صنعاء 19C امطار خفيفة

أحمد السقاف: مصباحٌ عربي من الوهط راح يُنَوِّر كُلَّ بَيت

أحمد السقاف: مصباحٌ عربي من الوهط راح يُنَوِّر كُلَّ بَيت
الشاعر والأديب الكويتي الراحل أحمد السقاف - ريشة رقمية النداء

1. لمحة عامة*

في لحظة فريدة بين كل ما حظيت به من جميل المصادفات ونادرها، أتيح لي اللقاء بالأستاذ الكبير أحمد السقاف في داره العامرة بمدينة الكويت؛ حيث حرصنا -صديقي الشاعر د. جنيد محمد الجنيد وأنا- على زيارته في أحد الأيام الأربعة التي قضيناها هناك بدعوة من مؤسسة البابطين الثقافية، عام 2008.

وإذا كان ما يزيد تلك السانحة حميميةً وقوعها قبل أقل من عامين على رحيله، فإن أهم ما يميزها لقاؤنا أحد الرواد الكبار في تاريخنا الثقافي والأدبي والقومي المعاصر، ومن أهم الشخصيات اليمنية والكويتية والعربية الفاعلة في الواقع الثقافي والتعليمي والسياسي بوجهه المشرق في وطننا العربي عمومًا؛ ناهيك عن أدبه الثري وشعره الرائق الجميل.

ولا عجب؛ فأول أرضٍ مس ترابُها جلدَ الفتى أحمد محمد زين علوي السقاف، ونشأ فيها شخصُه، هي الوهط بلد السادة آل السقاف أساسًا في الديار اللحجية من الجنوب اليمني، حيث تعد بمثابة هجرة من هجر العلم المعروفة في عموم اليمن، والتي برز منها عديد من الأفذاذ الذين يتقدمهم بلا شك الراحل الجليل المولود فيها عام 1919. وبمخائل النجابة الظاهرة عليه فتيًا، نهل من علومها الدينية والأدبية واللغوية. فما جاوز العاشرة إلا وقد حفظ القرآن وشيئًا من تفسيره ومنثور علوم الدين والعربية ومنظومها، قبل التحاقه في حوطة لحج العبدلية بالمدرسة المحسنية، حتى نيله عام 1935 إجازة تدريس العلوم العربية والدينية؛ ليرتحل في 1936 إلى العراق، حيث أكمل تعليمه الثانوي ثم الجامعي بكلية الحقوق، فينتقل أواخر 1943 إلى الكويت التي اتخذها منذ شبابه الأول وطنًا أول أسهم فيه بأدوار جليلة وفارِقة في التربية والثقافة والفكر والأدب والنضال القومي العربي في أسمى تجلياته منذ مطلع الأربعينيات حتى رحيله يوم 14 أغسطس 2010.

فكان تجسيدًا ظاهرًا لمفهوم المثقف العضوي الحديث قبل شيوعه، ودون أدنى ادعاء، من خلال أدواره في كل تلك المجالات، وإسهامه العملي عبر مختلف المواقع التي تولاها في التعليم والصحافة الثقافية والطباعة والنشر، فوزارة الإعلام الكويتية والهيئة العامة للجنوب والخليج العربي والأمانة العامة لرابطة الأدباء الكويتية، حتى المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، مرورًا بدوره التاريخي الذي كلفته به الكويت في التهيئة لإصدار مجلة ثقافية عربية كبرى، فكان له الجهد التأسيسي المعروف في إنجاز ذلك على النحو المبهر بصدور مجلة "العربي"، في ديسمبر 1958.

أما ثمار جهده الملموسة في اليمن جنوبه وشماله، وغيره من البلدان العربية في الجزيرة وخارجها، فلاتزال على ما قدمته الكويت لوطنها الكبير، وعلى ما بذله الراحل الكبير، شاهدًا حيًا تلمسه فيها الأجيال وتتذوَّقه جنيَّا.

(إضاءة: عمل السقاف مدرسًا في كبرى مدارس الكويت، ثم ناظرًا لها خلال عقد كامل ابتداءً من 1944، مؤسسًا منذ ذلك الحين لنشاط ثقافي قومي لا يكل، أصدر خلاله مع بعض أصدقائه أول مجلة ثقافية تطبع وتوزع في الكويت "كاظمة"، 1948، ثم "الإيمان" بعد إنشائهم النادي الثقافي القومي، 1952. وطوال نصف القرن الممتد منذ 1950، أصدر العديد من المؤلفات؛ منها: المقتضب في معرفة لغة العرب، أنا عائد من جنوب الجزيرة العربية، الأوراق في شعر الديارات النصرانية، حكايات من الوطن العربي الكبير، تطور الوعي القومي في الكويت، في العروبة والقومية، العنصرية الصهيونية في التوراة، شعر أحمد السقاف، قطوف دانية، 20 شاعرًا جاهليًا ومخضرمًا، أحلى القطوف، 20 شاعرًا أمويًا ومخضرمًا، الطُّرَف في الملح والنوادر والأخبار والأشعار، أحاديث في العروبة والقومية، أغلى القطوف، 20 شاعرًا عباسيًا، وغيرها من الكتب والدواوين الشعرية.

تزوج السيدة نجيبة الرفاعي، وأنجبا: محمد وأسامة وهيفاء ولمياء وميسون وفارعة).

ختامًا لهذه الشهادة القاصرة عن الرجل مع ذكرى رحيله الرابعة عشرة، ننقل نماذج من شعره الذي تُرجِم بعضُه إلى لغات أجنبية، وتضمنت بعضَه مقرراتٌ دراسية عربية، وتغنى ببعضِه عديد من المطربين يمنيًا وعربيًا، منهم الأستاذ محمد مرشد ناجي رحمة الله عليه، ونجاة الصغيرة، ومحمد محسن عطروش مد الله في عمريهما؛ وغيرهم.

لكن لا يسعنا قبل ذلك إلا ترجيع كم هي عزيزة على النفس جدًا تلك اللحظات التي استهللنا بها هذه الأسطر؛ إذ أتيح لنا فيها الجلوس بحضرة واحد من كبار عصرنا وروَّاده المعدودين، وهو محتفظ في آخر عمره المعطاء النبيل بحضوره الجميل وصفاء فكره وروحه اليمنية/ الكويتية، والعربية السامية على الأقطار.

 

2. لُمَع من شعره

من قصيدته المغناة الشهيرة، اللقاء العظيم:

 

لكَ اللهُ من قلبٍ يمزِّقُهُ الألَمْ

ويا نفسُ صبرًا إن ألمَّ بكِ السَّقَمْ

ينام خليُّ القومِ ملءَ جفونهِ

ونومُ ذوي الشوقِ المبرِّح كالعدَمْ

تعلَّقتُها عن غير قصدٍ فأصبحت

خيالي وأفكاري التي تلهِمُ القلَمْ

فوالله لو مرَّت بشيخٍ معمِّرٍ

عظيمِ التُّقى يومًا، لحَلَّ بِهِ لَمَمْ..

تناسقتِ الأعضاءُ فيها، وإنها

لتمثالُ فنانٍ ولوحةُ من رسَمْ

ويطربني منها حديثٌ مهذَّبٌ

رقيقُ المعاني رائعُ الجَرسِ والنَّغَمْ

وإن ضحكت هزَّتْ قلوبًا وأنعشتْ

نفوسًا، وألوَتْ بالكآبةِ والسَّأَمْ

فأطرقتُ، والقلب المتيَّمُ خافقٌ

إلى رشفةٍ ترويهِ من شفةٍ، وَفَمْ

وقلت لها نفسي الفداءُ، فإنني

أرى أن هذا الحسنَ يُعبَدُ لا جَرَمْ

فكوني كما أبغي خيالًا لشاعرٍ

يترجمُ أسرارَ الجمالِ إذا نظَمْ

على أن ديوان شعر أحمد السقاف -منذ الأربعينيات وحتى اكتماله- قد وُصِف بأنه "سجلٌّ فنيٌّ لحركة الشعور القومي"، بتعبير الدكتور سليمان الشطي. وبهذا السجل الفني نجده يتطرق لمختلف البلاد العربية، ابتداءً بطبيعة الحال من فلسطين ونكبتها.

فها هي فارعة السقاف قبل يومين تخاطب أباها: "منذ ذلك الحين وأنت تنادي فسكبت الدمع على كل الضحايا في المجازر التي ارتكبها العدو في المدن والقرى الفلسطينية، فكتبتَ قصيدة يا ساكب الدمع" عام 1948"؛ ومنها:

قل لي بربك هل فارقتها لهبًا

وهل غدت لبني صهيون ميدانا؟

وكيف خلفت حيفا بعد نكبتها؟

وهل مررت على عكا، وبيسانا

ودير ياسين، حدث عن فجيعتها

ففي فجيعتها بعثٌ لموتانا

خفَّ الدخيلُ إليها وهي آمنة

وراح يذبح أطفالا ونسـوانا

حتى يقول بعد أربعين عامًا عن فلسطين وانتفاضة حجارتها وفتيانها:

ليس عندي كنايةٌ واستِعَارَةْ

فَقَريضي مُسْتَلْهَمٌ من حِجارَةْ

هؤلاءِ الصِغارُ قد أيقظوا

الشَّعْـب وهاجُوا إباءَهُ واقْتِدارَهْ

إنْ هوى منهُمُ شهيدٌ تَعَالتْ

زَغْرَدَاتُ النساءِ في كلِّ حارةْ

مثلُ عُمْرِ الزهور مثلُ العصافيـ

ـر؛ ولكنَّهَم لفَجْـرٍ بِشارةْ

كما يقول مثلًا عن عُمان في الستينيات من القرن المنصرم:

كُلُّ شبرٍ من الترابِ العماني

هو قلبي ومهجتي وكياني

أفتديه، وكُلُّ حبَّةِ رملٍ

منهُ أغلى عندي من العقيانِ

ولهُ في دمي حقوقٌ، وهل

ينكرُ حقَّ الديارِ غيرُ الجبانِ

أهلُهُ معشري، فأنَّى توجهـ

ـتُ وجدتُّ الوجدان من وجداني

والأصولُ التي نمتهم نمتني

واللسانُ المبينُ فيهم لساني

أمةُ العُربِ أنجبتنا؛ فهذا

من مَعَدٍّ، وذاك من قحطانِ

والشمالُ الذي يتمِّمُهُ نَجدٌ

حبيبٌ إلى الجنوبِ اليماني

وعن بلاد الأوراس:

وما أرض الجزائر غير أرضي

بقلبٍ تُفـتَدَى مِـنِّي، ومُقْلَةْ

أقبِّلُ من ثَراها كُلَّ شبرٍ

بكلِّ جوارحي، مليونَ قُبْلَةْ

أما اليمنية التي فتنته، فهي حَجَّة، "معقل الحُسنِ" عنده، والمصيف العربي الفريد "بين الكويت وطنجَة"؛ وفق ما تغنى بها زائرًا محبًا مشوقًا، عام 1984:

مُلئَتْ مُهجَتي سرورًا وبهجَةْ

حين أبصرتُ مَعقِلَ الحُسنِ حَجَّة

بُنيتْ في السَّماءِ، فالناسُ فيها

كلُّ شخصٍ يرى حواليهِ بُرْجَهْ

تتباهَى بها الجبالُ، ويعنو

تحتَها مُمرِعٌ يداعبُ مَرجَهْ

زَحَمَتْ ضفَّتيهِ أحلى البساتيـ

ـنِ، وَرَوَّتْهُ لُجَّةٌ بعدَ لُجَّةْ

والجمالُ الأصيلُ باقٍ، ويفنى

كلُّ حسنٍ لهُ تزاويقُ فجَّةْ

مَنْ يزرها، يجِدْ مصيفًا عجيبًا

هوَ فردٌ بين الكُوَيت وطَنجَةْ

لكنها الكويت بالطبع هي مَن تظفر بمهجة الشاعر السقاف حقًا. وما أبدع موازنته بين انتماءيه العربي والكويتي التي يقول عنها الدكتور يوسف عز الدين إنها عقيدة واضحة في شعره "فهو عربي النزعة من المخلصين للوحدة العربية، وقف شعره ضد التفرقة والعنصرية والإقليمية مع المحافظة على انتمائه الشديد لبلده الكويت والشغف بها والتغني بجمالها".

فقد وازن الرجلُ بين الحُبَّين مُرهَفًا، وعدل بينهما على نحو أخاذ يعبر عنه قوله محقًا عن كُوَيتِه، وكأنها إيَّاه: (هيَ في ديارِ العُربِ مصباحٌ ينوِّرُ كُلَّ بَيتْ). فهي الحبيبة في شعره:

يقولُ لي الناسُ: ما اسمُ الحبيبةْ

لقد حيَّـرَ الفكرَ هذا السؤالْ

فقلتُ: الحكاية جدًا غريبةْ

فما من غموضٍ وما من خيالْ

أعيدوا التأمُّلَ في كُلِّ بَيتْ

فقالوا عرفنا: الكويتُ، الكويتْ

ولا نختتم هذه اللُّمَعَ إلا عند بعض ما قال في جمال عبدالناصر الذي كان السقاف -وهو القومي العربي الأصيل صلابةً ورقيًَّا- شديدَ التأثر بغيابه. فمما قال فيه مودِّعًا من قصيدة له بعنوان النسر:

أنتَ باقٍ، ولم تزل في الوجودِ

في قلوبٍ، وفي عيونٍ سُودِ

الجماهيرُ نورُها أنتَ في الليـ

ـلِ، وإلهامُها إلى المنشودِ

حُبُّها حُبُّ عابدٍ قدّمَ النفـ

ـسَ، وأهدَى العِنانَ للمعبودِ

ما شَكَتْ دربَكَ الطويلَ وقد كا

نت تُمنِّي الخُطا بدربٍ جديدِ

أنتَ علَّمتَها الصُّعودَ إلى المَجْـ

دِ، وعلَّمتَها احتمالَ الصُّعودِ

رحمة الله عليهما، وسلامه، ورضوانه.

 

---

* معلومات هذه الشهادة ونصوصها مستقاة بتصرف ومراجعة من ملفات ومقالات، أهمها:
(موقع مجلة العربي الإلكتروني)، فارعة السقاف: السقاف، الشاعر المعلم.. رائد الوعي القومي.
(موقع مجلة العربي الإلكتروني)، سعدية مفرح: أحمد السقّاف شاعر العروبة والثورات.
(موقع صحيفة الخليج الإلكتروني)، ملحق: أحمد السقاف وجدل النهضة والمعرفة.
(موقع الجريدة الإلكتروني)، أحمد السقاف، شاعر الكويت النابض عشقًا للعروبة.
(موقع كتابات الإلكتروني)، محمد مختار: أحمد السقاف شاعر كويتي نظم شعرًا في حب العراق.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً