صنعاء 19C امطار خفيفة

انكشاف

بالنظر إلى ما جرى في سوريا وغيرها، كأننا أمام مجتمعات تتسق مع نفسها كما هي، من دون رتوش، ومن دون ادعاءات. إذ يبدو أن الأنظمة التي حكمت كانت تتزين بالعلمانية، وكانت أشبه بالديكور والإطار البروتوكولي، في نوع من المراسم والشكليات التي لم تصمد، والآن عاد كل شيء إلى طبيعته، على المستويين الرسمي والشعبي.

 
هذا واقعنا وهذه مجتمعاتنا، ولم يعد هناك متسع من الوقت للكذب على النفس. لسنا مجتمعات علمانية، هذا ما يقوله الواقع، ولسنا أنظمة ثورية جمهورية، هذه كانت أمنيات عصية على التحقق في واقع بدا لنا الآن مثل جدار حجري سقط عنه الديكور الملفق.
الدرس السوري لن يُنسى، وسيظل ملهمًا وقابلًا للتأمل، وحتى الدرس العراقي، واليوم يعيد السوريون اكتشاف أنفسهم، فبالقياس إلى الحشود التي تحتفل في الميادين تبدو لنا المدينة مقارنة بالريف وناسه حفرة صغيرة غمرها نهر القادمين من القهر ومن فشل التنمية وغياب العدالة.
الحال في اليمن لا يختلف، والمسألة لا دخل لها بزيدية وشيعة وسنة، المسألة تتعلق بتنمية مفقودة جعلت أحدهم يتسلح بفقر الناس وتخلفهم وإحساسهم أنهم لا يملكون شيئًا يخشون خسارته. فلا عيادات أطباء صعدة ستغلق أبوابها، ولا مكاتب المهندسين والمحامين ستخسر زبائنها، ولا مصانع الحديد والصلب في عمران ستفقد إنتاجها.
كانت جمهورية شكلية تركزت في صنعاء على هيئة نظام بروتوكولي عجز عن تصدير التنمية والوعي والرفاهية للسكان في كل مكان، فأصبح السكان في الأطراف هم اللغم المفخخ والجاهز للانفجار، وهذا ما حدث وسيحدث مرة أخرى حتى نصبح مجتمعًا متجانسًا يتقاسم الفقر أو الغنى والرفاهية بالتساوي. لأن حروب الفوضى والانهيارات تمثل في جانب منها انعكاسًا لغياب العدالة والشعور بالمساواة.
نحن المدينة الغائبة والأرياف العظمى في مساحتها الباحثة عن صرخة فقيه أو سيد مهبول يريد استعادة مجد أجداده على حساب الفقراء المتعوسين المنحوسين بأنظمة جمهورية فشلت في تحويلهم إلى مواطنين أسوياء، وأبقى عليهم الفشل على هيئة حشود قابلة للهتاف في الميادين لصاحب الغلبة والصوت العالي، ولصاحب الميكروفون الأكبر والشعار العاطفي الذي يقودهم إلى الآخرة بأعين مربوطة من أجل أن يبني عالمه الدنيوي.
حين يفشل الطموح المستقبلي نحو التحديث ويعجز عن تمثيل رؤاه، ينتصر الديني والتاريخي في بلورة وعي الناس والاستئثار بحاضرهم واستغلالهم وتنويمهم. فيما الأنظمة التي سقطت والتي قد تسقط في المستقبل لا تستحق الأسف، لأنها كانت ألعاب خداع ومظاهر تتزين بشكل الدولة الحديثة التي تستقبل الدبلوماسيين الأجانب وتحاول الظهور على هيئة كيانات عصرية، لكنها أبقت على المجتمعات تتصارع بحثًا عن العدالة الغائبة والانتماء المتكافئ.
كانت نجاحات ضئيلة تلك التي حققتها أنظمة ما بعد رحيل الاستعمار عن منطقتنا، ربما تحققت نسبيًا في البدايات، ثم تحولت إلى آلات فساد، وحين ثارت الشعوب اكتشفنا كما يحدث الآن أن فارق التوقيت بين الأنظمة الشكلية والشعوب الراكدة في ماضيها، كان كبيرًا، ولا يمكن للشعوب أن تظل تحرس الوهم حتى النهاية، ويبدو أن على الواقع المر أن يتقدم ليعلن عن نفسه كما هو من دون زيف، وما سنشهده في المستقبل القريب لن يغادر الصراع بين مجموعات تنتمي لواقعها، وتتجادل حول الماضي الأكثر صلاحية لحكم الحاضر.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً