بانتظار الموت، يعيش العشرات من اليمنيين العالقين في قطاع غزة، ويلات الحرب الصهيونية الأكثر وحشية في التاريخ الحديث، وبمشاعر تزدحم بالذعر والقهر والحرمان، يتعلقون بأمل ضعيف بالنجاة وإجلائهم من القطاع، لكن محاولات الحكومة اليمنية لإنقاذهم، تصطدم بعقبات دبلوماسية وسياسية، وتفتقر للشعور الكافي بالمسؤولية تجاه رعايا الدولة.
يروي هذا التقرير قصصًا مؤلمة ليمنيين يعيشون في قطاع غزة المحاصر والمنكوب. منذ ما يزيد عن مائة يوم، يواجهون معاناة مضاعفة، وصعوبات كبيرة، عجزوا معها عن الحصول على الغذاء والماء والدواء والمأوى، والأمان.
يُقدر عدد اليمنيين في قطاع غزة بنحو 85 شخصًا، معظمهم من أبناء الزيجات المختلطة بين اليمنيين والفلسطينيين. حصلت "النداء" على كشوف بأسماء عدد منهم، وغالبيتهم من النساء والأطفال، وتلقت مناشدات من آخرين يعيشون في العراء وداخل مخيمات مهترئة في خان يونس ورفح. بعضهم دخلوا قطاع غزة قبل نحو تسعة أعوام هربًا من الحرب اليمنية، لكنهم يعيشون اليوم في ظروف مأساوية، ويفتقرون لأبسط مقومات الحياة.
أحد هؤلاء هو عبدالله الأشطل، الذي يقيم في القطاع منذ العام ٢٠١٥، مع زوجته الفلسطينية وأبنائه الثلاثة. يقول: "الوضع كارثي، لا أستطيع وصفه، أناملي ترتعش وأنا أكتب إليك، قطعت مسافة طويلة حتى ألتقط إشارة الإنترنت لأبعث مناشداتنا وصرخاتنا التي ربما تكون الأخيرة".
البرد القارس يفتك بهم، ومثله الجوع والعطش، والأمراض والأوبئة، فضلًا عن وضع نفسي متدهور للغاية جراء مشاهد الرعب والقتل. ويقول عبدالله إن الدماء والدمار يحيطان بهم من كل جانب، وأن صوت الطائرات والانفجارات لا يكاد يتوقف.
حين يصير القبر حلمًا
ليس عبدالله وحده من يعاني من هذه المأساة، بل هناك آخرون يروون قصصًا مؤلمة أيضًا. "س.ع"، وهي يمنية متزوجة من فلسطيني، فقدت زوجها في نوفمبر الماضي، بغارة إسرائيلية على مدينة غزة، فنزحت مع طفليها (بنت 12 عامًا، وولد 8 سنوات) إلى مخيم في خان يونس، لا يقيهم برد الشتاء، ولا يتوفر فيه طعام أو شراب. وعدا ذلك يعاني طفلاها من اضطرابات نفسية شديدة، ويعيشان حالة من الاكتئاب والهلع منذ استشهاد والدهما، وما لحق بعد ذلك من مشاهد مروعة لجثث مرمية على الطرقات، وأشلاء متناثرة لضحايا القصف الإسرائيلي الهمجي.
برد الشتار وامطاره يضاعفان معاناة النازحين في مخيم برفح (أ ف ب)
رعب يهشم براءة الأطفال ويحيل أحلامهم إلى كوابيس بشعة يندى لها جبين الإنسانية، الغائب بصورة لم يشهد لها العالم مثيلًا من قبل.
قالت المرأة الأربعينية لـ"النداء" إن طفلتها كتبت اسمها على يدها اليسرى وقدمها اليمنى، كي يتم التعرف على جسدها بعد الموت. الموقف موجع حد البكاء، لكن الأكثر إيلامًا من ذلك، أن احتمالات الموت ببشاعة واردة في مخيلة الطفلة، الأمر الذي دفعها لكتابة اسمها على اليد والقدم من خلاف، لجمع أشلائها ودفنها في قبر واحد.
أما الأمهات فلم يعدن يخشين الموت الذي استعددن له بملابس تستر أجسادهن طوال الوقت، لكن وجعهن مضاعف على أطفالهن الذين يعانون ويلات الخوف والبرد والجوع.
حياة على هامش النسيان
يحلم الشاب حسان المعمري، بأن يأتي اليوم الذي يجد نفسه في اليمن، بلده الذي سمع عنه الكثير، لكته لم يره من قبل. حسان، ١٦ عامًا، ولد في غزة من أب يمني، وأم فلسطينية، أجبرته الحرب وأسرته على الفرار، وهو حاليًا محاصر في أحد المخيمات داخل مدينة دير البلح.
حياة قاسية في مخيمات النزوح بخان يونس (وكالات)
يقول حسان إنهم يعيشون بلا مأوى، في ظل ظروف قاسية للغاية. ويضيف: "نحصل على ٥ كيلو من الطحين بعد ساعات طويلة من الزحام والبهذلة، ونجمع الحطب لعمل الخبز، لكننا لا نسلم من التنمر والاعتداءات علينا داخل المخيم، والسطو على خبز أمي قبل أن تنتهي من تحضيره".
ويتابع: "الحرب والمجاعة جعلتا البعض هنا يستقوون على البسطاء والأجانب، إنهم يستغلون ضعفنا وغربتنا، ولا نجد من يساعدنا أو يحمينا".
لا يملك حسان جواز سفر يمنيًا، ولا هوية فلسطينية. يقول بيأس وأسى شديدين: "أنا لا أنتمي إلى أي مكان، لا إلى اليمن ولا إلى فلسطين. أنا مجرد إنسان ينتظر الموت على هامش النسيان".
مناشدات مستمرة
منذ ثلاثة أشهر، يحاول علي خالد، يمني متزوج من فلسطينية، إيصال أصوات اليمنيين العالقين في قطاع غزة، إلى الجهات المسؤولة في الحكومة اليمنية، وزود الخارجية اليمنية والسفارة اليمنية في القاهرة بأسماء وبيانات اليمنيين العالقين في غزة، ووجه مناشدات لسرعة إنقاذهم، لكنه اليوم بات يشعر بالخيبة والإحباط، وخذلان الجميع، بما في ذلك الإعلام، حد تعبيره.
طوابير طويلة ومرهقة للحصول على وجبة طعام (وكالات)
يقول علي في حديثه لـ"النداء": نشعر بالقهر كل يوم ونحن نرى رعايا عدد من الدول يغادرون هذا الرعب الذي نعيشه، بعد تدخل مباشر وقوي من قبل حكوماتهم، بينما نحن عالقون دون أفق، ودون اهتمام من قبل حكومتنا التي تتعامل مع قضيتنا ببرود تام". ويضيف: "اثنتان من شقيقاتي فقدتا زوجيهما، خلال الأسابيع الماضية، ومطلع الأسبوع الحالي، فقدت إحداهن أطفالها بغارة إسرائيلية".
وفقًا لخالد، يزحف الموت نحو من تبقى من أفراد أسرته رغم فرارهم إلى مدينة رفح. "من وقت لآخر نفقد عددًا من أطفالنا وأقاربنا، الموت يحاصرنا من كل اتجاه، والجيش الإسرائيلي بات على مقربة من مخيمنا في رفح، فمتى تتحرك الحكومة اليمنية لإنقاذنا؟".
جهود حكومية
تقر الحكومة اليمنية بتلقيها مناشدات من العالقين في قطاع غزة، وتقول إنها أولت هذا الملف اهتمامًا عاليًا، ومازالت تبذل مساعي دبلوماسية لإجلاء الرعايا.
ويشرح المستشار الإعلامي في السفارة اليمنية في القاهرة بليغ المخلافي، الجهود الحكومية التي بذلت لإنقاذ الرعايا اليمنيين في غزة، سواء عبر الخارجية اليمنية، أو من خلال تحركات السفارة اليمنية في القاهرة.
ويوضح المخلافي، في حديثه لـ"النداء"، أن السفارة أعدت كشوفًا بأسماء العالقين في قطاع غزة، وعددهم 85 شخصًا (37 شخصًا يحملون الجنسية اليمنية، و48 يحملون وثائق فلسطينية وتربطهم علاقة من الدرجة الأولى بحاملي الجنسية اليمنية هناك -أزواج أو زوجات أو أبناء- ممن لم يحصلوا على الجنسية اليمنية بعد).
ويضيف: نتواصل بالعائلات اليمنية العالقة في غزة، ورفعنا ملفهم إلى الحكومة التي تواصلت عبر الخارجية مع الأشقاء في قطر للتدخل كوسطاء مع الجانب الإسرائيلي لإجلاء الرعايا اليمنيين، على اعتبار أن اليمن لا يمكنها مخاطبة إسرائيل لانعدام العلاقة بينهما. ولاحقًا تواصلت الخارجية اليمنية مع الخارجية الأردنية لذات الهدف، لكن التعنت الإسرائيلي حال دون السماح بإجلاء الرعايا اليمنيين.
ويوضح المخلافي أن السفارة اليمنية في القاهرة سلمت المعنيين في جمهورية مصر العربية كشفًا بأسماء العالقين في قطاع غزة من حاملي الجنسية اليمنية وعائلاتهم، لتسهيل إجراءات دخولهم عبر معبر رفح الحدودي، واصطدمت جهودها بتعنت إسرائيلي.
ويقول إن هناك مساعي بذلتها السفارة اليمنية في القاهرة مع السفارة الفرنسية، وأن المشاورات مازالت مستمرة، معربًا عن أمله في تحقيق تقدم في هذا الملف. ويختم قائلًا: "ندرك صعوبة الأوضاع التي يعيشها اليمنيون العالقون في غزة، وستستمر السفارة في بذل جهود مضاعفة وصولًا لإجلائهم من القطاع إلى مصر، ومن ثم نقلهم إلى اليمن.
دعوة للمساندة
لم يعد لدى اليمنيين العالقين في قطاع غزة، مخزون من الصبر، مثلما هو الحال بالنسبة للصحة ومنسوب الأمل، وعلى الخارجية اليمنية ألا تكتفي بإرسال مذكرة بين الحين والآخر لدول وسيطة، كنوع من إسقاط الواجب. الأمر يتطلب جهدًا حقيقيًا وعملًا مكثفًا ودائمًا، وصولًا لإخراج اليمنيين العالقين في غزة، الذين يجب أن تكون حياتهم مقدمة على بقية الاهتمامات في الوقت الراهن.
ما ذكر في سياق التقرير قاسٍ، لكن ما هو على الواقع أقسى وأمرّ، وعلى المعنيين استشعار ذلك، ونجدة العالقين هناك. الأمر لا يحتمل التسويف ولا الخذلان أو أنصاف الجهود.
هي دعوة أيضًا للمنظمات الحقوقية والإنسانية، للتحرك وتوفير الدعم والمساعدة لليمنيين العالقين في غزة، وتسهيل إجراءات السفر والهجرة لهم، سواء إلى اليمن أو إلى أي بلد آخر، حيث يمكنهم العيش بكرامة وأمل.