صنعاء 19C امطار خفيفة

(القافلة) في خبت ضاعت

طبيعي جدًا أن تأتي أشعار شعرائنا الحاليين شعراء منطقة المشقاص ساحل حضرموت، خصوصًا الشاعرين الكبيرين سعيد سالم بلكديش، وسالم عمرو الغرابي الملقب بالعكر، وشعراء آخرين كثر، فعندما يصادفك شيء من إبداعاتهم الشعرية فلا داعي أن تجعل الدهشة وحالة الإعجاب تتملكك من هذه الإبداعات، فهم امتداد لقائمة طويلة من مبدعي الشعر المشقاصي.
 ذلكم الشعراء الكبار ممن رحلوا وكانت أشعارهم مرآة عاكسة لما حولهم من حراك مجتمعي في ما مضى من وقت بعيد، فكانوا ينقلون أحداث تلك الحقب الزمنية الغابرة بدقة عالية، وكانوا محل أنظار الناس من حولهم.
الصورة للكاتب مع الشاعر سعيد بلكديش
إذ إن الناس كانوا يرقبون ما يأتي منهم من أشعار تحمل الحكمة والنصح تارة، وتارة أخرى تأتي تنبؤات لما سيأتي من أحداث مستقبلية، وكثيرًا ما كانت تصدق هذه التنبؤات التي تأتي في أشعارهم مسبقًا للأحداث.
القصيدة أدناه التي اتخذنا من بدايتها العنوان أعلاه، هي للشاعر بلكديش، فنسمع ما قاله بلكديش عن أحوالنا وواقعنا وما نمر به:
القافلة في خبت ضاعت
تبعت هوى الجمال وعناده
ولعاد حد يسأل عليها
ما غير نا عقلي بها مشغول
وهنا علينا التوقف قليلًا لنرى خبايا هذه القصيدة الجميلة.
حتى إننا تعمدنا وضع كلمة القافلة بين قوسين، فهي مربط الفرس، وهي أساس القصيدة، بل زبدة القصيدة.
فهكذا هو الشاعر المبدع دومًا سعيد سالم بن بلكديش في أغلب قصائده.
لكن يتضح ويظهر بل يتجلى إبداعه الشعري في هذه القصيدة القصيرة والصغيرة بعدد أشطارها، الكبيرة بما حملت من المعاني والتعابير عما يغني عن عشرات القصائد.
فالقصيدة تصف الواقع بأدق تفاصيله، وتصف ما نحن فيه، بل إنها تلامس هذا الواقع المرير.
وبما أن الشعراء هم ترجمان للواقع، وهم دون غيرهم من يقترب كثيرًا من الواقع، وهم من ينقلون كل ما يدور في يومياتنا من أفراح ومن ارتاح.
لكن الناظر لواقعنا الحالي سيعرف أن الأفراح باتت من الأشياء النادرة الوجود، إلا ما نكلف أنفسنا لنصنع منه شيئًا من الفرح من العدم إن صح التعبير.
نعود لقصيدة بلكديش التي هي هدفنا ومقصدنا، والتي نرى أنه ستكثر تفاسير الناس لهذه القصيدة، وكل له تفسيره الخاص به.
لكن الجميع سيجمع على أن القصيدة تحكي واقعنا بكل تفاصيله المؤلمة.
فمن ينظر (للقافلة) أول كلمة بالقصيدة، فهو كما يتضح أن الشاعر يقصد بها نحن ولا غيرنا نحن السواد الأعظم من هذا الشعب الذي جماله أي راعيه من حكام لم يكن بذلك الجمال الحنون والمراعي لظروف القافلة، فهو يحملها فوق طاقتها، وهو لا يمتلك شيئًا من الرحمة بها، فما إن تخرج من مشوار عسير وطويل حتى يدخلها في مشوار آخر أكثر تعبًا وإرهاقًا لها.
بل إن هذا الجمال به من الكبرياء والعناد ما جعل هذه القافلة في تعب متواصل، ولعقود من الزمن.
هذه هي قصيدة الشاعر بلكديش لمن يحاول حتى الاقتراب البسيط منها ليعرف ما بها.
لكن للأمانة أن الشاعر بلكديش كان أكثر حبًا وعشقًا لهذه الأرض وأهلها، ويظهر ذلك الحب والعشق في قوله بآخر القصيدة:
ولعاد حد يسأل عليها
ما غير نا عقلي بها مشغول
فهو انشغل وشغل عقله بهذه القافلة التي صارت ضحية هذا الجمال، ولم تلاقِ من يرحمها ويعطف عليها.
فالكل منا في توهانه مسرح
الكل لم يبدِ أي تمنع واعتراض على أفاعيل هذا الجمال الوقحة، بل إنه كما نرى أن الكل وقف موقف المتفرج، وكأن شيئًا لا يعنيه، وهو في الأساس المعني، بل الضحية لأفعال هذا الجمال المعاند.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً