ليس هناك ما هو أسوأ من انحدار نجم رياضي شهير كان في القمة إلى قصة مأساوية على النحو الذي يعيشه كابتن المنتخب الوطني لكرة تنس الطاولة: أحمد زايد.
في بيت قديم متهالك يفتقد للترميم داخل حارة القاسمي، إحدى أشهر حارات مدينة صنعاء التاريخية، يعيش هذا النجم الوطني الأشهر في تاريخ الرياضة اليمنية (تنس الطاولة).
كمية الكؤوس والأوسمة والميداليات والجوائز الدولية والمحلية التي حصل عليها هذا البطل العالمي ونثرها للعرض داخل غرفته الصغيرة البائسة ذات الجدران الترابية العتيقة تغمرك بالذهول الذي لا يتناسب بالمطلق مع حالة بؤس المكان الذي يعيش فيه هذا النجم الكبير وعدم قدرته أحياناً على العثور على وجبة طعام للأسرة.
ينقل الماء بيديه صباحاً ـ وأحياناً في المساء ـ بجوالين بائسة حيث لا يملك حتى خزاناً منزلياً في سطح البيت.
المنزل صغير ومن الداخل مظلماً لانعدام الكهرباء: متهالك وجدران مهترئة بالأتربة وفي حوافّها تنشح بالرطوبة وبلا ترميم.
هذا الواقع البائس جداً يكشف عن المستوى الرديء للغاية الذي يعيش فيه نجوم وأبطال الرياضة اليمنية: الذين طارت شهرتهم في الآفاق: الأبطال الذين عشقتهم الجماهير وهتفت بهم لعقود ثم صار أحدهم اليوم يعاني من مرض "الجذام" كما أخبرني بذلك الكابتن أحمد زايد عن زميلٍ له مريض (متحفظاً على ذكر اسمه).
طاف نجم كرة تنس الطاولة الأشهر أحمد زايد 45 بلداً حول العالم على مدى 35 عاماً.. وإلى كل دولة "ما كنت أذهب إلا كنجم رسمياً بمعنويات اللاعب الفخور بوطنه وشعبه" كما يقول.
ويضيف الكابتن أحمد زايد بلسان وجيع وعيون مشرغة بالدمع: "الله الله ما أعظمها من لحظات وطنية عندما يتم تشغيل الموسيقى الوطنية ويُستعرض النشيد الوطني لبلدك أمام شعوب العالم والجماهير الضخمة من كل القارات". ويضيف: "دائماً كانت دموعي تنهمر".
إذن لقد بكى نجم اليمن لكرة تنس الطاولة في 45 بلداً عند كل مشهد افتتاحي ابتهاجاً وافتخاراً ببلده واليوم: يبكي داخل بيته البائس: وحيداً بروحه الذاوية من ألم الحاجة.
"لست نادماً على شيء، أنا مثلت بلدي اليمن خير تمثيل ومثلت العرب"!
ويضيف بوجع: "ما يؤلمني هو عندما أرى أولادي بدون دفء في هذا الطقس البارد ولا تعليم جيد بل وأحياناً بلا أكل".
الرياضة والرياضيون وعشاقها هم أكثر فئات الشعب وطنية لأن الحماس الوطني في الرياضة لا مثيل له.
المضرب الذي اقتناه قبل نصف قرن لا يزال بحوزة البطل
في مطلع العام 1968، اتجه الفتى أحمد زايد إلى منطقة التحرير، وتحديداً إلى أشهر محلات الرياضة "المتجر العربي" لشراء مضرب كرة تنس الطاولة.
كان والده قد منحه 25 ريالاً لشراء كرة قدم أو أي لعبة أخرى، إلا أن الصبي انحاز لكرة التنس دون سواها واختار المضرب الذي لا يزال في عهدته إلى اليوم.
وخلال رحلة زادت على نصف قرن، خاض نجم النادي الأهلي لكرة الطاولة ونجم المنتخب الوطني غمار المنافسات المحلية والعالمية التي لا حدود لها.
لقد حصد بهذا المضرب عشرات الجوائز والكؤوس والميداليات بمختلف أنواعها عبر القارات، وصار نجماً ساطعاً في سماء كرة تنس الطاولة، له جمهوره ليس فقط على امتداد المحافظات والأندية اليمنية، وإنما على امتداد العالم العربي وعلى مستوى آسيا كلها.
لا يزال محتفظاً بهذا المضرب كرفيق وفيّ له، صمد معه أمام أكفأ الأبطال العالميين في ملاعب العالم، وفي أغلب محطات مسيرته الكروية كان يهزمهم الواحد تلو الآخر ويحصد الجوائز.
لكن هذا التاريخ الحافل بالإنجازات، بالنسبة للوضع المعيشي والأسري القائم الذي يعيشه هذا النجم العظيم، يكاد أن يختتم حياة هذا البطل بهذه الطريقة القاسية: الموت جوعاً.
أحمد محمد زايد (71 عاماً تقريباً) من مواليد مدينة صنعاء القديمة احترف كرة تنس الطاولة داخل حارات المدينة في النصف الأخير من الستينات (القرن الماضي) ثم انتمى إلى أشهر نوادي صنعاء وأقدمها: النادي الأهلي.
لياقته وتركيزه وموهبته الفذة التمعت مبكراً. ومن أول عام انتمى فيه للنادي الأهلي (1969) صار نجماً عندما أحرز البطولة للنادي على مستوى الجمهورية.
في هذه البطولة (الجمهورية الأولى للناشئين عام 1969) أحرز المركز الأول للفردي وأخذ الكأس في ظهور لافت أدهش المدربين وعشاق التنس.
ومن ذلك التاريخ وعلى مدى 25 عاماً سيطر على اللعبة تماماً واحتكر الفوز وظل لاعب النادي الأهلي الذي احتفظ بالبطولة على مدى ربع قرن.
حصد الكؤوس تلو الأخرى وقد أهله هذا المستوى المتفوق وهذه الصدارة الكروية التي أبهرت جمهور كرة تنس الطاولة لخوض غمار المنافسة على المستوى القاري خلال عامين على بداياته اللافتة.
عام 1971 استضافت "الصين" في العاصمة "بكين" بطولة آسيا وأفريقيا لكرة "الطاولة" التي مثل اليمن فيها أحمد محمد زايد.
كانت هذه البطولة بالنسبة للصين حدثاً تاريخياً في جنسه الكروي بالغ الأهمية حيث حضر المباراة رئيس الحكومة الصينية الأشهر "تشو ان لاي".
كان لاعب المنتخب اليمني أحمد زايد يبدو صغيراً وقصيراً للغاية في نظر الآسيويين أمام لاعب "مالي" العملاق الذي مثّل القارة الأفريقية في هذه البطولة.
جمهور كبير وحضور رسمي صيني ودولي على أرفع المستويات. وفي الملعب تتقابل على الطاولة قامتين غير متكافئتين طولياً: نجم اليمن أحمد زايد (القصير) يقابله بطل جمهورية "مالي" لكرة تنس الطاولة بقامته الفارعة للغاية "طويل بصورة مبالغة" كما يتذكر أحمد زايد ذلك الحدث الهام بعد 55 عاماً على تأريخه. ويشير إلى الصورة الملصقة بطريقة بدائية على الجدار: "لاحظ لاحظ الطول العجيب والضخامة".
هذه المفارقة القياسية عام 71 أكسبت لاعب المنتخب اليمني تعاطف الجمهور الصيني بشكل كبير وكان بالنسبة للشاب أحمد زايد (15 سنة) المهمة الأصعب في مسيرته باعتبارها أيضاً أول مشاركة دولية له.
خاض الصبي نزالاً شديداً وهو يقارع بمهارة قصار القامة هذا الكائن البشري الضخم بـ"المضرب" الذي اقتناه قبل أعوام من "المتجر العربي" بصنعاء ولا يزال محتفظاً به إلى اليوم كأي شيء ثمين أو كصديق وفي رافقه في جميع مشاركاته المحلية وتحدياته العربية والعالمية.
أحرز الفوز بكل جدارة واقتدار وأبطل منطق المهارة الكروية خرافة الحسابات القياسية للأطوال في عالم كرة تنس الطاولة.
كان الجمهور ـ وهم بعشرات الآلاف ـ يهتفون باسمه: "زايد زايد" بذهول وحماس وبقلق.. وفي كل جولة من أشواط اللعبة كانوا ينهضون وقوفاً على أطراف أقدامهم وأيديهم على قلوبهم تعاطفاً مع هذا اللاعب الذي يبدو طفلاً.
عندما أحرز أحمد زايد الفوز باسم قارة آسيا لم يستطع رئيس الوزراء الصيني الذي كان واقفاً أن يتمالك نفسه، فهرع لحظتها ونزل مهرولاً باتجاه الملعب لاحتضان هذا الفتى البارع لاعب المنتخب اليمني ورفعه على كتفه (انظر الصورة).
- رئيس الوزراء الصيني حاملاً النجم اليمني احمد زايد في لحظة فوز اسيوية فارقة ( بكين ـ 1971)
كرمه وقبله وسلمه الكأس، وفي لحظة الاحتفال بفوز البطل اكتسحت الجماهير الآسيوية الحواجز واندفعوا كالأمواج باتجاه البطل ذو الجسد الصغير الذي منحهم كل هذه المتعة.
يقول أحمد زايد: "لقد أصبت بالذعر فهربت من الجماهير والتجأت إلى الحمامات ودخلت الحمام وأغلقت الباب واختفيت. حاولت الشرطة دفع الجماهير عن المكان محاولين معي أن أخرج لكنني رفضت وطلبت أن يأتوا برئيس البعثة اليمنية الأستاذ أحمد يحيى الكبسي. فبحثوا عنه وأحضروه لإقناعي بالخروج ومن خلف الباب أقنعني: افتح افتح يا بطل سعليك سعليك".
"فتحت الباب" يقول أحمد زايد ويضيف: "كنت خائفاً جداً من كمية الجماهير بالآلاف الذين اندفعوا كاسرين كل الأطواق والحاميات باتجاهي".
سألته: هذه جماهير معجبة بأدائك، ما الخطر في ذلك؟ أجاب فوراً: "كنت سأموت بكل تأكيد أمام هذه السيول العظيمة التي فقدت وعيها واكتسحت الحواجز كلها نحوي"!
هذه البطولة بالنسبة لـ"أحمد زايد" كانت البداية الأولى في مشواره العالمي الذي تتابع بالفوز غالباً أو بإحراز مراكز متقدمة في أسوأ الحالات في 45 دولة.
ولم يمثل أحمد زايد بلده (اليمن) في مشاركاته الكروية خارجياً وإنما مثل الكرة العربية ومثل القارة الآسيوية برمتها.
استضافت "المغرب" عام 1985 بطولة الألعاب الرياضية في مدينة "سطات" وكان أحمد زايد هو نجم هذه البطولة كلها عندما حقق المركز الأول عربياً وأحرز الميدالية الذهبية.
تاريخ رياضي مليء بالدهشة وبالميداليات والكؤوس. وعاش نجم "النادي الأهلي" لكرة تنس الطاولة حياة كلها نجومية كواحد من أساطير الرياضة اليمنية ومشاهيرها الكبار.
شارك في اليابان عام 1974 وأحرز الميدالية البرونزية عندما فاز بالمركز الثالث على مستوى آسيا.
وفي "لاقوس" بنيجيريا حقق المركز الثالث أيضاً على مستوى القارات الثلاث: آسيا ـ أفريقيا ـ أمريكا اللاتينية.
وهكذا طاف أسطورة كرة تنس الطاولة اليمني مدن وعواصم العالم (45 دولة) مشاركاً ضمن تمثيل رسمي لليمن وكان دوماً في الصدارة على امتداد 35 عاماً من العطاء والشهرة العالمية.
سيرة رياضية مترامية الأطراف وآهلة بالانتصارات ومتحف ضخم من الجوائز والصور المحلية والعربية والعالمية وعشرات بل مئات المشاركات محلياً وإقليمياً ودولياً.
عشرات الصور مع الرؤساء والمسؤولين من أنحاء العالم مطبوعة على جدران غرفته المهترئة وهو يتسلم الكأس من هذا أو يتقلد الميدالية من ذاك أو وهو محمولاً على أكتاف الجماهير وعشاق هذه اللعبة الفريدة بما فيهم رئيس الحكومة الصينية نفسه.
ألبومات ضخمة من الصور. بل كراتين مركومة بجوار فراشه الفقير والبالي وعشرات الميداليات البرونزية والذهبية والفضية ومن الزمرد معلقة بالجوار. وعلى الرف الكؤوس والنياشين الرياضية.
سألته: "لماذا لم تبيع الميدالية الذهبية وترمم البيت" فانفجر ضاحكاً: "هي ليست ذهباً خالصاً يا صديقي وإنما مطلية بالذهب والقيمة اعتبارية ومعنوية أكثر منها مادية".
قال إن المسؤولين اليمنيين كانوا يكرمونه دائماً عندما كان يعود ضافراً لكن: "كانوا يكرموني بميداليات أيضاً وبجوائز عبارة عن تحف وهدايا بسيطة ويلتقطون الصور معي".
ويضيف: "عندما رجعت من الصين منتصراً في بطولة القارات عام 72 كرمني محسن العيني بسيكل".
ضحكت. فاستغرب: "لماذا تضحك. كان السيكل تلك الأيام يعادل سيارة مرسيدس وكنت ربما الوحيد في المدينة معه سيكل".
يناشد الكابتن أحمد زايد بكل رجاء في رسالة مفتوحة: "الشعب اليمني أن يقف معي وأن يساعدوني في ظروفي العائلية والسكنية والمعيشية الصعبة". وأضاف: "أنا منكوب وعائلتي تنام في البرد لا يوجد معنا بطانيات جيدة ندفي ولا يوجد في بيتي مغسلة ولا ثلاجة ولا غسالة ولا فرن ولا سخانة ولا ضوء ولا ماء نظيف حتى خزان الماء انتهى وتآكل من الصدأ".
يعيش الكابتن أحمد زايد أوضاعاً صعبة للغاية، ومن الواضح أن منزله القديم المبني من الياجور بحاجة إلى ترميم عاجل، حيث الجدران من الداخل مهترئة وعارية من القص والطلاء ومغمورة حوافها بالرطوبة، الأمر الذي تسبب لهم في أمراض جلدية وأمراض في الجهاز التنفسي مثل الربو.
هذه الحالة البائسة التي يعيشها نجم المنتخب الوطني وأحد أساطير النادي الأهلي بصنعاء مخجلة ليس فقط لكل المسؤولين عن الحركة الرياضية في اليمن، بل أيضاً لرجال الأعمال والميسورين داخل مدينة صنعاء وخارجها.