 21 كانون الثاني، وفقًا للخبير الزراعي يحيى بن يحيى العنسي.
وتتفاوت المواقيت الخاصة بزراعة و"تقبيس" وقطف الأعناب من منطقة لأخرى في اليمن، وفقًا للظروف البيئية والمناخية، رغم التقارب المكاني بين منطقة وأخرى. "فالوضع في خولان العالية وبني حشيش وسنحان يختلف عن أرحب وخارف. وكذلك الحال في همدان أو في صعدة ونجران اللتين يتأخر فيهما موسم حصاد العنب".
يحتاج العنب إلى وفرة مياه، كما أن عملية سقيه يجب أن تمضي وفقًا لسلسلة من الخطوات والمواعيد الدقيقة. فهو لا يقبل الإرواء العشوائي القائم على الارتجال.
وفي منطقة بني حشيش يقول المثل:
سقي العنب في خروجه
وحين تحت الثريرة
وحين يُشرّع يكوكب
وحال ساعة قطيفه
ومن الأمثال المعززة لهذه القواعد الزراعية الثابتة، قولهم:
كل المذاري لها اصياب
أما العنب صيبه الماء
والعنب من الفواكه التي لا تنضج بعد قطفها، لذلك يفضل التأكد من نضجه واستواء جودة مذاقه. إذ إن الاستعجال بالقطف يعرض المزارعين إلى خسائر فادحة.
ويتميز محصول العنب عن غيره من الفواكه باستمرارية جدواه الاقتصادية، إذ "لا يذهب فائضه إلى الإهلاك، فمعظم أصناف الأعناب -باستثناء العنب العاصمي- تتحول إلى زبيب".