في مطلع العام 1975 التقيت في القاهرة الدكتور محمد عبدالقادر بافقيه، في منزل استاذي الدكتور عبدالعزيز المقالح. كان حينها -كما أظن- سفيراً لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في مصر. وكان عائداً من فرنسا بعد طبع كتابه «تاريخ اليمن القديم». أهداني نسخة منه.
كان وزيراً للتربية والتعليم في الحكومات الأولى للجبهة القومية في الجنوب.
في اللقاء القصير نسبياً، وفيما بعد قراءة كتابه، أدركت أن المؤرخ بافقيه باحث عميق، وتعلمت منه كيفية التعاطي مع الوقائع والشخوص والآثار والنصوص. فهو ناقد، بعقلانية ومهارة فائقة، لتاريخنا الذي اختلط فيه الحابل بالنابل، وتعرض للطمس والتشويه والمبالغات الأقرب للخرافة.
قليلة إصدارات الباحث المهم الفقيد محمد عبدالقادر؛ ولكن مباحثه، على قلتها، ذات نفع عام، وأثر عميق، وقيمة علمية. فكتابه -رسالته للدكتوراه- الذي أعده في باريس، وطبع منتصف السبعينيات وأعاد المعهد الفرنسي للعلوم والآثار طباعته، يعد من المراجع التاريخية المهمة لظهور الدولة بل الدول اليمنية، ونشأة «يمن» في التاريخ. وقد مكنته معرفته باللغتين: الفرنسية والانجليزية، وإلمامه الواسع بخط المسند الحميري، وثقافته العربية، من قراءة مائزة للنقوش والتعليق عليها. وتتسم قراءته للنقوش بذكاء ومقدرة على تفكيك الرموز ووضعها في سياق منطقي مقنع وعقلاني.
كتابه القيم «في العربية السعيدة»، وهو دراسات تاريخية قصيرة في جزئين، يشهد على براعته وحذقه وسعة اطلاعه. فقد درس بعمق ظاهرة تقسيم العرب في المراحل الباكرة إلى شمالي وجنوبي! ويتساءل: هل كان «يمنة» اسماً لمكان أم اسماً لجماعة من الناس؟ وأين كانت مملكة نزار؟ ومن هم الميامنة؟ وما هي العناصر التي يتكون منها اللقب الملكي الحميري لقب «التبابعة»؟ ليصل إلى سؤال: «ما هو الإطار التاريخي لحضور حركة الحنفاء العرب قبل الإسلام؟». الجزء الأول إجابات دقيقة وصائبة على هذه الأسئلة. فهو يتتبع الإجابة من حروف المسند التي يتقنها، ومن المراجع والمصادر التاريخية الموثوقة، ومن الأشعار التي يأتي بعضها في الجزء الثاني، الذي تناول فيه «الحارث الرائش وكيف ومتى قامت صنعاء ومن أمر باختطاطها، وما هي العلاقة بين القَيْل والملك، وعن خاتم التبابعة، ومن هم أسلاف سيف ذي يزن، وعن ابرهة المكنى أبو يكسوم، وهل كان تبعاً».
تتسم دراسات وأبحاث المؤرخ الكبير بقدر كبير من التتبع والموضوعية والدقة، والبعد عن العصبيات المختلفة التي فرضتها عصور التدهور والتراجع ووظفها الحكام والأئمة الظلمة لأهواء أنانية وشديدة الضيق.
بعد الوحدة عُينّ رئيساً للهيئة العامة للآثار ودار الكتب، وأعلن عن حزب سياسي اسلامي بسم «المنبر» كان من أبرز مؤسسيه الفقيد الكبير عمر سالم طرموم، وهو من القيادات الاخوانية المؤسسة، وقد اعتقل في الجنوب مطلع الثمانينيات، ولولا تدخل صديقه الحميم عمر عبدالله الجاوي لقضي عليه. ودارت أحاديث عن قيادات الحزب الاسلامي المستنير ضمت محمد عبدالقادر بافقيه وربما فرج بن غانم وفيصل بن شملان. وأثناء لقاءاتي المتكررة معه كان يحجم عن الحديث عن «المنبر» الجديد، فهو أصلاً قليل الحديث في السياسة كثير التأمل والتفكير ويميل إلى الجوانب البحثية أكثر فأكثر.وسرعان ما ترك الهيئة وعاد إلى حضرموت.
الأثر الخالد والعظيم للباحث هو كتابه «المستشرقون وآثار اليمن». والكتاب يحكي قصة المستشرق السويدي الكونت كار لودي لندبرج، من خلال مراسلاته مع اليمنيين 1895- 1911، وهو في مجلدين فخمين صدر عن مركز الدراسات والبحوث اليمني.
قام الباحث بتحقيق الرسائل التي سبقه إلى نشرها الدكتور محمد عيسى صالحية في كتابه «تغريب التراث»، وهو ما يشير إليه بافقيه بموضوعية وتواضع جم. ولكن تحقيق بافقيه يمتاز بالتطرق إلى زوايا عديدة ما تزال حسب قراءته بحاجة إلى مزيد من إلقاء الضوء عليها. والحقيقة أن المحقق المدقق ذا الأمانة والمسؤولية الرفيعة لم يقف عند تخوم رسائل لندبرج، بل راح يدرس الفترة الزمنية بعمق، ويتتبع قصة سرقة ونهب المخطوطات والآثار، ونبش الارض، واستغلال جهل حكامنا بكنوز البلد وثرواتها شمالاً وجنوباً.
تُرى لو عاش الباحث وسمع وشاهد وقرأ ما يقوم به أبناء اليمن ومسؤولوها اليوم في العديد من المناطق، وتحديداً في العود والجوف، من تجريف للتربة، وحفر بالشيولات ليلاً لتخريب وتدمير كنوز ورموز صنعتها حضارة لا يزال صداها يرن في العهدين: القديم والجديد، وفي القرآن الكريم، وفي حضارات العالم…؟ لقد كان الأفاقون الاوربيون علماء ومتحضرين، ويعرفون جيداً قيمة ما يسرقونه، وإن اشتروه بثمن بخس. لكنهم كانوا حريصين على إعطاء تعليمات دقيقة للصوص المحليين في طرائق البحث عن الكنوز.
أما لصوص اليوم فإنهم يدمرون ما أمامهم، غير مبالين ولا عارفين بالقيمة العظيمة لما ينبشونه. ويقينا فإن مثل هذا الخراب العشوائي لا نتيجة له إلا تدمير حضارة لا تخص اليمن ولا العرب وحدهم وإنما تهم البشرية، ويقف مسؤولونا موزعين بين المشاركة الفعلية في الجريمة أو التواطؤ الصامت واللامبالي، مما يجعلهم شركاء في الجرم نفسه.
وقد تطرق الأديب الشاعر والقلم الرائع والشجاع نبيل سبيع، على مدى عدة أسابيع، للكشف عن جوانب معينة من هذا التخريب والنهب البدائي المتوحش لثروة لا يملكها جيلنا بأكمله. وتصدى الباحث منير عربش لهذه الجريمة البشعة، ولكنه لم يجد آذاناً صاغية، فهناك تواطؤ منظم بين جهلة اليوم الذين يخربون بدون وعي أو إدراك وبين مسؤولين لا يهمهم تاريخ البلد. ولعل ما قام به عربش هو الفعل الذي يترك أثراً في الدفاع عن الآثار اليمنية المستباحة.
قصة لندبرج وجدت في شخص الباحثين: صالحية، وبافقيه، خير موثقين لوقائعها وتفاصيل تفاصيلها. ولكن نهب مخطوطات زبيد منذ مطلع السبعينيات وبيعها لجهات حريصة كل الحرص على إحراقها، ونهب الآثار في العود، وفي مارب، والجوف… لا تجد من يؤرخ لها، باستثناء الجهد اليمني للدكتور منير عربش ودوي قلم سبيع! و«حامي الحميد بن منصور يشتي من الناس حامي».
حسناً فعل مركز الدراسات والبحوث بطبع الكتابين المهمين لبافقيه: «دراسات في العربية السعيدة»، و«المستشرقون وآثار اليمن». وكم هو مؤسف أن تقوم وزارة الثقافة في مرحلة سابقة بطبع أعمال لا أهمية معرفية أو إبداعية لها وتتجاهل مؤلفات هذا المؤرخ العالم، خصوصاً إذا أدركنا أن كتبه قد نفدت من المكتبات.
والشكر للمركز الفرنسي للعلوم الاجتماعية والآثار الذي أعاد طباعة كتابه «تاريخ اليمن القديم».