لا زحمة في مطار دمشق الدولي في ليالي أيار. وعندما تدلف بخطوة أولى نحو الداخل تواجهك صورة "الأسد" مباشرة، وتهيمن على المساحات كلها.
في تمام الساعة الواحدة و45 دقيقة بعد منتصف ليلة 8 مايو، كنت على متن طائرة البوينج المصرية التي هبطت ببدنها الضخم في مطار دمشق الدولي، بطريقة متهورة (2009).
صرخ بعض الركاب عندما اصطكت عجلات الطائرة بالأرض بقوة، محدثةً صوتًا رهيبًا يشبه الانفجار.
المدى الأفقي لمدرج المطار يبدو بعيدًا عن بوابة الوصول. وبعد دقيقة نبّهت المضيفة "السادة الركاب" أن يبقوا في أماكنهم "حتى تتوقف عجلات الطائرة عن الدوران".
في حقيقة الأمر، لم يكن على متن رحلة الخطوط الجوية المصرية تلك سواي أنا وخمسة ركاب بعوائلهم كانوا في مقدمة صالة الطائرة.
مطار مرتب وأنيق، وليلة باردة وضباب، ورجال أمن سوريون ببدلات أنيقة في منتهى التيقظ.
ربما كنا وحدنا الواصلين في تلك الساعة المتأخرة من الليل. وكان التحليق ممتعًا في سماء فلسطين ولبنان والبحر الميّت.
يمنحك ضابط المطار تأشيرة الدخول متبوعًا بهذه الجملة الصارمة: "لمراجعة فرع الهجرة عند الرغبة بالإقامة أكثر من ثلاثة أشهر".
وفي الباب شبّان يحولون العملات الأجنبية إلى ليرات (حسب طلبك)، ومكتب صغير ينظم حركة تكاسي الأجرة.
أخبرته أنني أريد "ساحة المرجة"، وهو المكان الذي نصحني عبدالعزيز جباري في صنعاء، أن أتجه إليه.
ليل، والمسافة من المطار إلى مدينة دمشق 25 كم. وفي الصباح اكتشفت أن ساحة المرجة تقع خارج سور دمشق، وأنها المكان الوحيد في المدينة الذي لا يهدأ ولا ينام.
الساحة الواسعة مطوقة بمبانٍ كبيرة، أغلبها مقرات لوزارة الداخلية، وفي مركز الدائرة ينتصب عمود "التليغراف" كواحد من أبرز معالم دمشق الجميلة.
عمود التليغراف الذي شيّد عام 1907 بأمرٍ من الوالي حسين ناظم باشا، صممه من معدن البرونز الخالص الفنان الإيطالي الشهير بابلو روسيني (مجسم التليغراف تذكارًا لتدشين الاتصالات بين دمشق كمركز وبين المدينة المنورة، وقد تزامن مع إطلاق الخط الحديدي إلى الحجاز ومحطة القطارات المجاورة لساحة المرجة).
الرغبة عارمة، ومن المناسب بعد التاسعة صباحًا الدخول إلى مدينة دمشق القديمة عبر باب توما. وهو باب روماني قديم من جهة الشمال الشرقي، قيل إن عمرو بن العاص دلف منه إلى داخل المدينة منتصف القرن السابع.
هناك باب آخر في جنوب المدينة بإمكانك الدخول منه: "باب الصغير"، لكن هناك مقبرة، وهو باب بني على أنقاض باب آرامي نسبه اليونانيون إلى المشتري ضمن ترميزات تكتظ بالمخاطر والرياح وبالصواعق.
دخلت المدينة الأقدم في التاريخ، وبميلان بسيط نحو الشرق سيظهر شارع المستقيم الذي سار فيه الملوك والرسل والرهبان والشعراء والفاتحون العرب، وهو من أقدم شوارع مدن العالم.
إنها دمشق العظيمة الآهلة بالسكان، وفي جوفها تتعايش الديانات والأعراق عبر العصور.
في قلبها الكنائس والرهبان وأقدم مآذن المساجد، حيث الجامع الأموي وقبة الوليد بن عبدالملك التي وضعها فوق رأس يوحنا المعمداني، كمزار مقدس لدى المسيحيين والمسلمين معًا، باعتباره يحيى بن زكريا الذي اجتز رأسه هيرودوس في الأردن، وجيء بالرأس في صحن من ذهب.
وفي الناحية المقابلة يضم الجامع الأموي رأس الحسين بن علي الذي يعبّر عنه صرحٌ بأعمدة من رخام يستجلب الزوّار من أقاصي الأرض.
الصورة واضحة من فوق جبل قاسيون، ومن هناك تظهر دمشق مدين ضخمة مترامية الأطراف، التي هي الشام تحديدًا عند السوريين، كتسمية تنحصر في دمشق وحدها.
لا أحد يستطيع أن يلغي كل هذا الإرث المتنوع، ولم يعد الدروز طائفة تتزاحم قراهم في أرياف مدينة السويداء وحاراتها العتيقة.
توسعت دمشق في عقود النصف الأخير من القرن الماضي، بشكل رهيب، ضمن انتقالات لجميع الطوائف والأعراق إلى عاصمة الشام ومركزها المنيع: دمشق.
حي "جرمانا" مثلًا لم يعد ريفًا مشهورًا بالواحات والكثافة الشجرية، حيث تقطنه غالبية درزية بمسمى "غوطة دمشق"، بل تحول إلى مدينة اندمجت بدمشق ضمن حالة كوزموبوليتية متنوعة: الدروز والسنة والمسيحيين والعلويين والنازحين الفلسطينيين.
"جرمانا" اليوم مدينة عصرية حديثة بمبانيها الضخمة وشوارعها وأسواقها، وتتجاور في أحيائها دور العبادة، ولم تسجل أية حوادث أو صدامات عنيفة بين الطوائف: مواطنون فقط.
هذا إرث عظيم لا يمكن تخطيه لصالح فصيل بحوزته كمية من السلاح تجعله يعتقد أنه سينفرد بإدارة سوريا اليوم ضمن حسابات قائمة على مبدأ الغالبية!
الصعود إلى الجبال المطلة على مسقط رأس حافظ الأسد
الرياح شديدة في أعالي جبال "اللاذقية"، وحسين العجي العواضي يقاوم جنونها في القمة، ويشير بسبابته شرقًا باتجاه نهر العاصي.
لا نسمع ما يقول الشيخ.. ومن ذلك المكان الشاهق يبدو سهل الغاب كما لو أن الأرض هوت، وبقينا وحدنا معلقين في أعالي السماء.
قمة "مصياف" هي إحدى أجمل شواهق العلوييّن المهيمنة قلاعهم وقراهم الحصينة بصريًا على امتدادات "سهل الغاب" كلها.
الزمن: 18 أيّار 2009، وكان الوقت نهارًا.. وفي ليالي الشتاء تبرق مدينة "حماة" من بعيد بوميض خافت يصل بالكاد إلى هذا المكان في الليالي الصافية.
لا أحد يستطيع الوقوف طويلًا في تلك القمم بسبب سرعة الرياح وشدتها، لأن وجوهنا إلى الشرق عكسيًا على اتجاه الريح، وحيث السهل الذي هوى والنهر الذي خالف عادة الأنهار كلها في بلاد الشام، واتجه شمالًا: نهر العاصي!
تبعد مدينة اللاذقية عن مصياف حوالي 85 كم، في حين تبعد "حماة" 45 كم، ويبدو أنه لا يمكن الصعود إلى هذه القمة الفريدة إلا عبر طرق محددة إحداها تمر على مدينة "القرداحة" مسقط رأس الراحل حافظ الأسد.
البحر الأبيض المتوسط خلفنا إذن.. وكان الرئيس اليمني الأسبق القاضي عبدالرحمن الإرياني اختار منزله في مدينة "طرطوس"، بالقرب من تلك المصايف والقرى الجبلية الفريدة بجوها وبيئتها الخضراء الرائعة.
لا أدري هل سار العجي العواضي على خطى الرئيس الإرياني عندما انسحب من جوقة "دمشق" وزحمتها إلى "طرطوس" إحدى أجمل وأهدأ مدن الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط.
غابات شاسعة من أشجار الصنوبر والسنديان، ومدرجات الزيتون والتفاح تغطي جبال الساحل، وتغمر شعاب وآكام وأودية تلك السلسلة الجبلية التي تمتد من "رأس البسيط" شمالًا وحتى النهر الكبير في أقاصي الجنوب السوري.
غابات من أشجار "الصنوبر" الشاهقة ذات الجذوع المستقيمة واللون الأخضر الغامق الفريد، ومدن شديدة الجمال بالقرب من البحر، نشأت وتوسعت حديثًا بالتوازي مع حركة عمرانية لسكان ينحدرون من جميع طوائف المجتمع السوري: علويين ومسيحيين وسنة. وكنت أظن الحياة في الساحل السوري وجبالها مناطق مغلقة على العلويين فحسب.
لا..
هناك حضور مكثف عابر للطوائف، وحياة تضج وتكدح من مختلف هذه المدن المسرودة على الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط/ سوريا.
مثلًا مدينة "بانياس" مسقط رأس عبدالحليم خدام، هي واحدة من أجمل المدن الساحلية ذات الكثافة السنية عدديًا، وهكذا ينسحب الأمر بهذا التنوع الفريد على "طرطوس" وأريافها والجبالية في: "صافيتا" و"القدموس" و"مشتۑ الحلو" و"جبلة"، نزولًا إلى "اللاذقية" كبرى مدن سوريا الساحلية.
تتجه سلسلة جبال الساحل السوري -المعروفة اسميًا بجبال العلويين- كالسيف من الشمال إلى الجنوب، أو كحد فاصل بين البحر واليابسة (170 كم طوليًا).
هذا الحاجز الطبيعي مثّل ملاذًا تاريخيًا للهاربين والأقليات والطوائف الصغيرة عبر التاريخ.
قيل إن معاوية بن سفيان شكّل أسطوله البحري الذي عبر به إلى "قبرص"، من جذوع تلك الأشجار التي تغطي تلك الغابات الجبلية.
وقديمًا -وفقًا لكتب التاريخ- كان الفينيقيون سكنوا هذه الجهات، وعمدوا إلى استخدام أخشاب "الصنوبر" في صناعة سفنهم التجارية التي عبروا عليها تجّارًا إلى شمال إفريقيا.
البحث الممنوع في مدينة "اللاذقية"
في مكتبات مدينة "اللاذقية" تتوفر العديد من العناوين والكتب الأدبية الفلسفية والتاريخية، ودواوين شعراء الشام كلها: من أبي العلاء المعري وأبي فراس إلى بدوي الجبل وعمر أبو ريشة ونزار وأدونيس وحتى محمد الماغوط.
وعندما سألت مأمون "مكتبة كردية" الشهيرة عن كتاب "الأسد: الصراع على الشرق الأوسط"، لباتريك سيل، احمرّ وجهه، وبادرني باستغراب: شو بتحكي!
انتبهت لحظتها أنه ممنوع. وتذكرت نصيحة العواضي قبل نصف ساعة: "اشتري لك كتب من القاهرة أفضل يا ولدي".
لم أكترث لمرامي نصيحته. وعندما عُدت إليه وأطلعته على مقتنياتي من الكتب، وأخبرته بما حصل، رد العواضي ضاحكًا: "ابرد لك أنت وحقك الأسئلة، ويا مدور على الماغوط أوبه يمغطوك!".
مقيل يمني في "طرطوس" وعرس على متن سفينة
"طرطوس" مدينة ساحلية جميلة، وعلى سفينة بحرية جميلة حضرت حفلة عرس يمني أقيم على متنها.
في عصر اليوم التالي ضيفنا الشيخ العواضي على قات، وكان مقيلًا رائعًا بحضور الأصدقاء الأعزاء: ناصر شُريف وحسين المظفري والدكتور جازم وناصر وصادق عبد ربه.
كانت غرفة الفندق الذي أقيم فيه ذات وجهة بحرية، ومن بلكونتها الغربية تبدو جزيرة "أرواد" التاريخية قريبة للغاية ضمن فاصل بحري لا يفصلها عن شاطئ طرطوس سوى 5 كم.
جزيرة صغيرة تبدو في غاية الجمال بمنازلها البيضاء وقلعتها الشهيرة التي تنتصب وسطها، حيث تبدو في الليل وهي تضيء كشمعة وسط البحر.
كانت "أرواد" مملكة فينيقية قديمة رغم صغرها، وتنقلت على مدى تاريخها بين كل الحضارات، وقاومت الغزاة كلهم عبر العصور، إلا أن أكبر صمود لها كان في وجه الرومان.
الجزيرة تتبع "طرطوس" إداريًا، ويزيد سكانها عن 10 آلاف نسمة، وأهلها بارعون للغاية في صناعة السفن الشراعية والشباك والصناديق المرصعة بالصدف.
على سطح قلعة "الحشاشين"
إلى الجنوب الشرقي من مدينة "طرطوس" تربض واحدة من أجمل وأهدأ المدن السورية على الإطلاق: صافيتا.
هذه المدينة الراقية لها تاريخ عريق، ولها قلعة عظيمة من أشهر القلاع الدفاعية في التاريخ، أو برج صافيتا وفقًا لتسمية الأهالي.
تقطن هذه المدينة أكثرية مسيحية، وفي الدور الأول من البرج كنيسة صغيرة وحارس يستقبل زوار القلعة بمنتهى اللطف.
بيوت متجاورة بيضاء يغطيها القرميد الأحمر الذي يمنحها خاصية مميزة وسط تموجات شجرية خضراء على صدر الجبل.
وفي قلب صافيتا تتربع القلعة أو كملكٍ عظيم نصبها في المكان ومضى.
تختلف بداياتها التاريخية مثلما أجمع المؤرخون على عظمتها الدفاعية في جميع الحقب.
قيل إنها في العصور الوسطى كانت تتبع الحشاشين، وأنها لاحقًا قاومت حملات الظاهر بيبرس.
تتربع القلعة على التل بإطار عريض وبارتفاع يصل إلى 30 مترًا، ومن سطحها يشعر الزائر بالمتعة والقوة معًا، حيث يشرف على كامل جهات صافيتا، وروعة بيوتها الساحرة.
ترش الغيوم قطرات بسيطة على رؤوس الضيوف، ومن على سطحها البارد لا أحد يستطيع أن ينافس حسين العجي العواضي، قرب العصر، في التعريف بالمكان وبالناس، وأن يأخذنا بشهامة ملك إلى وجبة غداء شهية على ذوق أهالي صافيتا وعاداتهم الباذخة بالكرم.