صنعاء 19C امطار خفيفة

عودة إلى عالم "البردوني"!

2024-10-10
الأستاذ الشاعر عبدالله البردوني (صورة في فناء منزله بعدسة عبدالرحمن الغابري)

 

دائمًا ما أتعجب كيف واتتني الجرأة في مارس 1998 لإجراء مقابلة مع الشاعر عبدالله البردوني! لست اسمًا معروفًا، لا خبرة لي في الإعداد أو تنفيد حوارات، اخترت الشخص الذي يرجح ألا يوافق. علاوة على ذلك كله، فإنني لست الصحفي المؤهل لإجراء مقابلة مع أديب اليمن الأول.

قاومت دواعي العقل والمنطق مستذكرًا الساعة التي قضيتها في مجلس البردوني قبل سنتين، رفقة الزميل القدير حسن العديني، لإجراء حوار لجريدة "السفير" البيروتية.

***

اتصلت به مساء هاتفيًا، وقدمت له نفسي طالبًا تحديد موعد لزيارته في منزله. اقترح أن أزوره عصرًا بعد يومين.

في الموعد كنت أطرق باب حديقة المنزل، ارتقيت درج مدخل الدور الثاني (وعددها 20 درجة حسبما قال هو للإعلامية الأردنية نائلة الأطرش، في حديث لتلفزيون قطر منتصف التسعينيات)، حيث تنتظر زوجته فتحية الجرافي. طلبت مني التوجه يسارًا إلى الحجرة التي يتخذها الشاعر مجلسًا لاستقبال الضيوف... ومحرابًا.

صافحته! دعاني للجلوس إلى يساره في صدر المجلس، وسألني مجددًا عن غرضي من إجراء حوار معه. أوضحت أنني صحفي مهتم بالأخبار السياسية في اليمن، وأنني لست صحفيًا في قسم الثقافة والأدب في جريدة "الوحدوي"، ولست قريبًا من الأدب، وهدفي في الأساس هو خدمة قراء الجريدة عبر إثارة قضايا وأسئلة متصلة بآرائه ومواقفه من مستجدات السياسة اليمنية مع الالتفات إلى قضايا كان فيها طرفًا أو شاهدًا في الماضي، الأمر الذي يفرض نقاش علاقة المثقف بالسلطة في العقود الأخيرة.

بدا مستحسنًا الفكرة، لكنه قال إنه متوعك، ولن يستطيع إجراء المقابلة اليوم، واقترح موعدًا جديدًا مطلع الأسبوع المقبل.

لم أغادر، فقد سارع إلى الطلب مني البقاء لنصف ساعة، لتبادل الحديث معي.

قدرت أنه يريد سبر أغوار صحفي غير معروف اقتحم عالمه!

بدأ بسؤال عن قراءاتي لأعماله.

قلت إنني قرأت أعماله كلها، بما فيها كتبه السياسية، وتلك التي تضم مقالاته.

سأل: أي ديوان يعجبني من دواوينه؟

"السفر إلى الأيام الخضر"، فورًا أجبت. وسألته بدوري أي ديوان هو الأحب إليه.

 

قال: "كائنات الشوق الآخر".

سألني عن قراءاتي الأخيرة.

عددت بعض قراءاتي الأخيرة، وبينها الأعمال الأخيرة لسعد الله ونوس "طقوس الإشارات والتحولات"، و"منمنمات تاريخية"، و"الأيام المخمورة"، وأضفت أن ونوس فاجأني بتقديم بعد لم يكن معلومًا في شخصية ابن خلدون.

كيف؟

سأل.

قلت قدم ابن خلدون كمتعاون مع العدو في إسقاط للمطبعين العصريين، فهو تعاون مع تيمور لنك وجيشه يحاصر دمشق!

قال: إيه إيه... وزاد "أدى" له خرائط ووصف سكان المغرب العربي!

كانت تلك صدمة أخرى، فعبدالرحمن بن خلدون، النابغة الحضرمي، ورائد علم الاجتماع في العالم، هو أيضًا مثقف في خدمة الأمير... والغازي إن تطلب الأمر.

قال لي إنه قرأ لسعد الله ونوس أغلب مسرحياته، وطلب مني جلب "منمنمات تاريخية" في المرة المقبلة.

تملكتني مشاعر زهو؛ فأقله سأصير قارئًا أعار البردوني كتابًا!

كان اليمن يومها في أزمة اعتكاف فرج بن غانم، رئيس الوزراء، في سويسرا. لذلك قلت للبردوني إنه يمكن إضافة محور إلى الحوار يتعلق بالنظام السياسي والوحدة. وافق قبل أن يسألني عن نتائج اللقاءات القبلية في صنعاء وأرحب ومأرب! حرت في الرد، فالمحرر في قسم الأخبار في جريدة أسبوعية مرموقة في صنعاء، لا يمللك معلومات عن اجتماعات قبلية (معارضة) داخل العاصمة وخارجها.

في حديقة منزله (من ارشيف الفنان عبدالرحمن الغابري)

قلت له إنني زرته في هذا البيت قبل 3 سنوات، رفقة الأستاذ حسن العديني، الذي أجرى حوارًا معه لجريدة "السفير"، فتذكر جيدًا الحوار، وقال إنه أثار غضب السلطة. وشكا من السلطة التي تضرب حصارًا حوله حتى إن وصول الصحفيين العرب والأجانب إليه صار صعبًا للغاية، لأنهم يمرون عبر قنوات الرئاسة (علي حسن الشاطر وعبده بورجي). وحول الحوار الذي نشرته "الرأي العام" الكويتية في الذكرى الـ5 لتحرير الكويت، قال إن الرئيس (الأسبق) علي عبدالله صالح، مساء صدور "الرأي العام"، اتصل ثائرًا ليسأله عن صحة ما نسب إليه، فأجبته: لا أتذكر التفاصيل، لكنها كانت حول الثقافة والأدب.

 أنهى الرئيس المكالمة، ليعاود الاتصال ليلًا وثورته قد زادت، فقد حصل على نسخة صوتية من المقابلة، واستمع إلى إجابات البردوني منطوقة بلسانه. قال له الرئيس وقد تيقن أن الجريدة الكويتية لم تضف أو تحور كلامه: الكلام كلامك يا بردوني! فقلت له: الصحفي سأل وأنا جوبت! غضب الرئيس المكتوم تسرب إلى لسانه؛ كيف تسمح له أن يسألك أسئلة كهذه "ليش ما تضع أسئلة المقابلة أنت!"، فاستغرب مقترح الرئيس، وقال: إذا وضعتها أنا من سيجيب عليها؟

قال الجملة الأخير وأطلق ضحكاته...

وأنا واقف عند باب محرابه مغادرًا، ألقى وصيته الأخيرة: "جهز نفسك جيدًا... أريده حوارًا ساخنًا".

عدت إليه عصر الجمعة!

هذه المرة كان هو الذي ينتظرني عند مدخل الدور الثاني. كان باشا يحمل لي بشرى! 

"قبل الظهر زارني فريق من القسم الإنجليزي للبي بي سي، وسجلوا حديثا معي!" 

أردف:"عيتفاجأوا لما تبث حلقة."

كان يحدثني كـ"صديق" واثقا من أنني اعرف من هم بالضبط الذين ستأخذهم المفاجأة. 

وقد سألني عندما جلست عن علاقة أحد معاونيه بالأمن فسارعت إلى نفي أية صلة المخابرات به. 

يا للوجع! 

الشاعر الأهم في اليمن بشعر أنه محاصر … ومراقب! 

***

نشر الحوار على حلقتين في "الوحدوي"، في أبريل 1998، واستقطب اهتمامًا واسعًا لأن البردوني ظهر معارضًا راديكاليًا لنظام صالح وللنخبة السياسية وقادة الأحزاب ونتائج حرب صيف 1994. أكثر من ذلك رافضًا بشدة ارتكاب الحركة الدستورية (انقلاب 1948) أخطاء جسيمة، أولها قتل الإمام يحيى، وثانيها الإتيان ببديل للإمام أشد سلفية منه!

بخصوص رؤساء اليمن الجمهوري (شمالًا) لاح متعاطفًا مع السلال، ناقدًا الإرياني، محبًا للحمدي، ناقمًا على صالح.

أثناء تفريغ الحوار وتحريره للنشر، حرت في فهم جملة قالها ردًا على سؤال لي عن انسداد سبل التغيير؛ قال مقتضبًا وواثقًا: "لم تتسمر الأفلاك"!

حاولت مرارًا فهم الجملة، مفترضًا أنني أخطأت سمعها. وقد أعدت السماع إليها في اليوم التالي دون أن أستوعبها. ولما كان قد قالها واثقًا مطمئنًا، نشرتها كما سمعتها لكأنني أمام قصيدة من قصائده استعصى عليّ فهمها على ما فيها من متعة.

نشرت جملة البردوني كما سمعتها.

بعد النشر انتظرت تعليقًا أو استفسارًا من زميل أو قارئ عما قصد البردوني بهذه الجملة/ العبارة، فلم يعلق أحد أو يستفسر.

سألت أصدقاء.

لا تفسير.

سنة تلو سنة، فعقد جديد. وألفية ثالثة، وعقد ثانٍ حافل بالمتغيرات، وأبرزها ثورة شعبية في ربيع 2011، تم الانقلاب عليها من نخبة حكم عليها بالرداءة. فكان أن طرق صوت البردوني سمعي للمرة المائة: لم تتسمر الأفلاك!

لحظتها لمع المعنى أمامي، فالحاكم مهما سيطر وتمكن واحتاط، فإنه لا محالة زائل، فالأفلاك تجري (والحاكم غير قادر على تعطيل حركة الزمن).

يبقى أن أنوه بأن الرجل كان كريمًا معي، ففي أثناء الحوار بدا مستمتعًا وهو يرد على أسئلتي، بما فيها تلك التي فيها استفزاز أو تشكيك بجذر مواقفه، أو انتقاص مما يعد ملمحًا رئيسيًا في شخصه. أزيد من ذلك أن المسجل، وهو يدور، استغرق شريطين كاست.

ودعته وهو في مكانه جالسا. قال ضروري أزوره مرات عديده إذ "صولات وجولات" ستكون بيننا مستقبلا. 

بعد نشر الحوار على جزئين اتصلت به مساء السبت (بعد أيام من نشر الجزء الثاني) ورد علي متحفظا بالقول ان الحوار رائعا لكن العناوين مثيرة زيادة! 

عرفت أن اتصالات عتاب وردته من السلطة. 

قلت له إن العناوين الإبرازية هي نقل نصي مما قاله في الحوار.

اعجبه ردي وختم: الصحفي الباهر هكذا يعمل. 

***

في العقدين الماضيين اثيرت قضية أعمال البردوني غير المطبوعة مرارا. واستغربت في الخريف الماضي ان هناك من ينفي بالمطلق وجود مثل هذه الاعمال رغم ان البردوني قال لي (ولكثيرين غيري) أن لديه قيد التجهيز مجهوعتين شعريتين وكتاب "الجمهورية اليمنية" الذي يعده تتمة لكتابه "اليمن الجمهوري". 

أتذكر في اليوم التالي لوفاته زارني في مكتب صحيفة"الوحدوي" الأستاذ أحمد ناجي النبهاني، وسمعت منه أن مدير التوجيه المعنوي في وزارة الدفاع ورئيس تحرير "26 سبتمبر"، حينها، تواجد في منزل الشاعر ليلاً (بعد وفاته)، وأخذ مسودة "الكتاب"!

لم يكن الأمر مفاجئا لي فالرجل "في حالة حصار" مات! ويسهل الآن تصفية الحساب معه.  المفاجئ والصادم هو ما يتصل بمجموعاته الشعرية وتراثه ككل، وهذه لطخة في جدار اتحاد الادباء والكتاب اليمنيين الذي يعد البردوني أبرز مؤسسيه وأول رئيس له. 

استدعت سجالات الأعمال غير المطبوعة محاولات توظيف سياسية وفئوية بعضها يبدو أقرب إلى الشطحات كي لا أقول الوقاحة. ولما كان من الصعب العودة إلى أرشيفي في صنعاء طلبت إلى أصدقاء اعزاء موافاتي بنسخة من عددي صحيفة "الوحدوي" في أبريل 98. وقد تطلب ذلك بحثا دام أسابيع فـ"الوحدوي" ما عادت تصدر، وما عاد لها عنوان، تماما كغيرها من الجرايد العريقة في صنعاء والتي توقفت كليا مع اجتياح صنعاء من جماعة "الحوثيين". 

لجأت إلى أصدقاء أعزاء بينهم الصديق أحمد سعيد ناصر المحاضر الجامعي في "التاريخ" والزميل أشرف الريفي اللذين بذلا ما بوسعهما للوصول إلى عددي الوحدوي. وقبل يومين كانت نسخة مصورة من الحوار في حوزتي، وبفضلهما كتبت هذا المقال.

 

الحوار على العنوان: عبدالله البردوني في حوار: لا نستطيع أن نغلق ملفات ماضٍ نعتكز عليه

 

 

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً