مع رحمة حجيرة ضد رشيدة القيلي.. انتصاراً للمدنية - أحمد عبدالرحمن الشرعبي
أؤمن جيداً أن الانتصار الحقيقي لرحمة حجيرة يأتي عبر الانتصار لقيم المجتمع المدني أولاً، وما عدى ذلك يكون تعزيزاً لغياب ما يسمى بالدولة، وإعاقة لإمكانية تحولها من مفهومها الأيديولوجي، إلى دولة ذات مشروع معرفي حقيقي، يقوم على مبدأ المواطنة المتساوية، والأحقية في العيش الكريم والآمن.
تقبع الدولة هنا بمفهومها السطحي والمموه والهش، كما هو حادث تماماً، حيث لا تتواجد فعلياً، وما يحكُمنا هو الأعراف والعادات وقليل من الإنسانية تبدو هي المسيطرة على تكوينات العلاقة الاجتماعية في بلد تحكمه عبارات كـ"بجاه الله والنبي" وبـ"قبْيَلة" تكبر كلما غاب وتلاشى دور الدولة كسلطة ومؤسسات، لذا تحتاج عملية تحول كهذه للكثير من المخاض، والأكثر من ذلك من الوقت يتبلور فيه مفهوم الدولة، وتصبح قادرة على التعاطي مع إفرازات العصر.
تُقسّم اليمن في الوعي الشعبي إلى "مطلع" و"منزلـ"، جزء كبير من "منزلـ" ولج المدنية من خلال وقوعه على طريق التجارة العالمي كعدن، المدينة الفعلية، وتعز بحكم قربها –أيضاً- من طريق التجارة (ميناء المخاء) ووقوع أجزاء منها على مقربة من الأولى، جعلها تأتي بدرجة ثانية كمدينة، وهجها يتراجع بفعل التأثر السلبي أيضاً، وهجرة كثير من أبنائها باتجاه العاصمة، باعتبارها "ملجأ إجباري"، وهي في الحقيقة قرية كبيرة تحوطها القبائل من جميع الاتجاهات، أعني صنعاء، ومن السهل أن يلاحظ المرء أن هذه العاصمة تتسع عكسياً! ويمتد تأثير الثقافة المسحوبة من القبيلة، وتزداد توغلاً لدى الناس، فمن يأتي على سبيل المثال من تعز، وبحوزته نزر من ثقافة مدنية بسيطة، يعود منها مختلفاً تماماً عما جاء، بعكس أن تذهب إلى عدن فأنت هناك إما أن تتخلص من ثقافتك المتخلفة، وتبدأ في الامتلاء بثقافة مدنية معززة بالكثير من الحضور الواقعي، وإما أن تعزز ثقافتك المدنية التي تحوزها، وتعود أكثر نضجاً، وقدرة على التعايش.
لن أقسو على صنعاء فها أنا أعيشها بكل حب، وأحن إليها أكثر من حنيني لتعز (مدينتي الأولى) حتى أنها تبدو أحسن حالاً من مدينة تنكمش، ليبقى منها صدى حضورٍ كان، بينما صنعاء بكل التصورات القبلية التي يمكن أن نضعها مسبقاً عنها، تشعرك بالحياة، وتمدك بالحضور المكثف. لن أسهب في الحديث عن جدلية صنعاء والقبيلة، وصنعاء والمدنية، ويحتاج لتناول آخر، وسأعود إلى مسألة الدولة الغائبة أصلاً، والتي بلا دراية نسعى لتعزيز غيابها سواءً كمجتمع مدني أم كأفراد، حيث الدولة تعني مهام يجب أن تحققها غير السلم، فهو لا يعد غاية الدولة الوحيد، كونه يعني –فقط- الخروج من حالة الحرب، لكن الغاية الأساسية التي تروم الدولة تحقيقها هي الحرية التي ينبغي ضمانها لكل أفراد المجتمع، كما يقول أحد الفلاسفة الهولنديين، والذي يرى –أيضاً- أن للدولة غاية خارجية مثل السلم أو الحرية أو الملكية...الخ، فالدولة كما يعتبرها ليست جهازاً لإرهاب الناس وقمعهم وجعلهم مقيدين بمجموعة من القوانين الجائرة، بل هي وسيلة تحررهم وفق الإقرار بقواعد عامة تكفل الحقوق لكل المواطنين، وتحد من المهزلة، والغوغائية... هذه الدولة بمفهومها البسيط ما نبحث عنه، وفي الوقت ذاته ما يجب أن نسعى لإيجاده، لا أن نسعى لإيجاد بديل لا يرقى، ولا يمكن أن يقوم بأدوار الدولة المتعددة والمتسعة لحظياً.
الأسبوع الماضي عقد في مقر منظمة "هود" جلسة تضامنية، مع رحمة حجيرة، وحافظ البكاري، إلى جانب كثير من الزميلات والزملاء. شخصياً حضرت للتضامن مع رحمة حجيرة ضد حافظ البكاري. كنت قد قلتها في مداخلة لي، لأن حافظ لا يحتاج أصلاً للتضامن، ففي مجتمع قائم على التمايز العنصري، وذي هيمنة ذكورية، لا يحتاج الذكر فيه للمناصرة إلا حين يرتبط بأنثى/ امرأة، وفي هذه الحالة -على الأقل بالنسبة لي- يكون التضامن معه إهداراً للوقت.
في الجلسة تحدث: المحامي محمد ناجي علاو، سامية الأغبري، أمل الباشا، حافظ البكاري، والخيواني. وقُدمت هذه الأسماء كضحايا نتيجة ما تعرض له كل واحدٍ منهم، وإن كنت أختلف معهم في كونهم ضحايا! الرائع في الأمر أن أمل الباشا نفت هذه الصفة عنهم، مقدمةً الجميع باعتبارهم مناضلين. وكما لم يعجبني المصطلح الأول فالآخر أيضا لم يرُقني مطلقاً، فهؤلاء "الضحايا" و"المناضلون" هم المجتمع المدني، وعبر ما يتعرضون له يعززون مفهوم هذا المجتمع القائم على المطالبة بالحقوق، وانتزاعها، إلى جانب تكريس مفهوم دولة المؤسسات، المؤمنة بكون المنظمات المدنية ذات دور مكمل ورديف لمؤسساتها، بإمكانه أن يحل محل الدولة في حالة سقوطها أو انهيارها بشكلٍ لا يمكن حياله إلا الاعتراف به، وقد يكون السقوط أو الانهيار بفعل كثير من الأسباب أحدها الحكم الفردي، وغياب دولة المؤسسات، ويأتي بعد ذلك الحروب التي تخوضها السلطة تباعاً، والمجهدة لا شك لمقوماتها العادية المتأرجحة عليها، والخيارات تبدو محدودة أمام السلطة وهي العمل على إيجاد رديف مدني لها، يتلقف مخلفاتها فيما بعد، ويعمل على تلافي ذلك السقوط الآن، لا أن تعمل على تفكيك بنية المجتمع المدني، والعمل على السيطرة على النقابات (نقابة الصحفيين أنموذجاً) والسلطة إذ تمارس ذلك بسذاجة مفرطة، وتهيئ الأجواء لبدائل هي في الأساس شريك في الحكم، ولكن بصورة غير واضحة، وبشكل يمكن استنتاجه من خلال النظر لبنية الحكم القائمة.
واضح أن النظام القائم يحتاج لكثير إيمان برديفه (المجتمع المدني) إمكانية الحضور المكثف والفاعل، وتلافي إعاقة تحركه، والنظر إليه بإعتباره مرآة لمدى ديمقراطيته وحريته، كنظام يسعى لتسويق وتقديم نفسه على أنه ديمقراطي إلى حدٍّ لا يمكن تصوره، ومع ذلك فالكثير من الصحفيين والحقوقيين يتعرضون للمضايقة، والتهديد والقذف... ومن لم تصبه لعنة المطاردة، والاستجواب، يكون هدفاً سهلاً للعنة الكلمة بعيداً عن أدنى أخلاقيات المهنة.
إن الدولة بمكوناتها المادية والرمزية لا يمكن لها أن تحافظ على كيانها وتضمن استمرارها إلا بإخضاع الأفراد لقوة ملزمة ولترسانة من القوانين و الأنظمة (يقول الباحث عادل الكنوني)، إلى جانب مواطنة متساوية، أو لا مواطنة، عدالة للجميع، أو فقدانها للجميع. وحين تدعو أمل الباشا في الملتقى ذاته إلى محاكم شعبية، هي تدعو لبديل عن القضاء، بديل لا يمكن فهمه، حيث أن غياب القضاء لا يعني أن يُعزٍّز المجتمع المدني هذا الغياب من خلال دعوة كهذه، ومسألة إيجاد محاكم شعبية تعني بديلاً، لأن المحاكم الشعبية لا يمكنها أن تقبض على الجاني، أو تدينه حتى، وإنما دورها يكمن في نشر صوره وتعليقها على زجاجات السيارات كما نفعل حين نعلق صور الضحايا (درهم الراشدي أنموذجاً). فغياب القضاء يجعل المجتمع المدني أمام شرعنة وجوده من خلال المطالبة بقضاء مستقل وفاعل، ومن خلال فاعلية حقيقية –أيضاً- للمجتمع المدني نفسه. وكما قالت الباشا فإن ثمة منهجية في السب والقذف تمارسه الصحف المنحطة، هذه المنهجية في البذاءة كم تمنيت لو تُقابلها منهجية في العمل المدني الذي يُشرك من خلاله رجل الشارع البسيط لا أن تغلب الموسمية على مناشط هذه المنظمات، وحين تتعرض أمل الباشا، أو رحمة حجيرة، سامية الأغبري، توكل كرمان... الخ، للإساءة تتداعى هذه المنظمات للاجتماع، وعقد جلسة لا تخرج منها ببيان للجماهير من خلاله توصل تضامنها وتوضح له تداعيات القضية التي كان قد نسيها الكثيرون لا أن تكتفي بتضامن فوقي يحضره عدد من أسر الضحايا وأصدقائهم وزملاء المهنة... وعضو من مجلس النواب استاء من كثير مما قيل، رغم أن ما قيل كلام مكرور، ومع هذا زعل!!
سامية الأغبري في الجلسة ذاتها في كلمتها أشارت إلى أن البديل عن غياب القضاء أو لا عدالته هو حذاء أو جزمة رشيدة القيلي –لا فرق- المصفوع به "الفاتش-رئيس تحرير البلاد" بمعنى أن تصفعه رحمة حجيرة بحذائها وينتهي الأمر!! والمشكلة برأيي ليست في أن يقال ذلك، بل في الانسياق وراء دعوة كهذه، بدءاً من القاعة. فأحد الحضور أعجبه أن يردد كلام سامية، وأصر على أهمية اللجوء إلى مثل هكذا تصرفات، غير مدرك أو متجاهل لتبعات تصرفات كهذه تجعل المجتمع المدني يعيش انحطاطاً أخلاقياً وقيمياً حقيقياً يكون بمثابة انعكاس لانحطاط خطاب الآخر، المرفوض، وبلا شعور نصبح وجهاً آخر لما نرفضه، ونقف ضده، مردداً ما قالته سامية قبلاً: "انتصرت رشيدة للعدالة، وخذلت العدالة حافظ ورحمة، والحق أن رشيدة لم تنتصر، وبالمقابل لم يهزم الفاتش".
إن حاجتنا لدولة مدنية تعكسها التفاصيل اليومية المعاشة، وهي حاجة مجتمع، وليس فردا، والبديل عن غياب الدولة، هو المطالبة بدولة، كما البديل لغياب القضاء هو المطالبة بقضاء فاعل ومستقل، والرد على المنهجية في البذاءة، منهجية في المواجهة المدنية التي تنتزع الحقوق عبر أثقابها الشرعية، المنتصرة أساساً لمعنى أن تكون الدولة دولة.
<<<
عزائي الشديد للأستاذة أمل الباشا في وفاة أخيها الأكبر أحمد الباشا، فكثيرا من المواساة، وآيات الصبر لك أيتها الرائعة.
Hide Mail
مع رحمة حجيرة ضد رشيدة القيلي.. انتصاراً للمدنية
2009-03-14