أصدر فضيلة المفتي شمس الدين محمد شرف الدين، في أبريل ٢٠١٧، عندما كان تحالف الرئيس الراحل علي عبدالله صالح مع أنصار الله، لايزال قائمًا، فتوى تدميرية للاقتصاد ولمعيشة طيف واسع من الناس، بتحريمه فوائد البنوك التي وصفها بـ"الربوية"! هذه الفتوى لم يصدر مثلها في أية دولة عربية أو إسلامية مستقرة. الأزهر الشريف المرجعية الإسلامية العظمى لا يذهب إلى ما ذهب إليه المفتي، ولا يعتبر فوائد البنوك ربوية لمنافعها العامة والخاصة لأربعة أطراف هم: ١. المودعون. ٢. العاملون في البنوك. ٣. المجتمع الذي يتعامل مع البنوك برضا تام لتحقيق منافع متبادلة بينها وبينه. ٤. الاقتصاد الوطني.
دينيًا، يجمع الفقهاء على أن ما يحقق المنفعة العامة فهو شريعة، أي مشروع دينيًا. الفتوى انتُقدت، وسمع المفتي بعضها بأم أذنيه، ولكنه لم يتراجع عنها رغم نتائجها القاتلة غير الغائبة عنه، والتي تتجسد في تراجع حاد في وضع الأسر المعيشي في طول البلاد وعرضها.
دفعني لكتابة هذا المقال ما كتبه أ. علي الضبيبي في "النداء"، في ١٧ ديسمبر الجاري، عن الوضع الأكثر من بائس لأسطورة بطل لعبة كرة التنس اليمني والعالمي أحمد زايد، الذي لا يجد في شيخوخته المبكرة هو وأسرته ما يقتات به، ومثله مئات الآلاف من الأسر التي وضع من يعيلها شَقى عمره في هذا البنك أو ذاك ليوم الشدة، وبخاصة في عمر الشيخوخة.
شواهد على فتوى الإفقار:
أولًا: العودة إلى ماضٍ ولى إلى غير رجعة كان يقال فيه لندرة الريال بأن "الريال يشتي رطل عقل"، وأظن أن الفتوى، أية فتوى، تحتاج قبل إصدارها إلى رطل عقل وأكثر.
ثانيًا: إن أي نظام سياسي يحرص على سعادة الناس ورخائهم بحرصه ودأبه على زيادة دخولهم ورفع مستوى معيشتهم، وليس العكس لكي يحصل الحاكمين على رضا الله والمحكومين.
ثالثًا: نتج عن الفتوى بؤس غير مسبوق لا يخفى على المفتي وأولياء الأمر، وأصبح فيه من كان قبل الفتوى من الطبقة المتوسطة يعاني من إفقار متراكم نتيجة لها، وكمثالين أصبحت غالبية من أرباب الأسر مجبرة على شراء ربع دجاجة للأسرة كلها، والثاني تضخم أعداد الشحاتين في شوارع العاصمة وغيرها من المدن بصورة غير مسبوقة.
رابعًا: تراجع العلاقات الاجتماعية، لأن الإفقار رتب أولويات مختلفة في الحياة، ليست هذه العلاقات من بينها، وكذلك التخلي عن القيام ببعض الواجبات التي لم يكن يتخلف عنها جل اليمنيين... مثلًا عندما تُوفي الدكتور أبو بكر السقاف كتب أ. عبدالرحمن بجاش، في ١٩ ديسمبر ٢٠٢٢، بأن "صديقًا له ذهب إلى العزاء بوفاة القلم والعلم د. أبو بكر السقاف، عاد خائبًا بعد أن قال له الحارس إن من حضر ثلاثة فقط جلسوا لبعض الوقت وغادروا". وعند وفاة السفير سلطان العزعزي في أكتوبر، علق أ. عبدالرحمن المضواحي على مقالي في تأبينه، بأن واحدًا فقط من زملائه في الخارجية شارك في جنازته، وكان ردي له بأن سياسة الإفقار هي السبب، لأنها -كما سبق القول- قلبت أولويات الإنفاق اليومي رأسًا على عقب.
كان الإخوان المسلمون يحثون الناس على أداء فريضة الصلاة أكثر من حثهم إياهم على أداء الزكاة ذات المنافع العامة، لأن الصلاة تحشد لهم جمعًا غفيرًا من الناس ليصغوا إلى خطابهم التعبوي الديني والسياسي. سلطة أنصار الله تقتدي بهم، ولكن في الاتجاه المعاكس، لأن سياسة الإفقار سواء تعمد المفتي أو غيره توخي نتيجتها أم لا، تحول دون اللقاء بين الناس وبين حقهم في القيل والقال، وتحول دون أداء واجبات دينية واجتماعية لم يكونوا يتخلفون عن أدائها مهما تكن الظروف التي لم تبلغ حد الإفقار المعاش حاليًا. يذهب البعض إلى وجود دوافع سياسية للفتوى، لأن المفتي، على عكس أسلافه كلهم، مارس السياسة عندما كان عضوًا في وفد لأنصار الله إلى موسكو، لحثها على الاعتراف بسلطتهم في صنعاء.
أخيرًا: حرصًا على المصالح العامة والخاصة، هل يمكن للمفتي التراجع عن فتواه بأية طريقة يفضلها، مراعاة لمصالح الناس المشروعة، ولمصالح اقتصادية عامة؟ اليوم لدينا بنوك، ولكن الفتوى شلتها، بجانب الحصار الاقتصادي الذي تشكو منه سلطة أنصار الله وحليفها أحد أجنحة المؤتمر الشعبي. الفتوى باختصار تضاعف من أضرار الحصار.