صنعاء 19C امطار خفيفة

راشد محمد ثابت.. إنهم عارنا في اليمن

راشد محمد ثابت.. إنهم عارنا في اليمن
راشد محمد ثابت( منصات التواصل)

بدأت فكرة كتابة هذه التحية/ المقالة للصديق الأعز، راشد محمد ثابت.. المثقف والسياسي والفدائي، قبل أكثر من شهر ونصف، وأنا أعيد -للمرة الثانية- قراءة كتابه الفكري والسياسي والتاريخي، التحليلي النقدي، والتوثيقي الجميل، مما جمعه من مكتبته الخاصة حول تاريخ الثورة اليمنية، وتحديدًا تاريخ ثورة 14 أكتوبر، وهو الكتاب الذي أصدره في العام 2007م، تحت عنوان: "ثورة 14 أكتوبر اليمنية، من انطلاقتها حتى الاستقلال"، ووجدت فيه بصيرة عقلية/ فكرية نقدية، فيها الكثير من الموضوعية، واحترام للمنطق التاريخي في الكتابة. وتوقفت عن كتابة التحية المستحقة له، بسبب وعكة صحية ألمت بي أوقفتني من الاستمرار في الكتابة، عن السياسي والمثقف والشاعر والصديق راشد.

 
وظل هاجس الكتابة عن راشد، يراودني في كل حين حتى أفيه بعض حقه علينا، كمثقف وسياسي، وقبل كل ذلك كفدائي في جبهة مقاومة الاستعمار البريطاني منذ النصف الأول من ستينيات القرن الماضي.
 
راشد، مثقف وباحث مقتدر دون ادعاء. دخل للكتابة والبحث من حقل السياسة والثقافة معًا، ومن يعود لقراءة سردية فدائيي الجبهة القومية الكبار وحتى الأصغر في السن منهم، سيجدهم يجمعون بصورة خلاقة بين الفكري والثقافي والسياسي، على سبيل المثال: قحطان الشعبي، فيصل عبداللطيف، عبدالفتاح إسماعيل، علي صالح عباد (مقبل)، سلطان أحمد عمر، علي عبدالعليم، خالد عبدالعزيز، سيف الضالعي، علي ناصر محمد، عبدالباري قاسم، نور الدين قاسم، محمد أحمد البيشي، محمد صالح مطيع، محمد سعيد عبدالله (محسن)، أنور خالد، محمد ناصر... إلخ.
 
قيادات شابة ثورية، جمعت بين الفكر والسياسة والثقافة، بل والدبلوماسية، وهو ما شهد به قادة الدبلوماسية الاستعمارية البريطانية وهم يواجهونهم، في حوار ساخن سياسي/ دبلوماسي جدي وصعب، في مفاوضات قضية الاستقلال الوطني، الأمر الذي يعني وعيًا حقوقيًا وقانونيًا وتاريخيًا، كانوا مسلحين بكل ذلك، إلى جانب الفكر السياسي على قاعدة الثقافة الوطنية والقومية والتاريخية.
 
راشد بن ثابت، واحد من أنبل وأجمل هذه الرموز، التي جمعت بين الفدائية في زمن التضحيات الصعب، وبين الاستزادة من الفكر التحرري الوطني والقومي، برؤى فكرية وثقافية مفتوحة على المعرفة الإنسانية، وهو ما ساعد على تطورهم الذاتي لاحقًا كمثقفين وباحثين وشعراء على درب ثقافة الحرية.
 
حين عدت -ثانية- لقراءة كتاب راشد، كتابه المشار إليه، تأكد لي هذا المعنى بعمق من حديثي وفهمي لصورة المثقف والباحث.
في تقديري، لا غنى لمن يتوجه نحو الكتابة عن ثورة 14 أكتوبر، عن العودة إلى كتاب راشد، فيه رؤى تحليلية عميقة، بعقل نقدي مفتوح بعيدًا عن العصبوية الأيديولوجية والحزبية إلى حد بعيد، فضلًا عن الكم الهائل من المعلومات، والأهم من المعرفة التاريخية العامة، حول الكثير من تفاصيل ثورة 14 أكتوبر 1963م، والخلفيات التاريخية التي سبقت الثورة ومهدت لها، ما يكشف تفكيرًا عقلانيًا تحليليًا نقديًا، فضلًا عن اتجاه توثيقي وأرشيفي، يضع الخبر والحكاية التاريخية (الأحداث)، والمعلومة في مكانها الذي يؤكد الفكرة المطلوب البحث حولها.
 
راشد مثقف أصيل بالفعل وليس بالقوة، حسب تعبير أرسطو، ومع أنه تبوأ مواقع سياسية (وزير) ودبلوماسية (سفير) لأكثر من مرة، وهو من مهندسي وصُنّاع مشروع الوحدة، كفكرة وقضية، إلا أنه طوال هذه الرحلة الطويلة في الثقافة، وفي قمة السلطة، لم نره مهجوسًا بالنجومية، بل هو بطبيعته الذاتية لا يحب الأضواء، ولا يحرص على التباهي بما قدمه لهذا البلد على أكثر من صعيد وموقف.
 
وأنت تحاوره في حقل الفكر والسياسة والثقافة، يحرص كثيرًا ودائمًا على أن يقدم رؤيته، فكرته، بعيدًا عن لغة الأنا.. إنه تواضع وبساطة الكبار.
 
راشد، ذات إنسانية كبيرة وبسيطة، هي من نوع السهل الممتنع في ممارسات القادة الكبار، عرفته في كل الحالات ولم أخرج بانطباع عنه وحول اسمه، سوى أنه من القادة/ الرجال الاستثنائيين الذين يجمعون بين قوة وعظمة البساطة، وكبرياء جمال الروح الإنسانية المعطاءة بلا حدود.
 
لا يتعمد في سلوكه اليومي الاعتيادي الحديث بلغة الناس البسطاء، لغة ومفاهيم ووعي وفكر أوسع قطاعات المجتمع، إنه -كما سبقت الإشارة- التواضع الفطري الإنساني الذي جُبِل به، وتشكل تكوينه الاجتماعي/ الثقافي على أساس من ذلك.
هكذا هو راشد.
 
راشد، مثقف، وباحث، وشاعر، وسياسي، ورجل دولة محنك، صنع اسمه ومكانته بما في داخله من معنى، وليس من خلال علاقته بالسلطة، لأنه أحد الرموز الذين صنعوا السلطة/ الدولة الوطنية الاستقلالية الجديدة في جنوب اليمن، باعتباره أحد الفدائيين الذين حملوا أرواحهم على أكفهم في مقاومة الاستعمار البريطاني بالفعل، وليس بادعاء القول.
 
لم ألتقِ مع راشد في مقايل كثيرة، سوى مرة في عدن في منزله، في الثمانينيات، وهو وزير ثقافة، ومرة ثانية لساعة واحدة في منزله في صنعاء، ولكنني التقيته وقعدت معه عشرات المرات، لقاءات عابرة مطولة غير منظمة بين وقت وآخر، في مكتب د. عبدالعزيز المقالح -وفي غيره- وكنت أنفرد به في أحاديث مطولة جانبية. لقاءات مملوءة بالتقدير والمحبة.. لقاءات قال فيها كل ما يريد حول قضايا عديدة أكدت الحياة صدقيتها.
 
لم أقف أمام شعره طويلًا، وهو الشاعر الذي كتب تحت أسماء مستعارة، كما كتب شعرًا طيلة العقود الأربعة منشورًا باسمه في المجلات والصحف في الجنوب والشمال.
 
من الوفاء والتقدير له، وهو مقيم بيننا، ويعاني وحيدًا تعب الجسد، المرض دون معين، أن نبدأ بجمع أعماله الفكرية والشعرية المنشورة في المجلات والصحف، ونرسلها للطبع في صورة أعمال كاملة، وفاءً وتقديرًا لدوره في السياسة الوطنية اليمنية، وفي الفكر، وفي بناء الدولة.
بعد أن عز الوفاء ممن هم عارنا في اليمن المعاصر في عدن وصنعاء.
بعد أن تحولت مؤسسة هائل سعيد أنعم إلى دولة رعاية اجتماعية بديلة عن الدولة، في رعاية رموز الفكر والسياسة والأدب.
ما نطالب به للوقوف لحماية حياة راشد محمد ثابت، ليس مقابلة لديون مستحقة له علينا، بل هو واجب أخلاقي ووطني وإنساني.
هل كثير على من كان راشدَنا ومرشدَنا إلى طريق الوطنية اليمنية، طريق السلام، والوحدة، وبناء دولة اليمن الديمقراطي الموحد.. حقه علينا كدولة غائبة، وأصدقاء، الكثيرين منهم يعيشون حالة القهر التي وجد راشد نفسه يعتصر وجعًا وألمًا في قلب جحيمها القاسي؟
أنا هنا لا أتحدث عن أصدقاء ارتهنوا لصداقة السلطة والمال، وشراء العقار، وتكديس الأرصدة في البنوك، وصاروا جزءًا من عنف السلطة، ومن فسادها.. وهم -اليوم- عارُنا في اليمن.
مع راشد نجد أنفسنا أمام مثقف حقيقي، يقرأ أكثر مما يكتب، يتابع كل جديد معرفي، وثقافي، وسياسي.. يقرأ الكتاب، والواقع، بعقل نقدي عقلاني مفتوح.
 
ستجد التاريخ، والفكر التاريخي اليمني حاضرًا في كل ما كتب -على قلة إنتاجه الفكري المنشور- ففي كتابه "ثورة 14 أكتوبر اليمنية من انطلاقتها حتى الاستقلال"، تجده يعود بك إلى التاريخ اليمني القديم (فلاش باك)، وإلى تاريخ الإمامة السياسي، بوعي وفكر معرفي وثقافي رصين، في إضاءات لها معنى حول ذلك التاريخ، وبالعودة للمصادر التاريخية الحية المعاصرة.
من اللقاءات الكثيرة العابرة به، ومن القراءات لما كتبه، تكونت معرفتي الأعمق به.
 
وهو يتكلم، وهو يكتب، وهو يعيش في تفاصيل الحياة اليومية، ترى خارطة اليمن الكبير.. ترى راشد المثقف والسياسي والإنسان في كامل بساطته الشخصية وأناقته الوطنية، وسمو جمال روحه الإنسانية.. يسكن وجدانه الداخلي كل ما هو جميل في الحياة.
وذلك ما جعله عابرًا للمذهبية والطائفية والقبلية والجهوية والمناطقية، وطني يمني، وتقدمي إنساني بامتياز.
دون أي تحفظات، أو مبالغات فكرية وسياسية وثقافية، يمكنني القول إن راشد محمد ثابت، واحد من أجمل ما أنتجته الثقافة الوطنية اليمنية المعاصرة، يكتب ليقول ما يضيف للمعنى السائد، وينشر ما يلزم من القول، وليس كيفما اتفق، إنها مسؤولية الكلمة/ الكتابة، في كل ما كتب.
إذا عدت لقراءة ما كتب في الفكر والسياسة، ستجده يضيء على جوانب مهمة، ومهملة أو منسية، ويذكرنا بها.. يذكرنا ببعض التفاصيل المهمة، وهو ما وجدته وأنا أطالع كتابه الشامل عن "ثورة 14 أكتوبر اليمنية...".
في إضاءاته على التاريخ السياسي للإمامة، بالعودة لبعض المراجع المعاصرة الخالية من العصبية والطائفية، وفي إشاراته العابرة حول المطامع السعودية على وحول الحدود اليمنية، تجده يعود لخلفيات فكرية وسياسية تسند ما يذهب إليه وتؤكد فكرته ورؤيته حول المسألة المبحوثة.
إنه العقل النقدي التاريخي.. العقل المنهجي المنظم الذي يحيط بما يبحثه من جميع جوانب تفاصيل الفكرة بهدف إيضاح المعنى.
راشد محمد ثابت أحد أهم وأنبل رموز العمل الفدائي في جنوب اليمن، وهو المثقف والسياسي، ورجل الدولة، الذي بقي طيلة هذه الرحلة التي تصل إلى أكثر من نيف وخمسة عقود، ذلكم الإنسان البسيط الذي تعرفه من حركته الجسدية الهادئة، ومن نبرات صوته الخفيضة حتى وهو في أصعب وأقسى لحظات توتره في الحديث والكلام.
بساطة تشير إلى اجتماعيته الإنسانية في علاقته بناس الوطن من جميع جهات الجغرافيا اليمنية.
ومن كل هذا التاريخ النبيل الوطني والقومي والإنساني الذي مثله وجسده راشد محمد ثابت، من وهو في سجون الاحتلال البريطاني، يتلقى أقسى أنواع العذاب والقهر، دفاعًا عن حرية واستقلال بلادنا، وصولًا إلى دوره الكبير مع أخيه الأستاذ المناضل يحيى حسين العرشي في صناعة مجد مشروع الوحدة، وصولًا إلى هذا الوضع البائس والمزري والمأساوي، سياسيًا ووطنيًا في الشمال والجنوب، والذي معه نفهم معنى حقيقة تجاهله طيلة سنوات مرضه، وفترة حاجته للدعم الواجب عليهم وطنيًا، بحكم أنهم سلطات أمر واقع مفروضة بالقهر علينا، من الخارج.
في هذا الزمن المنحط، الذي وجدنا أنفسنا فيه أمام قيادات كرتونية/ تابعة بدون أدنى كرامة شخصية ولا كرامة وطنية، وليس من تفسير لموقفهم من راشد -وغيره من الأبطال- سوى انتقام اللصوص والفاسدين والجبناء، بأثر رجعي منهم، للأدوار الوطنية التي قاموا بها في تاريخ اليمن السياسي المعاصر.
ذلك أن راشد بتاريخه ودوره ومكانته يمثل ويجسد النقيض الأخلاقي والوطني الجذري لمعنى وجودهم اليوم، ليس في السلطة، بل ولمعنى وجودهم الفائض عن الحاجة في الحياة عامة.
إن راشد محمد ثابت، في سيرته الذاتية والوطنية والإنسانية، نقيض أخلاقي وسياسي وضميري وإنساني لكل ما هو قائم في الشمال والجنوب.. وكأنهم يعاقبونه على ما اقترفه من "إثم" تحرير جنوب الوطن، والدفاع عن ثورة 26 سبتمبر، لأنهم بتفكيرهم وسلوكهم، وممارساتهم تعبير عميق عن "ثورة مضادة" لكل القيم والمبادئ التي مثلها وجسدها وكانها راشد طيلة العقود الستة المنصرمة، ذلك أن راشد هو ضميرهم الأخلاقي والوطني والإنساني الغائب عنهم، ضميرهم الذي يذكرهم بهوانهم وانحطاطهم، ومن أنه لا معنى لوجودهم، ومن أنهم كائنات بدائية فائضة عن الحاجة.. إنهم يا راشد، عارُنا في اليمن.
ورحم الله جان بول سارتر، صاحب المقولة المشهورة/ الكتاب: "عارنا في الجزائر"، وهو ما يصدق على من يسيطرون على الحكم في اليمن اليوم، من أنهم عارُنا الفاجع والقاتل، في اليمن.
لك المجد والسمو في العلالي، أيها الصديق والقائد والفدائي، راشد.
ولا نامت أعين الفاسدين واللصوص في صنعاء وعدن.
وجميل الشكر لرمز بيت هائل/ عبدالجبار هائل، في لفتته الكريمة التي تضيف له/ لهم معنى أخلاقيًا وإنسانيًا إضافيًا لما هم عليه، في واقع غياب الدولة الوطنية الحامية والراعية لناس المجتمع.
وإلى أن نلتقي، عزيزي راشد، في صنعاء وفي عدن، وقد تحررنا من هذا العار القاتل والفاضح.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً