صنعاء 19C امطار خفيفة

عبدالله البردوني في حوار: لا نستطيع أن نغلق ملفات ماضٍ نعتكز عليه

2024-10-10
الأستاذ الشاعر عبدالله البردوني (صورة في فناء منزله بعدسة عبدالرحمن الغابري)

 

دائمًا ما أتعجب كيف واتتني الجرأة في مارس 1998 لإجراء مقابلة مع الشاعر عبدالله البردوني! لست اسمًا معروفًا، لا خبرة لي في الإعداد أو تنفيد حوارات، اخترت الشخص الذي يرجح ألا يوافق. علاوة على ذلك كله، فإنني لست الصحفي المؤهل لإجراء مقابلة مع أديب اليمن الأول.

قاومت دواعي العقل والمنطق مستذكرًا الساعة التي قضيتها في مجلس البردوني قبل سنتين، رفقة الزميل القدير حسن العديني، لإجراء حوار لجريدة "السفير" البيروتية.

***

اتصلت به مساء هاتفيًا، وقدمت له نفسي طالبًا تحديد موعد لزيارته في منزله. اقترح أن أزوره عصرًا بعد يومين.

في الموعد كنت أطرق باب حديقة المنزل، ارتقيت درج مدخل الدور الثاني وعددها 20 درجة (حسبما قال هو للإعلامية الأردنية نائلة الأطرش، في حديث لتلفزيون قطر منتصف التسعينيات)، حيث تنتظر زوجته فتحية الجرافي. طلبت مني التوجه يسارًا إلى الحجرة التي يتخذها الشاعر مجلسًا لاستقبال الضيوف... ومحرابًا.

صافحته! دعاني للجلوس إلى يساره في صدر المجلس، وسألني مجددًا عن غرضي من إجراء حوار معه. أوضحت أنني صحفي مهتم بالأخبار السياسية في اليمن، وأنني لست صحفيًا في قسم الثقافة والأدب في جريدة "الوحدوي"، ولست قريبًا من الأدب، وهدفي في الأساس هو خدمة قراء الجريدة عبر إثارة قضايا وأسئلة متصلة بآرائه ومواقفه من مستجدات السياسة اليمنية مع الالتفات إلى قضايا كان فيها طرفًا أو شاهدًا في الماضي، الأمر الذي يفرض نقاش علاقة المثقف بالسلطة في العقود الأخيرة.

بدا مستحسنًا الفكرة، لكنه قال إنه متوعك، ولن يستطيع إجراء المقابلة اليوم، واقترح موعدًا جديدًا مطلع الأسبوع المقبل.

لم أغادر، فقد سارع إلى الطلب مني البقاء لنصف ساعة، لتبادل الحديث معي.

قدرت أنه يريد سبر أغوار صحفي غير معروف اقتحم عالمه!

بدأ بسؤال عن قراءاتي لأعماله.

قلت إنني قرأت أعماله كلها، بما فيها كتبه السياسية، وتلك التي تضم مقالاته.

سأل: أي ديوان يعجبني من دواوينه؟

"السفر إلى الأيام الخضر"، فورًا أجبت. وسألته بدوري أي ديوان هو الأحب إليه.

 

قال: "كائنات الشوق الآخر".

سألني عن قراءاتي الأخيرة.

عددت بعض قراءاتي الأخيرة، وبينها الأعمال الأخيرة لسعد الله ونوس "طقوس الإشارات والتحولات"، و"منمنمات تاريخية"، و"الأيام المخمورة"، وأضفت أن ونوس فاجأني بتقديم بعد لم يكن معلومًا في شخصية ابن خلدون.

كيف؟

سأل.

قلت قدم ابن خلدون كمتعاون مع العدو في إسقاط للمطبعين العصريين، فهو تعاون مع تيمور لنك وجيشه يحاصر دمشق!

قال: إيه إيه... وزاد "أدى" له خرائط ووصف سكان المغرب العربي!

كانت تلك صدمة أخرى، فعبدالرحمن بن خلدون، النابغة الحضرمي، ورائد علم الاجتماع في العالم، هو أيضًا مثقف في خدمة الأمير... والغازي إن تطلب الأمر.

قال لي إنه قرأ لسعد الله ونوس أغلب مسرحياته، وطلب مني جلب "منمنمات تاريخية" في المرة المقبلة.

تملكتني مشاعر زهو؛ فأقله سأصير قارئًا أعار البردوني كتابًا!

كان اليمن يومها في أزمة اعتكاف فرج بن غانم، رئيس الوزراء، في سويسرا. لذلك قلت للبردوني إنه يمكن إضافة محور إلى الحوار يتعلق بالنظام السياسي والوحدة. وافق قبل أن يسألني عن نتائج اللقاءات القبلية في صنعاء وأرحب ومأرب! حرت في الرد، فالمحرر في قسم الأخبار في جريدة أسبوعية مرموقة في صنعاء، لا يمللك معلومات عن اجتماعات قبلية (معارضة) داخل العاصمة وخارجها.

في حديقة منزله (من ارشيف الفنان عبدالرحمن الغابري)

قلت له إنني زرته في هذا البيت قبل سنتين، رفقة الأستاذ حسن العديني، الذي أجرى حوارًا معه لجريدة "السفير"، فتذكر جيدًا الحوار، وقال إنه أثار غضب السلطة. وشكا من السلطة التي تضرب حصارًا حوله حتى إن وصول الصحفيين العرب والأجانب إليه صار صعبًا للغاية، لأنهم يمرون عبر قنوات الرئاسة (علي حسن الشاطر وعبده بورجي). وحول الحوار الذي نشرته "الرأي العام" الكويتية في الذكرى الـ5 لتحرير الكويت، قال إن الرئيس (الأسبق) علي عبدالله صالح، مساء صدور "الرأي العام"، اتصل ثائرًا ليسأله عن صحة ما نسب إليه، فأجبته: لا أتذكر التفاصيل، لكنها كانت حول الثقافة والأدب.

 أنهى الرئيس المكالمة، ليعاود الاتصال ليلًا وثورته قد زادت، فقد حصل على نسخة صوتية من المقابلة، واستمع إلى إجابات البردوني منطوقة بلسانه. قال له الرئيس وقد تيقن أن الجريدة الكويتية لم تضف أو تحور كلامه: الكلام كلامك يا بردوني! فقلت له: الصحفي سأل وأنا جوبت! غضب الرئيس المكتوم تسرب إلى لسانه؛ كيف تسمح له أن يسألك أسئلة كهذه "ليش ما تضع أسئلة المقابلة أنت!"، فاستغرب مقترح الرئيس، وقال: إذا وضعتها أنا من سيجيب عليها؟

قال الجملة الأخير وأطلق ضحكاته...

وأنا واقف عند باب محرابه مغادرًا، ألقى وصيته الأخيرة: "جهز نفسك جيدًا... أريده حوارًا ساخنًا".

عدت إليه عصر الجمعة!

هذه المرة كان هو الذي ينتظرني عند مدخل الدور الثاني. كان باشا يحمل لي بشرى! 

"قبل الظهر زارني فريق من القسم الإنجليزي للبي بي سي، وسجلوا حديثا معي!" 

أردف:"عيتفاجأوا لما تبث حلقة."

كان يحدثني كـ"صديق" واثقا من أنني اعرف من هم بالضبط الذين ستأخذهم المفاجأة. 

وقد سألني عندما جلست عن علاقة أحد معاونيه بالأمن فسارعت إلى نفي أية صلة المخابرات به. 

يا للوجع! 

الشاعر الأهم في اليمن يشعر أنه محاصر … ومراقب! 

***

نشر الحوار على حلقتين في "الوحدوي"، في أبريل 1998، واستقطب اهتمامًا واسعًا لأن البردوني ظهر معارضًا راديكاليًا لنظام صالح وللنخبة السياسية وقادة الأحزاب ونتائج حرب صيف 1994. أكثر من ذلك رافضًا بشدة ارتكاب الحركة الدستورية (انقلاب 1948) أخطاء جسيمة، أولها قتل الإمام يحيى، وثانيها الإتيان ببديل للإمام أشد سلفية منه!

بخصوص رؤساء اليمن الجمهوري (شمالًا) لاح متعاطفًا مع السلال، ناقدًا الإرياني، محبًا للحمدي، ناقمًا على صالح.

أثناء تفريغ الحوار وتحريره للنشر، حرت في فهم جملة قالها ردًا على سؤال لي عن انسداد سبل التغيير؛ قال مقتضبًا وواثقًا: "لم تتسمر الأفلاك"!

حاولت مرارًا فهم الجملة، مفترضًا أنني أخطأت سمعها. وقد أعدت السماع إليها في اليوم التالي دون أن أستوعبها. ولما كان قد قالها واثقًا مطمئنًا، نشرتها كما سمعتها لكأنني أمام قصيدة من قصائده استعصى عليّ فهمها على ما فيها من متعة.

نشرت جملة البردوني كما سمعتها.

بعد النشر انتظرت تعليقًا أو استفسارًا من زميل أو قارئ عما قصد البردوني بهذه الجملة/ العبارة، فلم يعلق أحد أو يستفسر.

سألت أصدقاء.

لا تفسير.

سنة تلو سنة، فعقد جديد. وألفية ثالثة، وعقد ثانٍ حافل بالمتغيرات، وأبرزها ثورة شعبية في ربيع 2011، تم الانقلاب عليها من نخبة حكم عليها بالرداءة. فكان أن طرق صوت البردوني سمعي للمرة المائة: لم تتسمر الأفلاك!

لحظتها لمع المعنى أمامي، فالحاكم مهما سيطر وتمكن واحتاط، فإنه لا محالة زائل، فالأفلاك تجري (والحاكم غير قادر على تعطيل حركة الزمن).

يبقى أن أنوه بأن الرجل كان كريمًا معي، ففي أثناء الحوار بدا مستمتعًا وهو يرد على أسئلتي، بما فيها تلك التي فيها استفزاز أو تشكيك بجذر مواقفه، أو انتقاص مما يعد ملمحًا رئيسيًا في شخصه. أزيد من ذلك أن المسجل، وهو يدور، استغرق شريطين كاست.

ودعته وهو في مكانه جالسا. قال ضروري أزوره مرات عديده إذ "صولات وجولات" ستكون بيننا مستقبلا. 

بعد نشر الحوار على جزئين اتصلت به مساء السبت (بعد أيام من نشر الجزء الثاني) ورد علي متحفظا بالقول ان الحوار رائعا لكن العناوين مثيرة زيادة! 

عرفت أن اتصالات عتاب وردته من السلطة. 

قلت له إن العناوين الإبرازية هي نقل نصي مما قاله في الحوار.

اعجبه ردي وختم: الصحفي الباهر هكذا يعمل. 

***

في العقدين الماضيين اثيرت قضية أعمال البردوني غير المطبوعة مرارا. واستغربت في الخريف الماضي ان هناك من ينفي بالمطلق وجود مثل هذه الاعمال رغم ان البردوني قال لي (ولكثيرين غيري) أن لديه قيد التجهيز مجموعتين شعريتين وكتاب "الجمهورية اليمنية" الذي يعده تتمة لكتابه "اليمن الجمهوري". 

أتذكر في اليوم التالي لوفاته زارني في مكتب صحيفة"الوحدوي" الأستاذ أحمد ناجي النبهاني، وسمعت منه أن مدير التوجيه المعنوي في وزارة الدفاع ورئيس تحرير "26 سبتمبر"، حينها، تواجد في منزل الشاعر ليلاً (بعد وفاته)، وأخذ مسودة "الكتاب"!

لم يكن الأمر مفاجئا لي فالرجل "في حالة حصار" مات! ويسهل الآن تصفية الحساب معه.  المفاجئ والصادم هو ما يتصل بمجموعاته الشعرية وتراثه ككل، وهذه لطخة في جدار اتحاد الادباء والكتاب اليمنيين الذي يعد البردوني أبرز مؤسسيه وأول رئيس له. 

استدعت سجالات الأعمال غير المطبوعة محاولات توظيف سياسية وفئوية بعضها يبدو أقرب إلى الشطحات كي لا أقول الوقاحة. ولما كان من الصعب العودة إلى أرشيفي في صنعاء طلبت إلى أصدقاء اعزاء موافاتي بنسخة من عددي صحيفة "الوحدوي" في أبريل 98. وقد تطلب ذلك بحثا دام أسابيع فـ"الوحدوي" ما عادت تصدر، وما عاد لها عنوان، تماما كغيرها من الجرايد العريقة في صنعاء والتي توقفت كليا مع اجتياح صنعاء من جماعة "الحوثيين". 

لجأت إلى أصدقاء أعزاء بينهم الصديق أحمد سعيد ناصر المحاضر الجامعي في "التاريخ" والزميل أشرف الريفي اللذين بذلا ما بوسعهما للوصول إلى عددي الوحدوي. وقبل يومين كانت نسخة مصورة من الحوار في حوزتي، وبفضلهما كتبت هذا المقال.

 

الحوار تالياً: 

قد يبدو هذا الحديث للقارئ العزيز رحلة نحو الماضي، لكن متى كانت آراء الشاعر الكبير عبدالله البردوني حول وقائع الماضي مقطوعة الصلة بالمستقبل. من العطايا والحوالات المالية غير الرسمية إلى العائلات الحاكمة، إلى خيارات النخب السياسية وعلاقة المثقف بالسلطة، إلى واقع دولة الوحدة الأشبه بالجحيم الذي تحياه قرية "بردون"، إلى العلاقات اليمنية السعودية، يجوب بنا عبدالله البردوني عصورًا ولى زمانها وإن كانت إفرازاتها تعتمل في حاضرنا وآثارها تلوح على بوابة قرن جديد لم نطأ عتباته بعد. هذا حديث داخل الشعر ومن حوله، والأكثر دقة أنه حديث شعري في السياسة، تتدفق من إيماءاته وملاحظاته مطلقات، كما هي العادة عند جواب العصور، تجوب بدورها داخل الأزمنة والأمكنة خارقة قواعد السياسة وسنن التاريخ.

البردوني في أحاديثه السياسية، كما هو في قصائده، يخبر ويعلم ويمتع، وأكثر من ذلك، فإنه إذ يرتحل بنا في وحشة هذا الزمن الأعمى، لا ينسى دوره ولا يتخلى عن المهمة المقدسة التي نذر لها إبداعه، فإذا هو "يُبصّر" بسبل بالخلاص ويبشر بأيام خضراء تغسلنا وتجلو ملامحنا الحقيقية، لنسافر معها إلى مدينة الغد حيث لا هشيم دماء يغني ولا رياح صفراء وأتربة تصغي لها.

البردوني بريشة عبدالله المجاهد (الوحدوي 1998)
 

لقاء: سامي غالب

 قلت صبيحة قيام الوحدة إن دولة الوحدة تستدعي وجود وحدويين يقودونها. كيف ترى واقع دولة الوحدة التي ستحتفل الشهر القادم بذكراها الثامنة؟

بما أني أرى بأذني فأنا أتنصت لأقاويل الناس مما يعانون وأعرف صحة القول من صحة الموضوع الذي يتصل به، وافتراء أي قول من الوضع الذي اختلقه أو تصوره. فأقول إن هذا قول كاذب. في قريتنا، وهي قرية "البردون"، قتال منذ ستة شهور حتى إنهم أبادوا كل حي في القرية من الكباش إلى الكلاب إلى البقر إلى البيوت. أحرقوا جميع معاصر القصب وخربوا كل البيوت، والقرية تعمر بالحجار الحمر، وهذه الحجار الحمر تتلقى النار بقابلية قوية، فتمكنوا من أن يجعلوا قريتهم خرابًا يبابًا. والقرى المجاورة والقريبة والبعيدة تأتي ترتمي بالعقائر والتصالح، وآخر الأمر يقول كل واحد: ما عندنا دولة، ما لليمن دولة، ما في البلاد دولة. بيننا وبين الحكومة ١٥ كيلومترًا، فلماذا لا يخرجون ١٥ طلبًا مثلما يقبضون على واحد يريدونه؟ لكن عندما يبيد المجتمع، تتفرج الدولة وكأنها ليست من هذا المجتمع ولا من هذه البلاد. فالحقيقة أن يأس الناس ليس مفترى وليس مفتعلًا، وإنما هم يقولون ما عهدوا وما أرخوا وما كتب كل الناس. كل واحد من الذين في هذه الحرب عرف أن القرية كانت آمنة في كل أوقاتها بحيث يأمن كل واحد من الآخر. وإذا حدث اقتتال بين اثنين فلا يمر الليل إلا وقد جاء العسكر وأخذوهما إلى السجن. على ماذا يقتتلان؟ أول ما يحدث يسجنون تأديبًا للقتل ثم يحكمون بينهم على مقتضى حيثيات الحكم.

فاليمني لا يرى الدولة موجودة إلا إذا أمنت الناس من الناس وأمنت الطرق من طارقيها وأمنت البيوت من غير ساكنيها ومن الوافدين عليها. فإذا قلت في اليمن: ما هي الدولة؟ يقولون هي الأمن العام... الأمن العام حتى إنهم يتغاضون عن الرشوة على سُنتها، يتغاضون عن كل شيء إلا الأمن. والواحد يلاحظ أن هناك اهتمامًا بالمشاريع أو محاولة لإنشاء مشاريع، لكن المشروع الجاهز الذي هو الإنسان لا يبالون بإبادته وكأنهم يقتلون أعداءهم بأيدي أعدائهم، مع أن المواطن يُقتل بيد المواطن، وابن القرية بابن القرية. مع أنهم قالوا إن فترتنا التي نمر بها ليست عشائرية وإنما أصبحت قروية أو مناطقية، فالآن ما يتقاتل هو المنطقة بما فيها وما فيها. ولا يتوقف القتال إلا حين يتعب المحاربون أو حين لا يجدون مددًا. وقيل إنهم يحصلون على المدد من الدولة أو من عساكر الدولة، وهذه الحقيقة في اليمن معروفة. 

وما نقول إن هذا موجود فقط في اليمن بل في كل العالم، يوجد البوليس السري، البوليس السياسي، بوليس الآداب، بحيث لا أحد يضايق فتاة في الطريق، لا أحد يعترض مارًا في سبيله. هناك الدولة مشرفة على أمن الرايح والغادي، وإذا حدثت بعض عدوانات من عصابات إجرامية فهذا ممكن، لكن لا تتكرر القضية. الناس منذ قامت الثورة يقتتلون فيما بينهم، وبعدما بدأت تستقر الأوضاع من أول السبعينيات كفّ الناس عن القتال ومالوا إلى الزراعة وكادوا أن يعرفوا أن الحرب قد انتهت، وأن مدخول الحرب ليس رزقًا، وإنما الرزق ينبت من الأرض ومن تحت أظلاف الغنم والبقر، وبدأوا يعرفون هذه القيمة. فمن حق الحكومة أن تفرح أن الشعب أقبل على استخراج الخيرات، وعلى استنبات الأرض، وعلى استنطاق الصوامت من الطرق والشعاب. فأنا لا أقدر أن أقول إلى الآن إنه في دولة من الناحية الأمنية على أساس أن الأمن كل شيء، وإذا انعدم الأمن فلا توجد دولة. ومع أن هناك من يضيق حين يقولون "ما فيش دولة" لكن أصبحت الحقيقة انعدام الدولة. والواحد لا يقدر يكابر ولا يقدر يقدم دليلًا يدحض ذلك. هذه هي المسألة التي يكاد الإنسان يقول إنه ليس في البلد دولة.

· من وظائف الدولة أيضًا، إلى جانب الأمن الداخلي، الأمن الخارجي وتوفير ظروف معيشية أفضل والوعد بالرخاء، وهذه غائبة؟

 ما وصلنا الآن إلى الرخاء ولا إلى الأمل في الرخاء. وصلنا الآن إلى كيف يوجد الأمن بعد ما تتأمن الطرق والسبل، ويكون الراعي آمنًا على أغنامه، والحارث على أبقاره. هناك سيحدث كل خير وتقول هذه دولة لم يسبق مثلها دولة.

· وجهة نظرك أن المهمة الرئيسية الآن هي توفير الأمن؟

هذه ليست وجهة نظري (بل) من وجهة سمعي (ضاحكًا) ومن وجهة أقاويل الناس في كل مكان.

حرب ووحدة

· لك آراء في الوحدة بعد حرب ٩٤م أثارت ردودًا عنيفة من بعض الأطراف، بالذات من الطرف المزعوم منتصرًا. ومع ذلك فإن هناك من غير هؤلاء من يأخذ عليك أنك تتجاهل في آرائك حقيقة هامة وهي وجود مؤامرة إقليمية على الوحدة.

قبل الوحدة ألقيت محاضرة في نادي الصحفيين بالتواهي (عدن) وقلت لهم ما الذي سيحدث، قلت: هذه أولها فرحة وثانيتها وحدة، ريحة وجية، لكن آخرتها حروب طاحنة، وقد تكون هذه المنطقة التي نجلس عليها (يعني التواهي) هي التي ستطحن أولًا وستقولون هذا انفصالي وهذا إقليمي، (ولكني) لا أقول إلا ما سوف يحدث. وها نحن هنا، لا تقدرون أن تصدقوني ولا تقدرون أن تكذبوني، وإنما انتظروا ما سوف يحدث بعد ثلاث أو أربع سنوات... هذا الذي حدث: الحرب. وسواء كانت الحرب لاستبقاء الوحدة أو لتثبيتها فإنها جريمة لأنها خربت أكثر مما تبني في عشر سنين أو عشرين سنة.

وبالنسبة للمؤامرة الخارجية، حكاية التآمر من الخارج والمتآمرين من الخارج (هؤلاء) لا يمكن أن أغفلهم، لا أنا ولا غيري، لكن لا يأتي المتآمر من الخارج إلا على ظهر قوى محلية هي التي توصله إلى صميم الوضع. فاللوم على الداخل وليس على الخارج.

· في كتابك "اليمن الجمهوري" وأنت تختتم الفصل الخاص بالجمهورية الثالثة التي جاءت بها حركة يونيو أشرت إلى هبوب رياح تغيير قوية على المجتمع والدولة، وقت إن جيلًا قويًا يتقدم لقيادة الوطن، لكن الحركة أجهضت بعد ثلاثة أعوام. والآن، وبعد قيام الوحدة، هل هناك في الأفق ما ينبئ بإمكانية حدوث حراك اجتماعي؟

التركيبة والتراتبية الاجتماعية القائمة لا تسمح، لأن الركام الموضوع في الطرق والأساس المملوء بالنار المعبأة كلها لا تسمح بتغيير شيء عن وضعه إلا إذا أزالوا كل مسببات الحرب الأولى وأعادوا كل شطر إلى شطره لكي نكون موحدين حقيقيين.

 

· تقصد وجدانيًا؟

نعم، عندما توحدنا دولة تفرقنا أشلاء وأشتاتًا، لم نعد نسمي شعبًا واحدًا، ولم نعد نسمي دولة واحدة. الدولة قائمة باسمها الرسمي لكن تلك الخرقة التي تهزها الرياح ونسميها علم الوطن لا قيمة لها إذا لم يكن حولها وطن شاعل، قادر، مقتدر، خلاق.

· لك آراء نقدية حادة تجاه ما سمي بالمصالحة بين الجمهوريين والملكيين أواخر الستينيات ومطلع السبعينيات، ويجري الآن حديث عن مصالحات وإغلاق ملفات لا يدري الشعب كنهها. أي مصالحة تتصورها الأجدى لليمن؟ وهل بالوسع حقًا إغلاق ملفات الماضي؟

في الحقيقة، الماضي كله ما يزال يتحرك، أقوى من الحاضر وأقوى من المستقبل. الحركة الآن ماضوية من كل منطلق ومن كل متجه، فلا يمكن إغلاق ملفات الماضي ونحن نتعكز عليه ونتكئ. وإذا أغلقنا ماضي حرب، فكيف نغلق ماضيًا سياسيًا؟ وكيف نغطي على ماضٍ عشائري؟ عرفنا اليمن أنه شعب واحد، لكن لم تُعرف أنها دولة واحدة أو ذات دولة واحدة.

القاضي عبدالرحمن الإرياني ميونخ ألمانيا 1987

أحزاب وعائلات

· أوليت حكم العائلات قدرًا من الاهتمام في كتاباتك الأخيرة، وبالأخص في مقالتك التي ترثي فيها القاضي الإرياني. هل أردت أن تومئ أو تشير إلى عناية قارئيك؟

· الحكم في اليمن لا يقوم به فرد إلا بمجموعة أفراد. وما حكم اليمن على طول تاريخه إلا عائلات. عندما كان يحكم السبئيون كانت الحاكمة عائلة واحدة، كانت أقوى شوكة من كل العوائل. إلى الآن مثلًا، كان يحكم بيت المتوكل. ومن كان يحكم منهم الإمام يحيى، ثم ابنه الإمام أحمد، ثم الذين قاتلوا معه ضد الأتراك إلى أن خرج الأتراك من اليمن عام ١٩١٨م. لقد كان الحكم حكم البيت، وكانوا يسمون الحكم حكم بيت حميد الدين مثلما يقال الآن بيت الأحمر.

· إذن، فإن الحديث عن عائلات حاكمة لم يصبح بعد درساً في التاريخ؟

لا، هو يعني إشارة إلى أن الحكم لا يثبت ويستقر أمام العواصف إلا إذا كان ركينًا وكان واثقًا، ولا يمكن أن يكون الحكم ركينًا إلا إذا كان من عائلة نقية تحسب حساب كل عائلة مثلما تحسب حساب عائلتها التي يجمعها سقف واحد.

 

· هذا يشي بأن الأحزاب التي ظهرت إلى السطح لم تقم بدورها لتحل محل العائلات؟

هذا صحيح ومفترض، لكن الأحزاب لا تنزل من السماء ولا تتساقط كالمطر، إنما هي تنبت في هذه الأرض وترف على هذه الأرض، ففيها ما في الأرض من مزايا ومن نقائص ومن قوة ومن ضعف. لكننا نلاحظ أن أكثر التجمعات تؤدي إلى الكراهية، فلا يمكن أن تكون هناك أحزاب إلا ويكون لها هدف كبير يشغل كل واحد عن الآخر ويجعله مشحونًا إلى الهدف. فالناظم المشترك هو الوطنية، والوطنية تعبير ودور وفعل، والوطن حماية وموت من أجله. إذا كان كل فرد يؤمن بهذا، وكل قيادي يقود جماعته تحت هذا المفهوم، فالأحزاب ستنجح الآن. 

الأحزاب مجرد تجمعات، بل هي مجرد تجمعات من يوم قامت عام ١٩٤٤م. عندما حدث انقلاب ٤٨ وقيام سلطة الدستور، ولم يظهر وجه حزبي في دوائر الحكومة الدستورية، ولم يسمع من حزب الأحرار أي قرار منه ولا تصريح من أي زعيم من زعمائه. سمعنا أن القتال بين بيت الوزير وبيت حميد الدين، وأن آل الوزير انتصروا أولًا ثم انتصر بيت حميد الدين. ولم يشر أي مؤرخ إلى الحزب أبدًا. صحيح أن صحفًا تناولت الحدث، مثل "الصداقة" المصرية، التي كانت تعبر عن الإخوان المسلمين، ومثل صحيفة "منبر الإسلام" ومثل صحيفة "المسلمون اليوم". أما صحف عدن فقد ذكرت أنه حدث في اليمن انقلاب حيث تولى عبدالله الوزير مكان الإمام يحيى، وكانت صحف عدن تسمي الشمال (اليمن) ولا تذكر الشطر الشمالي أو اليمن الشمالي، فقط اليمن وهم الجنوب العربي.

 

· المطروح في المقابل أن الجيش والمؤسسة الأمنية هما أهم العوامل المتحكمة في الحياة السياسية اليمنية، فيما الأحزاب تحتل مساحة باهتة ومحدودة، ونحن لم نعد نحيا زمن الثورات. فمن أين تهب رياح التغيير؟

لم تتسمر الأفلاك ولم تغلق كل الأبواب للفترة القادمة، فالأفلاك تختلف باختلاف ما سوف يستجد. أما أن يقال "لن تحدث ثورات ولن تحدث تغيرات"، فهنا جهل، لأن الحياة حركة وتقدم، وهي فعل وانفعال. وها هي الآن الأزمة الاقتصادية تعرفنا أنه لا تتم العولمة، وإنما سيظل كل وطن كما خلقه الله ثم يخلق لنفسه فوق ما يعينه الله عليه.

فرج بن غانم بعدسة عبدالرحمن الغابري (ارشيف)

غانم وغنائم

· قلت مؤخرًا في مقابلة صحفية إن الحكومة بلا موقع داخل الدولة في إطار النظام المتبع، وأنها بلا لون ولا نكهة في ظل النظام الرئاسي. أليس الدكتور فرج بن غانم مع الأزمة الأخيرة المثارة قد أضفى قدرًا من المهابة على موقع رئيس الحكومة؟

لا. هو أثبت أن كل شيء مختل، وأن الخلل يسري في كل شيء. هو رئيس حكومة لا يعرف كم ميزانية دولته ولا كم دخل دولته. صحيح أن الرئيس (علي عبدالله صالح) أعطاهم صلاحيات واسعة، وهذا ما أعلن، لكن مجرد إعطاء صلاحيات فإن هذا يعني أنها هبات وصدقات، وليس واجبًا حكوميًا فرضه الانتخاب؟

 

· تقصد طبقًا للدستور.

نعم. 

· بالرغم من ذلك، فإننا إذا تأملنا في الخلاف، يمكن القول بأن الدكتور فرج بن غانم هو أول رئيس حكومة بملامح وقسمات خاصة في مقابل رئاسة الدولة. هل لأن مكامن ضعف بن غانم هي الأسباب التي تزوده بالقوة، إذ إنه قدم من خارج نظام الحكم حزبيًا ولا يستند إلى عصبية قبلية ما يجعله أكثر استقلالية في مواقفه؟

لا، هو كان في نظام الحكم بشكل أو بآخر، إما حائمًا وإما معارضًا في معارضة ضعيفة أو معارضة فردية، لكنه منغمس في السياسة إلى لحيته، فهو رجل سياسي وقد عمل وزير تخطيط، ودلل في أوراقه الأولى إلى أنه ينتوي أشياء (ولديه) خطط مشاريع، كلها أجهضت بإبعاده وإبداله بمن لم يملك التجربة التي كان يملكها. استقالة رئيس الوزراء بلا سبب معلن، وحتى الآن لم تعلن إلا إخباريًا، ولم يصدر بشأنها بيان يعبر عن أسبابها رغم أن المواطن لم يعد يهتم بأي بيان.

 

· لكن الملحوظ وجود تعاطف شعبي مع رئيس الحكومة رغم عدم وضوح أسباب الأزمة بينه وبين الرئيس؟

هو طارح أمورًا على جماعات صغيرة وعلى أفراد بأنه رئيس حكومة لا يعرف آليات الحكومة ولا كيف تتحرك كل آلية، ولا يعرف أكثر الوزراء. ويقال إنه أراد أن تكون الحكومة من وزراء متجانسين، كلهم متصفون بالثقة، كلهم على صلة بتحريك المشاريع إلى الأمام، متفقون على أن يكون الغد أفضل من اليوم، وأن يكون اليوم أفضل من الأمس، لكن لم يجد من يتعاون معه، كما يقول، بل لم يجد من يهمه همومه. فهموم الوزير الفلاني في جانب، وهموم رئيس الحكومة في جانب آخر، ولم ينظمهم ناظم مشترك كما هو الواجب في كل حكومة، لأن الحكومة عائلة واحدة، ببقائها وتضامنها يبقى البيت، وبانهيارها وتفسخها يتهدم وينتهي المعمار والعامر.

· من سمات الدولة المتخلفة أنها تجبي وتفرغ جيوب أكثرية مواطنيها ثم توزع ما جبت كعطايا على أعوانها، وحسبما يتردد، فإن جزءًا من المشكلة متصل بالحوالات التي توزع على كبار الوجاهات والشركاء.

هذه من المسائل التي تستدعي التأمل. أصلًا في التاريخ اليمني لا بد من عطايا لقبائل معينة ولعشائر توارثت الحقوق وتوارثت الغنائم من مضر. هنا لا بد أن تخول الحكومة بذلك. ولكن لماذا لا يحدد هذا التحويل ويحسب كبند معروف لرئيس الوزراء ولرئيس الدولة وللمواطن؟ نقول إن هذا البلد مجموعة عشائر فلا تؤمن الطرق بين صنعاء وتعز وبين الحديدة وصنعاء إلا وتلك القبائل راضية عن ذاك الوضع أو خائفة من هذا الوضع، أو أنها ترى أن هذا الوضع يتحسر كل يوم. يمكن أن الميزانيات التي تتضمن الحوالات كان يمكن أن تخف منذ بداية السبعينيات إلى الآن، لكن كل فترة تتكاثر ويتكاثر الدفع لكل من هو أقوى. وأقول إن إلغاء هذه أو أن هذا التصرف في جملته ضرورة وطنية، لكن تخفيفه من عام إلى عام ضرورة وطنية أيضًا، لأن المشاريع الريفية ينتفع بها الشيخ والفلاح، وكذلك المشاريع التعليمية. فلماذا هذه المناطق معمورة بالمشاريع وبالمياه النقية، والمناطق التي تكافح وتبذل دماءها هي التي لا تعطي شيئًا؟

 

الرئيس إبراهيم الحمدي

· فيما ذكرته من ضرورة وطنية، إبراهيم الحمدي جمد تلك المخصصات، فهل كان ذلك سبب إجهاض مشروعه؟

ليس هذا السبب، بل قيامه بالحركة ولم يفِ بما تعهد كما هي العادة، فكل رئيس (جديد) يتحمل شروطًا ويحمل قائمات إعدام، ويحمل شهود مذابح لكي يضعف المتطرفون ولكي يتفوق المعتدلون، ولكي يسود أصحاب العقل على أصحاب الجنون. هذه في الحقيقة شروط تفرضها دولة أقوى، والدولة القوية تفرضها دولة أقوى منها، وهو أن يكون الحكم ضعيفًا، وأن تكون هناك قوى أقوى من الشعب، لكي يظل الشعب محتاجًا إلى استيراد الأسلحة وإلى الالتجاء إلى النظام الفلاني والنظام الفلاني. ويبدو أن هذه مسؤولية الأحزاب الكبيرة، لكنها إلى الآن لم تخلق هذا الوعي كظاهرة، ولم تشكل من نفسها صورة يقتدى بها ويقتدي بها الآخرون. فمن الممكن أننا نقول إن الضرورات قائمة، ولكن تجاوزها أو وضع حد لها نهائيًا ممكن وليس مستحيلًا. الحمدي عندما أهبط بعض الرؤوس المشيخية عرفوا عدم قيمتهم وعدم جدواهم، لأن في اليمن قاعدة متبعة، لا يكون الشيخ أقوى إلا بمقدار مكانته في الحكومة المركزية في العاصمة. إذا كان في مكان يقود ويرفع فهو قوي، وإذا كان مجرد شيخ له قواعد أو له ميراث، فلا يكفي هذا لبقاء مشيخته، وقد يختار غيره، كما لاحظنا زوال مشيخات وقيام مشيخات بعد الثورة.

· بخصوص فترة الحمدي، اللافت أنك بعد أقل من عامين على قصيدتك الشهيرة يوم ١٣ حزيران التي تنتقد التغيير عبر الدبابة، عدت في مقالاتك في مجلة "الجيش" لتتحدث عن دور إيجابي للجيش في تصحيح الأوضاع الفاسدة. من كان يقف في المربع الخاطئ، أنت أم إبراهيم الحمدي؟

لا أنا ولا إبراهيم الحمدي. إبراهيم الحمدي كان له نوايا لا تخلو من شبهة. كان له علاقة بالجميع، مع العمل ومع القوميين ومع الشيوعيين، وظل يواعد ويسوّف، فما أمكن للحمدي أن يكون من يجمعه جهازًا حكوميًا، وعندما فكر في ذلك بدأت المؤامرة تحوم عليه من كل جانب قبل سنة على استشهاده، إلى حد أن الذي قتله هو رئيس أركانه.

 

· ولكنك في كتابيك "اليمن الجمهوري" و"الثقافة والثورة في اليمن"، لا تخفي تعاطفك مع عهد الحمدي، بل في بعض كتاباتك تنسب كل منجزات التحديث للشهيد الحمدي.

ليس هناك من ينكر أن الثلاث السنوات التي حكم فيها إبراهيم الحمدي كانت أسخى السنوات وأكثرها رخاء، من حيث الرخاء الثقافي ومن حيث الرخاء المادي، ومن حيث تقارب التفاوت أو زوال الفروق بين غني وأغنى وبين فقير وغني. مدة ثلاث سنوات، الأمطار تأتي موسمية لا تتأخر ولا تتخلف عن ميعادها، حتى إن الثلاث السنوات تلك كانت الغلال المحلية تضيق بها الأماكن، وكانت السنابل تترك على قصباتها في الحقول من كثرة الخير ومن قلة الأيدي العاملة لأن الغربة اختطفت الأيدي. 

وعندما بذلت الأرض خيرها والسماء فاضت بجود الله، كان العامل الباذر موجودًا، لكن عندما جاء الحصاد لم يجدوا حاصدين. وكان من الممكن أن الناس يجمعون تعاونيات الحصاد في المنطقة الفلانية ويدخرون هذه الحبوب للمجاعة التي حدثت بعد ذلك عدة مرات. وتعرف أن السبعينيات كلها موسم جفاف من أول السبعينيات إلى ٧٥م، وكانت تلك السنوات (٧٥-٧٧) تسمى سنوات الخير، حتى إنه توقفت الحركات القتالية والفتنة بين قرية وقرية، وكان الحمدي متنبهًا لهذه الأحداث، يطفئها قبل أن تتسع، وكان يستعين بمشايخ في هذه الحالة، ولكن غير الذين أنزلهم بالأسماء، لأن هؤلاء هم الذين قدموا استقالاتهم مع القاضي الإرياني.

· تقصد الشيوخ الأربعة؟

أيوه؛ اعتبر أنهم قدموا استقالاتهم فيتنحون عن مناصبهم، وإلا فما معنى تقديم الاستقالة؟

· في قصيدتك "السلطان والثائر الشهيد" في ديوان "زمان بلا نوعية" تنبأت على لسان الشهيد أن يظل ظله ممدودًا في ذاكرة اليمنيين في المستقبل. وإلى حد بعيد يبدو تنبؤك صادقًا. هل كنت تستشرف سنوات القحط التي نعيشها الآن؟

كنت أتصور أن هذه السنوات لا بد أن تخلق نقيضها، ولا بد أن تقدم سنوات تفيض بالعافية والرخاء. ولكن ما كنت أتنبأ أن يزول القاتل. كان هناك شهيد وكان يمكن أن يتلوه شهيد تلو شهيد، وسوف تظل طبيعة الاستشهاد منشودة ومطلوبة. ولكن سوف يتقوى عنصر المناضل على عنصر القاتل. الحمدي إلى الآن لا يُذكر إلا بكل خير في أي تجمع. ولو طالت فترة الحمدي كان من الممكن أن يتكشف الواحد إلى أين سيصل، هل سوف يكون أحسن أم أن غرور السلطة سوف يأخذه، أم أن إحرازه بعض النصر سيعطيه كبرياء؟ بينما النعمة تزيد النعمة، ولا يمكن أن يزيل النعمة إلا الفساد. فهكذا حكم الحياة.

 

· قلت في إحدى مقابلاتك الصحفية إن الشعر يؤرخ من الداخل، بينما التاريخ فن يؤرخ من الخارج. ولكن يخال لقارئ شعرك أحيانًا أنك أسير قلق دائم بخصوص التاريخ السياسي لليمن المعاصر، حتى إنك لا تكاد تدع حادثة سياسية تمر دون أن ترصدها. وفي بعض قصائدك تبدو كأنك تمارس دور المؤرخ. هل لا تثق بكتبة التاريخ في اليمن؟

لا، في الحقيقة أنا كنت أؤرخ معايشة ولا أؤرخ مراجعة. وكنت لا أرجع إلى أحداث مضت قبل سنوات، وإنما أؤرخ للحادثة مادامت ساخنة تنبض كالرغيف الساخن. عندما تناولت انقلاب/ حركة حزيران، وعندما أرخت للشهيد الذي قتل وهو الحمدي، فالقصيدة هذه في الحقيقة أشارت إلى أن الإجرام سوف يخلد، ومقاومة الإجرام سوف تزداد وتنمو وتقوى. المهم أن يظل أمام الشر نمو وخير بحيث تبقى القوة متجاذبة، وأن تتغلب في آخر الشوط قوة الخير.

· كذلك هو الأمر بالنسبة للتاريخ الذي تذيل به قصائدك، ويُستشف من دواوينك أنك تحرص في قصائد بعينها على إيراد تفصيل التاريخ الذي كتبت فيه القصيدة، بينما في قصائد أخرى تكسر هذه القاعدة. ما سبب هذا الانتقاء؟

أنا في الحقيقة أهمش الدواوين، وبالذات المفردات اليمنية التي لا يعرفها القارئ اللبناني أو المصري أو السوري، وإنما أترجمها إلى فصحى، لكن القصائد التي هي معروفة لكل من يقرأ الكتب لا أهمش عليها.

 

· وبالنسبة للتاريخ؟

كذلك هو الأمر، إذا ذكرت حادثة دعان، فلا بد أن أشير إلى زمن الصلح بيننا وبين الأتراك.

· أقصد زمن كتابة القصيدة، مثلًا قصيدة "السلطان والثائر الشهيد" كتبتها في أكتوبر ٧٧م. ومعروف أن ما حدث حينذاك هو استشهاد الحمدي، لكن في قصائد أخرى لا يرد التاريخ رغم ارتباطها بوقائع مثل قصيدة "توابيت الهزيع الثالث"، لم تُذيل بتاريخ محدد.

لا، فيها تاريخ محدد بالساعة، وليس باليوم فقط، لأن في الهزيع الأخير من الليل عادت التوابيت وهي تحمل ثلاثة من الشهداء الأنقياء. ومادامت القتلة على تلك الصفة فلا بد أن تكون وراءها سلطة، وليس مجرد محترفي إجرام، وإنما هي عمل سلطة مؤمنة محمية.

صورة مصغرة للفيديو

· نعرفك غير مهادن للسلطات وغير هيّاب من أجهزتها، بيد أنه استدعى اهتمامي بهذا الخصوص تأخيرك لنشر قصيدتين هما "فتوى إلى غير مالك" والتي أجلت نشرها لأكثر من أربعين عامًا، و"توابيت الهزيع الثالث". الأولى سبقتها بمقدمة تشرح سبب التأخير، بينما تجاهلت الهامش في الثانية على رغم أهميتها من وجهة نظري. ما السبب؟

كان السبب في قصيدة "فتوى إلى غير مالك" أنها أرخت أحداثًا في أيام الإمام أحمد، في أيام ولاية عهده وفي أيام إمامته حين احتل صنعاء بنفسه المنتصر. فتلك قد أصبحت أيام تاريخ، وتاريخ ٤٨ غير موثق وغير واضح الأمانة، ولا مزين بالصدق، وإنما كل ما هو فيه من برهنة ومن تدليل فعلى الأغلاط لا على الصحة.

 

· وبالنسبة لـ"توابيت الهزيع الثالث" التي أخرت نشرها حوالي عشر سنوات؟

لا، لكنني قدمت الأحداث كما جرت. خرجوا من صنعاء في أول الهزيع الأخير، وقُتلوا بعد ساعة من خروجهم من البيت. وأرخت المكان الذي هو "نقيل يسلح" باسمه الصحيح قبليًا وسفريًا، فالحادثة والمكان وأسماء الثلاثة دلت على القتلى، وعلى أن الذي قتلهم كان مؤمن الجانب، على ألا يمسه سوء.

· اخترت علي بن زايد كقناع لشهاداتك وتأملاتك في آخر دواوينك "رجعة الحكيم ابن زايد"، لكن الحكيم الشعبي علي بن زايد بدا غامضًا أو لنقل حصيفًا بعض الشيء على غير عهدنا به. هل الأمر متعلق بعمق تجربتك كشاعر، أم أن الحكمة اقتضت ذلك؟

القضية هي حكم وحاكم ومحكوم. بالنسبة للقصيدة التي هي "توابيت الهزيع الثالث"، فإنني أرختها بأحداثها وأماكنها، أما "رجعة الحكيم ابن زايد" فإنني استرجعته من عالمه الأخير ومن كوكبه البعيد ليشاهد الأحوال كيف تغيرت، وهل هذا التغيير إلى الأفضل أم أنه يفضي إلى ما هو أسوأ وأكثر رداءة. كان علي بن زايد صاحب رأي مسموع، وكان من أخباره أن حكمته مقدمة على الحكمة الشرعية.

قالوا إن أحد القضاة من بيت العنسي قسم تركة رجل غني فقال: أولًا نخرج الدين. قالوا: لا، أول قسم التركة ثم كل واحد يدفع ما عليه من الدين. قال: لا، أولًا ما بلا الدين. ثم زاد: يا جماعة ما سمعتم ما قال علي بن زايد: الدين قبل الوراثة. قالوا: هااا خلاص، أول نخرج الدين.

مع أن علي بن زايد لم ترد هذه الكلمة فيما دون من أقواله الشعرية ومن مقولاته المسجوعة، هذه الكلمة ابتدعها القاضي من وحي أسلوب علي بن زايد: "الدين قبل الوراثة". والكلمة عنده تؤدي شرح ثلاث كلمات أو أربع كلمات، مثلما يقول:

"بالله يا بيض منكث

كثر الكلام بطلينه

حلفت يا راس بدرة

لا بد ما تبصرينه

قالوا: تغدت بميتم

وأصبحت في عدينه"

وبدرة هي ابنته التي هربت مع عشيقها، وهو يقول إنهن لا بد ما يرين رأسها مقطوعًا، لأنه يريد أن يسكت الحديث قبل أن يتطور من كذب إلى كذب أوسع، لأن من عادة الأخبار المروية شفويًا أن يُفرّع منها المفرّع، وأن يُنوع عليها المنوع، فهو حسم الموقف بهذا القول.

وكذلك من قوله: "يقول علي بن زايد: من عادة الفقر الإخلاف، أمسيت من فقر ليلة... زاني وسارق وحلاف". فقد كان في سنة فقر، وهو ما معه قيمة العشاء لأهله، فخرج وشاف الدنيا مظلمة ومطر، رجع... واختبأ تحت الدرج، وسمع زوجاته الثلاث. واحدة قالت: هو تكلم مع فلانة عند البير، ولا بد أنهما عقدا وعدًا، فهو الآن لديها. والثانية قالت: لا، ما عرف ممن يستدين، ولا بد أنه ذهب إلى القرية الفلانية ليسرقوا مدفن حب. والثالثة قالت: لا، هم النهار أعلنوا للقرية أنهم سيجتمعون بعد العشاء من أجل أن يتداولوا قضيتهم وقضية بني بكير (في قضية قتل على يد مجهول). وقد سمع كلامهن كله. وفي اليوم الثاني حصل قليلًا من الحب وذهب إلى الوادي، وسمعته إحدى زوجاته حين حملت إليه الغداء وهو يردد بصوته العالي:

"يقول علي بن زايد

من عادة الفقر الإخلاف

أمسيت من فقر ليلة

زاني وسارق وحلاف"

 

· بالنسبة للغموض في بعض قصائد الديوان وليس كلها. هل الغموض لحكمة أم لعمق تجربة؟

لا، هو للتجربة نفسها، لأن التجربة تناولت مرامي متنوعة ومختلفة. فعندما أصل إلى الحدث الذي ينتسب إليه ابن زايد أو إلى الحادثة التي أشار إليها ابن زايد، أتكلم بكلام الحادثة بلغة شبه عامية أو عامية تفصحت أو فصحى تعممت، ثم أرجع إلى طور الشعر من أجل أن أنهي سياق القصيدة. فكي تكون قصيدة لا بد أن تلي الأبيات المفهومة أبيات فيها تأمل، وفيها تفكر من أجل أن تتعدد مائدة القارئ لكي يكون الغذاء أدسم، ويكون مردوده أنفع.

 

· لكن الرأي السائد الآن فيما يتعلق بالقصيدة السياسية أن قصيدة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات كانت أكثر وهجًا وتأثيرًا من شعر التسعينيات. ما تعليقك على هذا الرأي؟ وهل توافق بأنه ينطبق بعض الشيء على قصائدك السياسية التي كانت أكثر وقعًا في مطلع السبعينيات؟

فعلًا، ولكن ليس فقط السبعينيات، وإنما إلى منتصف الثمانينيات. كانت القصائد أشد وأقرب إلى الوضوح مع الهوامش. أما من بعد النصف الثاني من الثمانينيات والآن فأقول إن الكهولة والسبعين السنة قد أخذت تعطي تجارب ثقيلة وعنيفة، فلا بد من تسهيلها وتوطئتها ما أمكن. ثم إني أصبحت وعاء امتلأ بالأحداث، فمن أين يدفُق من هنا ومن هناك، فيخرج القارئ من القصيدة وعنده فكرة عن القصيدة كلها. إذا لم يكن فهم كل فكرة على حدة، فلا بد أن يكون عنده حِملة أفكار القصيدة.

 


***

الحلقة الثانية: الرئاسة تتطلب الامتداح ولا تريد من يظهرها كما تبدو في غرفة النوم

يواصل الأديب عبدالله البردوني في الجزء الثاني والأخير من هذا الحديث الصحفي المفعم، عرض آرائه إزاء العديد من القضايا الراهنة، وفي مقدمتها أزمة العلاقات اليمنية السعودية. كما يعرض خلفية مواقفه من السياسات المتعاقبة، موضحًا أسباب انتقاده للرعيل الأول من الحركة الوطنية.

 

لقاء: سامي غالب

 

حول العلاقة بين المثقف والسلطان

 أنت دائم النفور من بلاط السلطان -أي سلطان- حتى في عز المد الثوري والوطني. أهو أمر محتوم وقدري أن تكون العلاقة بين المثقف والسلطان ملغومة وارتيابية؟

الحقيقة، مسألة العلاقة بين المثقف والسلطة مسألة قائمة من مطلع السبعينيات إلى الآن، وربما كانت أشد وضوحًا من بعد نكسة حزيران إلى الآن. لأن نكسة حزيران كشفت مواطن الخلل في الجهاز السياسي، وفي الجهاز العسكري، وفي الجهاز الأمني. وتسببت هزيمة حزيران في كشف تهاوي السلطة من كل نواحيها كي لا تتكرر الهزائم. فقالوا إن علاقة غير ودية قامت بين الأنظمة وبين المثقفين، وهذا التعميم خطأ، لأن للأنظمة الحاكمة مثقفين من حولها وهم أنشط وأكثر قدرة على الحركة لأن جيوبهم مليئة.

الحقيقة أن لكل سلطة جماعات من المثقفين. وبالنسبة لي، فإن العلاقة بيني وبين السلطة ودية جدًا، ولو كانت لغتها عالية ولو كانت نبراتها ساخنة، لكن أصلها المودة، لأني أود أن يكون الحاكم أحسن مما كان، وأن يكون في يومه الثاني أحسن من يومه الأول. يعني يستفيد من الأخطاء ويجتنبها لكيلا يكررها. فأنا بعنفٍ أدعو إلى أن الحكم يتأصل بالشعب ويصل إلى كل ناحية في الشعب، فيجب أن يصحح المسيرة ويجب أن يلغي أسباب الشكوى.

مثلًا، الاستخبارات يجب أن تعلم الدولة بما يتذمر منه الناس، فتعمل الدولة على إزالة أسباب الشكوى، سواء كان ذلك بتخفيض سعر السلعة الفلانية أو بفتح مجال عملي يستوعب موظفين عاطلين. لأنه لا يوجد أشد على الحكومة من المثقفين العاطلين، لأنهم ذوو قدرة على ملء هذا التعطل بالأحقاد وبث الأحقاد على السلطة القائمة.

 

· من أي منطق تتخاطب مع الحكومة؟

لا، أنا شخصيًا أحب ألا تقع الحكومة في خطأ. وعندي مثلًا أن يستقيل رئيس الوزراء أفضل من أن يُقتل رئيس الجمهورية، لأني أحب السلامة والعافية، وأريد أن يحيا حياته كإنسان، وأن يحيا متعبًا بأعماله كرئيس، لأنه مواطن أولًا، ورئيس ثانيًا، ومسؤول عن الرئاسة من جهة، ومسؤول عن الوطن من جهة ثانية. فمسؤولية الرئيس ليست هينة، وإنما كيف يمكن أن يتعامل مع قوى تتعاون معه بحيث لا يقوم بينهما شك، ولا يحدث بينهما ما يمكن أن يدعو إلى الخصام. لكن الرئاسة تتطلب الامتداح ولا تتطلب النصح، وهذا أحد عيوبها، فهي تريد من يريها نفسها وهي في أكمل زينتها، ولا تريد من يبديها كما تبدو في غرفة النوم.

 

· ومن ناحيتك، فإنك دائم النفور من السلطة؟

لا، أنا لا أعادي السلطة، بل أود لها مودة ساخنة، وأتمنى أن تكون الحكومة إلى الآن أفضل مما كانت، وأن تكون من الآن أفضل مما هي عليه اليوم. لأن الإنسان، أي إنسان، يجب أن يكون أفضل مما كان، وأن يكون تعليمه أفضل. كذلك الحاكم، أمام التجارب، يستطيع أن يتجاوز مشكلة واحدة في فترة واحدة، فيقلل أسباب الشكوى. لأن الشكوى مهما كانت قدرة الحكومة على قمعها وإخمادها، فهذا ليس حلًا، لا لها ولا للشعب. لأن الأحقاد إذا تضاعفت فيمكن أن يغلب الواحد ألفًا. ولهذا يُقال إنه يجب أن يكون نصف الناس أصدقاء للحاكم. أما إذا كان صديق كل الناس فهذا أفضل وأتم. لهذا قالوا إن الحاكم العادل له نصف الناس أصدقاء ونصف الناس أعداء. هذا إذا كان عادلًا، أما إذا كان جائرًا فهو جائر على الحق، وعلى الشرع، وعلى نفسه كمسؤول، وعلى رعيته كأناس مسؤول عنهم هو.

 

· إذن، ما هو دور الدولة في هذا السياق؟

أنا أعرف أصول الدولة وما هي الحكمة في قيامها. السبب في هذا كله أنها تحمي الضعيف من القوي، وتحمي الفقير من الغني، وتحمي المواطن العادي من المتسلط. ولهذا قالوا إن الحكم خُلق لكي يوجد الإنصاف بين الناس. لكن أين من يكاشف المجتمع بما يريد وكيف يريد؟ كان الحمدي يدعو كل شهر إلى اجتماع قائلًا: "اعطوني تصوراتكم عن علاج القضية الفلانية". وكانت تُقدم له تصورات حول كيفية علاج القضية الفلانية أو تجاوزها.

 

· ولكن كان هناك تحذير له من الشيوخ الذين استقالوا؟

نعم، قالوا له إن الشيوخ الذين استقالوا أصبحوا شبه ملفيين وبدأوا يجمعون جهودهم وأفكارهم ليرتكبوا أي حدث. فقال الحمدي: "الذي بله الله أنه يضع مكان كل شيخ شيخًا آخر". وإذا كانت المسألة مجرد استبدال الشيخ بشيخ آخر، قال: "الأولى أن يبقى الأول لأنه عنده تجربة". ثم يُمسح ما علق بنفسه من العهد الأول، ثم يتعلم الشيخ الذي له علاقة وجهًا مشرقًا عن المركزية الجيدة. وقال إن هذا التوفيق الذي وصل إليه يستحق الشكر ويستحق حسن الرعاية للشعب لأنه من الشعب ويستفيد من الشعب.

 

· ربما الوقت لم يسعفه لإحلال الشباب والكوادر الوطنية الجديدة محل الجيل القديم في الجهاز المدني والحكومي؟

في الحقيقة، عندنا أحزاب جيدة، وفي بعضها عناصر جيدة، لكن لا يوجد تجمع لكل ما هو جيد ليفرض جودته على الآخرين. بل إن هناك من يخضع الأمور كلها للتصويت في الانتخابات، وليس لنا شيء وسط بين الخطأ والصواب. الأحزاب يمكن أنها في هذه الفترة ناقشت أمورًا ووقفت من أمور، وها هي الآن تبدي استنكارها على قضية معينة، مثلما أرادت أن تقوم بمظاهرة مؤخرًا. هذه أصبحت هاجسًا بأن الحزب يدخل الشارع العام، ولكن هناك خوفًا من الشارع العام.

 

عودة للعلاقة بين المثقف والسلطة

· أنت فيما تقول تعتقد بإمكانية أن تكون العلاقة تكاملية، بينما معظم السلطات تنظر إليها على أنها علاقة تبعية، ودور المثقف هو أن يمتدحها ويروج لها ويسوق مشاريعها بين الناس. هل في التاريخ تجربة على علاقة موضوعية بين المثقف والسلطة غير قائمة على التبعية أو الارتزاق؟

نعم، نلاحظ أن القوى الثقافية الموصولة بالسلطة أضعف دقة، وأضعف رأيًا، وأقل تجربة. لكن يسر السلطة منها أنها تؤمّن على ما تقول وتستجيب لما دُعيت إليه. فهذه السلطة بطبيعتها مرتزقة، بينما هي لا تطيق المثقف الذي عنده الرأي الأفضل أو الفكرة الأحسن. وهذا لا يوجد إلا عند كبار المثقفين، وهؤلاء من نوعين: إما من يجتنب السلطة والسياسة ككل، أو من يحاول أن يقدم إضاءة أو يقدم نصيحة أو ينبه إلى كارثة قبل حدوثها.

 

· في تجربتك الشخصية، متى وجدت نفسك قريبًا من السلطة؟

ما وجدت نفسي قريبًا من أحد كالقرب المعهود، أي أني حليف له وأنه يحذرني من الجماعة الفلانية أو الشخص الفلاني. لا، وإنما قرب من حاكم كمشروع أو كإحداث لفتة إلى الخير أو طرق موعظة تظل تحك في النفس حتى تخرج من الإنسان نفسية غير نفسية المبتلى بالإجرام. مثلًا، إبراهيم الحمدي، كانت لي علاقة بيني وبينه من الستينيات، وكان في ذمار وأنا كنت في ذمار فترة طويلة تقريبًا سنتين. وبعدها، عندما كنت أزور أهلي كنت أصل إلى بيته، وعندما أسافر، أسافر من بيته. وكانت بيننا علاقة مع اثنين أو ثلاثة أو أربعة من إخوانه في ذمار. فهؤلاء تكونت بيننا علاقة، فهو أراني وجهًا مشرقًا لأنه في مشاغل السلطة لم ينسَ صديقًا قديمًا.

 

· ما صحة الواقعة التي تقول إن إبراهيم الحمدي أثناء رئاسته حضر إحدى أمسياتك الشعرية، وطلب منك إلقاء قصيدة "13 حزيران"؟

لا، هو فعلًا حضر أمسية، لكنه لم يطلب ذلك. وإنما سمع خلالها أحد الحاضرين يلح عليّ لألقي قصيدة "خوف" من ديوان "وجوه دخانية في مرايا الليل"، ويردد: "خوف... خوف". ولما تكرر الأمر، فهم الحمدي ما يقصده، وقال لي بصوت مسموع: "خوف؟ وما فيش خوف".

 

· هل كان للروح الشعبية العارمة التي انطلقت في عهده دور في توثيق العلاقة؟

الروح الشعبية فعلًا كانت عارمة. لكن الحمدي ربما أراد أن يتحلى بحركة حزيران كبديل عن ثورة سبتمبر. وكنت أقول: يمكن أن تجعل حركة يونيو امتدادًا لثورة سبتمبر، لكن الواقع القوي أفرز قوة أقوى. جاء الذين أفرزتهم الستينيات ونصف السبعينيات أقوى من الذين أنهكتهم التجارب الفاشلة في الحروب العشائرية والحروب الداخلية.

 

خطيئة الأربعينيين

· كلامك هذا مدخل للسؤال التالي عن هؤلاء الذين أنهكتهم الستينيات، والذين تسميهم دائمًا بالأربعينيين نسبة لجيل الحركة الوطنية في أعوام الأربعينيات. لماذا أنت دائم الانتقاد لهؤلاء في كتاباتك وأشعارك؟ فلا نراك تفوت مناسبة دون أن تنتقدهم.

لأني في الحقيقة وجدتهم أزالوا من هو معروف، وأحسن، وجاؤوا بواحد غير معروف ولا يبدو أنه أحسن. فكان الناس يعرفون عبدالله الوزير كأمير ألوية أو قائد حروب دوخت ربما عشرين منطقة في اليمن. فعندما يجيء هذا بدلًا من الإمام يحيى فلا يمكن أن تجده مكافئًا له، ولا يوازنه لا في الخبرة ولا في العلم ولا في المقالة. كان الإمام يحيى نادرًا، وشعبيته كبيرة كما يقال.

· شعبيته تكاد أن تصل إلى درجة العبادة، فلا يمكن أن تكون أنت كارهًا لرجل يحبه الملايين؟

نعم، هناك دعاية تقول إن هناك مبشرين ومفسرين فسروا للناس حب الإمام. لكن مع هذا كله، لكل إمام جماعة تشيع أسراره وتظهر خباياه وتبدي معجزاته، وهذا ما صنع الشعبية التي ملكها الإمام يحيى. وهذه واحدة.

النقطة الثانية، أن خمسة من رجال القبائل المسلحين يقتلون رجلًا تحت التسعين ليس له حارس، جانبه ابن قلالة بيده بندقية، وإلى جانبه اثنان من أحفاده ووزيره عبدالله العمري. فهؤلاء ضربوا بالرصاص، وهذا عمل لا يخلو من شناعة.

 

· لكن لماذا اختاروا قتله؟ هل طلبوا منه التنازل؟

نعم، طلبوا منه ذلك مع حزب الجمعية اليمنية الكبرى، وقالوا له: "إنك قد بلغت مرحلة العجز، ومن الأفضل أن تتنازل عن الحكم". لكن الإمام يحيى لم يسمع لهم. ربما لو تغاضى عن هذا، لظل يحكم برغم ما يلاحظه الناس عليه من عجز. فلا هم سمعوا له، ولا هو بادر بإعراب الرأي، فانتظروا ما يبدر منه.

 

· ولكن أي أقلية تلجأ إلى خيار العنف في مثل هذا الوضع؟

خيار العنف يستخدم ضد عنف أو ضد ما يمكن أن يكون عنيفًا. أما إنسان كل يوم يدنو من الموت خطوات، فكان يمكن عزله في قصره.

 

· كما هو الحال مع ثورة يوليو بالنسبة للملك فاروق؟

نعم، كانت القضية في الوقت الذي قُتل فيه الإمام يحيى أن هناك عرفًا مقدسًا يقول إن الذات الملكية مقدسة، ولا يجوز الطعن أو التجريح في الذات الملكية. ولهذا سجنوا السلطان عبدالحميد ولم يقتلوه، وكذلك الملك فاروق لم يُقتل، وإنما جعلوا ابنه ولي عهد، ووضعوا وصاية عليه. وبعد 11 شهرًا أعلنوا الجمهورية. كان هناك ما يسمى صون الذات الملكية. أعتقد أن هذا العرف ما كان سائدًا عند جماعتنا. وإنما اعتبروا أن الأمور تنتهي بخمس طلقات. ثم بعد الخمس طلقات تركوا القتيل تحت الرياح والشمس، حتى إن الإمام أحمد استعطف القبائل بهذه اللهجة: "قتلوهم وتركوا جثثهم تحت شمس الضحى وريح الأصيل".

 

· وهذا العرض هيّج الناس؟

نعم، حتى إن النساء، كما يُحكى، خرجن وطلبن من الرجال أن يخلعوا العسوب ويلبسوهن إياها.

محمد محمود الزبيري

 

· لكن لم تجب على سؤالي حول تركيز نقدك على الأربعينيين؟

أنا أركز عليهم لأنهم كانوا صفوة المثقفين في تلك الفترة، من محمد محمود الزبيري إلى عبدالرحمن الإرياني، إلى أحمد محمد نعمان، إلى أحمد محمد الشامي. كانوا صفوة المستفيدين، وكان ينبغي أن تكون آراؤهم أسمى مما نزلوا إليه.

 

· حركة نوفمبر 67م قد تُفهم على أنها امتداد للأربعينيين. وأنت دائم الانتقاد للحركة، وتصفها بالعهد التصالحي. حتى وأنت ترثي القاضي الإرياني في مقالتك الأخيرة، لم تُخفِ مواقفك السياسية منها خلف غيوم أحزانك. ألم تتغير آراؤك إزاء حركة نوفمبر مع تعاقب السنين؟

لا، عندما كتبت عنه، كتبت مقال تأبين ولم أكتب مقال تحليل. مع كل هذا، فهو أحسن أولئك العائليين. أشرت إلى أن هؤلاء كانوا رجالًا وأنضجهم فكرًا. طبعًا، يوجد ما يسمى بالتعصب، وبعض الناس أكثر قيامًا وأكثر إقعادًا لمن حولهم.

 

· نفس المقالة أوردت وقائع جديدة لم تُشر إليها من كتبك أو كتاباتك السابقة، منها تعرض إبراهيم الحمدي لضغوط قوية لدفعه نحو تصفية الإرياني جسديًا. لماذا لم تُشر إلى هذه الواقعة من قبل رغم أنك أفردت فصلًا كاملًا للحديث عن الجمهورية الثانية التي ترأسها الإرياني في كتابك "اليمن الجمهوري"؟

لأن القاضي الإرياني لم يكن يريد أن يُشار إلى هذا، لأنه كان على علم بذلك.

 

· لماذا؟

لأنه أصبح صديقًا للذين ضغطوا من أجل الانقلاب عليه، وأصبح يراسلهم أكثر مما كان يراسلهم وهو رئيس. فهذه من خصوصياته. لكن عندما مات، صارت كل خصوصياته شأنًا عامًا.

 

الرئيس عبدالله السلال - عسكري أدُهش بمعرفة إعراب الكلام

مذكرات مؤجلة

· أنت ركزت أيضًا على موضوع السيرة الذاتية كأنما أردت أن تدفع للمسارعة بنشر المذكرات. والملاحظ أن المشير السلال توفي ولم تُنشر مذكراته رغم مرور أربع سنوات على وفاته، وكذلك هو الأمر بالنسبة للأستاذ النعمان. أليس من حق الأجيال الجديدة أن تطلع على خلاصة تجارب من كانوا رواد مراحل سابقة؟

القاضي عبدالرحمن الإرياني وعد عندما خرج إلى دمشق قبل استقالته الأخيرة، وقال إنه سيبدأ بكتابة مذكراته. فقلنا: جيد، سوف تكون أربعين سنة وأنت في صميم السياسة. المعطي يعطيك التجارب ويعطيك استيحاءها. فإذا كتبت عن هذا، سوف يكون إضاءة للآخرين أو معرفة طريق الذين سيطرقون بعدك. وبعد ذلك، فإنه إذا كتب مذكراته واعترف زائلًا، سوف يكون هذا مرضيًا. لكن الناس لا يرضون عن أنفسهم، وهم خاطئون.

 

· لماذا في اليمن فقط لا تُنشر المذكرات على عكس ما هو حاصل في دول أخرى، وأحيانًا قبل وفاة الشخص أو بمجرد خروجه من السلطة؟

هؤلاء يدعون إلى المودة وإلى التآخي، وهم لا يريدون أن يجرحوا أحدًا. حتى إن الناس عندنا يقولون: "لو فلان ترك هذا الكلام إلى ما بعد وفاته حتى لا يُجرّ على نفسه عدم الترحيب من الآخرين". وهم عندهم خوف من الكلمة التي يقولونها، ويجب أن يكون الإنسان على خوف من الكلمة التي يقولها، لأنها مسؤولية. والكلمة التي أقولها هي تدل على أكثر مما تدل عليه الكلمة التي قيلت. مثلًا، إذا سمعنا هجاءً في رده، يكون أضعف من الانهيار للقائل ولا يُعتد بالمقول فيه، لأن القائل قدم لنا أفكاره جاهزة.

 

· ولكن لماذا لا ينشر الورثة مذكراتهم؟

نحن نعرف أن السلال كتب مذكراته، وكذلك النعمان، وأخيرًا الإرياني.

 

· وهل يعود ذلك إلى استمرار علاقات بعض هذه العائلات بالحكم؟

يبدو لي أن النعمان كان كثير التحدث، وكان عنده أمور كثيرة كتبها. أما السلال، حتى لو عنده أمور كثيرة، فإنه سيستكتب آخر لكتابة سيرة حياته لأنه من العسكريين الذين ترأسوا. صحيح أنه ظهر بعد الثورة خطيبًا، وكان يقال إن السلال يخطب ولا يلحن. وأنا كنت أسمع كل خطاباته. وكان عنده المسائل الأولى من النحو، يكرس لسانه على نطقها معربة. عندما كان مدير ميناء، مثلًا، فإنه قال: "وقد لاقينا البواخر الوافدة".

· ذلك لكي يؤكد فصاحته بالنحو؟

نعم، لكنه عندما يدخل في المسائل النحوية التي لا توجد إلا في المطولات، كان يخطئ أحيانًا، كأن يضم المضاف إليه بالقول: "حب شعبنا". وقد كنت أستغرب: هل هذا فاته؟ السلال أدهش لأنه يعرف إعراب الكلام وهو عسكري. مع أن هناك عسكريين كُتّابًا وشعراء مثل محمود سامي البارودي، ياسين الهاشمي، صالح مهدي عماش، مصطفى طلاس، وعبدالله التل. هؤلاء كتبوا لأنهم التحقوا بالكلية بعد تسريحهم من الجيش، ودخلوا المكتبات، وكان لديهم شغف بالخلق.

 

· هناك من يلجأ إلى التأويل النفسي والذاتي لمواقفك تجاه السلطات المتعاقبة، وبالأخص تجاه الأربعينيين. فحركة 48م كان لها رموزها السياسية والأدبية. أنت جئت لاحقًا، ويُنظر إليك كناطق رسمي باسم أجيال الخمسينيات وما بعدها. ما صوابية القول بأن موقفك منهم لأنهم من جيل قديم وأنت جئت تعبيرًا عن جيل جديد؟

مع هذا كله، ليس هناك انقطاع بين الأجيال. مثلًا، كنت أنا أيام شباب عبدالرحمن الإرياني طفلًا، وكنت عندما قُتل الإمام يحيى بالغ الرشد، يمكن في 17 سنة. عايشت القاضي عبدالرحمن وهو سجين، وكنت أطلع على رسائله وأتابع قصائده التي كانت تُنشر في جريدتي "النصر" و"سبأ". وكتبت عنه في كتابي "رحلة في الشعر اليمني". في الفترة التي كنت أنا فيها تلميذًا له، كان القاضي الإرياني علامة. وعندما كنت في أوائل التثقف أو أواخر التعليم، كان (أعضاء هذه الجماعة) في الخمسين أو الستين. فليس بيننا وبينهم انقطاع. يمكن الآن أن أولاد القاضي عبدالرحمن الإرياني الصغار هم أطفال أو شباب، وأنا الآن شيخ. ليس هناك قطيعة بين جيل وجيل. هذا الجيل وُلد في شبيبة الجيل الذي قبله، وهذا شب في شيخوخة الجيل الذي قبله. معنى هذا أن الأجيال متواصلة، لكن المؤثرات الخارجية تطبع القادم من طفولته أكثر مما تطبع الشيخ الذي قد انطبع على أمور معهودة ومرعية.

 

غرام وانتحال

· لننتقل إلى أربعيني آخر، ففي كتابك الأخير "الزبيري من أول قصيدة إلى آخر طلقة" استوقف كثيرين عند قراءته أنك أغفلت الإشارة إلى قصيدته السينية التي يهاجم فيها نظام الثورة. وهي القصيدة التي كنت قد اتهمت آخرين، وبالذات خصوم عبدالناصر، بفبركتها. لماذا تجاهلتها في كتاب خصص للزبيري، رغم أنك أشرت إليها من قبل في كتابات سابقة؟

لا، لم أشر إليها من قبل على أنها للزبيري، وإنما كنت أرويها أبياتًا، ولكن عندما قرأتها كقصيدة كاملة وقرأت فِعْل الزبيري، عرفت من خلال سيكيولوجية العبارة ومن خلال معمارية القصيدة أن هذا ليس أسلوبه، وأنه لا يمكن أن يقول:

"البدر في الجرف تحميه حماقتكم

وأنتم مثلما كنتم له حرسُ"

الزبيري لا يقول هذا، لأنه كان يستحيي، وكان دائمًا يُجل الضباط الذين قاموا بهذه الخطوة التاريخية (ثورة سبتمبر). كذلك عبارات أخرى...

 

· لا خلاف على ما تقول، ولكن لماذا لم تشر إلى هذه الوقائع في الكتاب؟

لا، أنا كتبت عنه من قبل واعتبرت القضية منتهية. ثم إن القصيدة نفسها ليس لها وقع تاريخي ولا إيقاع تاريخي. لأنني اهتممت بشعره كله. ومن حسن الحظ أن جامعة عمان ضمت الكتاب إلى مقرراتها الدراسية، وكذلك جامعة حلب ألحقت الكتاب بدروس قسم الآداب. وفي دار الأدباء بمصر، ناقشوه في أمسيتين، ورجحت الآراء التي رأت أن يُلحق بقسم الآداب، لأنهم وصفوه بأنه أفضل دراسة، لأن كل رأي فيه له برهان، وكل دعوى لها شاهد. وإني تقصيته ولم أقل عنه إلا أفضل مما قاله عن نفسه.

صحيح أنني تخيلت في القصيدة أنه كان له غرام بالقصر الإمامي، لكنه غرام خفي، وما استحييت من أن أقول، لأن الزبيري إنسان، جائز عليه أن يقع في هفوة، جائز عليه أن تفتنه عين جميلة أو وجه جميل، وليس هذا مستحيلًا على الزبيري كشاعر ولا على غيره. المسألة أرجعتها إلى نظرة ولم أربطها بعلاقة.

 

· وهل كنت تتوقع أن يثير ذلك حفيظة البعض الذين كتبوا بعد ذلك ينتقدون الكتاب؟

نعم، في ناس كتبوا فعلًا، لكن العبارة واضحة عندما يقول:

"وإذ أسفر الوجه الذي به هائمًا

فرهتني في الصباح عقاريه"

فالوجه الذي بث فيه الهيام كان نسب الهيام إلى نفسه، فهذه شكوى من حبيب وليست شكوى من رقيب (ضاحكًا). والمسألة كما قال المتنبي:

"ولو كان ما بي من حبيب مقنع

قبلت، ولكن من حبيب معمم"

 

· ومع ذلك، لم تكن تتوقع رد الفعل السلبي هذا؟

ذلك لا يهمني، سواء وافقوا على رأيي أو اختلفوا، أو حتى شتموا فوق ما يطيقون -الله يعينهم- فأنا أقول ما أرتئي وأتحمل مسؤوليته ولا أتبرأ من مسؤوليته.

 

· وبالنسبة لسينيته؟

أما قوله "هذا هو السيف والميدان والفرسُ"، فهذه في الحقيقة ليست من معجم الزبيري، ولا هي من أسلوبه الشعري، وبالأخص في قصائده الأخيرة. عندما كتب مثلًا عن ثورة العراق:

"أشعليها نارًا وثوري وزيدي

ثورة الشعب في بلاد الرشيدِ"

كانت لغته في آخر الخمسينيات وأول الستينيات أقرب إلى اللغة الصحفية.

 

العلاقات اليمنية السعودية

· لنتحدث عن آخر القضايا المتفجرة حاليًا. هناك من يرى أن النزوع السعودي للسيطرة على اليمن قد خفت قياسًا بما كان عليه في الستينيات والسبعينيات، لكن لاتزال العلاقة حتى الآن معقدة بين البلدين. كيف تستشرف مستقبل العلاقة بين البلدين؟

محمد إبراهيم العلي قال: "يجب أن يكون اليمن على أتم يقظة من امتداد الإنجليز من الجنوب إلى الشمال، ومن اتساع أطماع السعودية إلى صعدة. فاليمن مسؤولة عن حماية جانبين من طامعين لا يردعهما شيء عن مطامعهما". وزار اليمن شاعر عراقي اسمه عبدالحميد الجواهري (غير محمد مهدي الجواهري) فقال:

"للإنجليز مطامع في أرضكم

لا تنتهي إلا بأن تتبلشفوا"

هذه الكلمة ظلت في بال الناس. وعندما أُعلنت الدولة في جنوب اليمن التي سيطر عليها اليسار من الجبهة القومية، قالوا إذن صدق (الجواهري) حين قال: "إلا بأن تتبلشفوا." فالحقيقة أن السعودية في أي مكان تحب أن تتسع في ملك الغير، مع أن سكانها قليلون. وأنا أتصور أنها قد اقتطعت من أرضنا كيلومترات كثيرة. اقتطعت من هنا واقتطعت من هناك، فيجب أن تقف عند حدها، ولا نتجاوز غير حماية حقوقنا، ومنعهم من نيلنا بأي طريقة من الطرق.

 

· هناك مؤشرات لحل نهائي عبر الزيارات المتبادلة الشهر الماضي، لم يُعلن عنها شيء. هل تعتقد بوجود إمكانية لحل مشكلة الحدود بما يترتب عليه حل نهائي لكافة التوترات؟

هو الرئيس يسميها تسوية وليس حلًا، أي ليس هناك مشكلة بل هناك وضع يريد التسوية فقط. لكن نقول إن اليمن لا يمكن أن تقبل ذلك، لأن الشرط جائر جدًا وغير مقبول. وهم يريدون أن تكون لهم طريق إلى البحر العربي بحيث يصلون إلى عمان، ونحن يلوننا بحيث يكون الجانب الأضعف في متناول أيديهم. والحقيقة أن هذا طمع غير مشروع، حتى لو استأجروا مثلما تستأجر العراق من تركيا ممر النفط، أو ممر النفط إلى بانياس بسوريا، فهذا ممكن جدًا، لكن الأرض المتنازع عليها ليست محل نزاع على ملكية اليمن أبدًا، وليس هناك من يرى أن للسعودية حتى شبهة حق.

 

· كثيرون يرون أن الصراع مع السعودية استراتيجي لأسباب ثقافية ومذهبية وسياسية، وأن المشاكل الجوهرية ستظل عالقة بغض النظر عن نتائج المباحثات الحدودية.

هي قد خفت عندهم كثيرًا، وكانت عندنا غير قائمة. مثلًا، لم يعد قائمًا عندهم تكفير الزيدية. لم يعد عندهم أن البدع في اليمن مخلة. البدع التي يرونها مخلة هي عيد الغدير، وكذلك صوم جمعة رجب واعتبارها جمعة مميزة. كذلك جواز الصلاة قصرًا إذا كانت رباعية وتمامًا إذا كانت غير رباعية. 

هم يقولون إن القصر رخصة، ونحن نقول إن القصر وجوب لأن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه: "فإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة". كذلك عندما تحتفل بعيد المولد النبوي، هم يرون هذا بدعة، والشيعة أيضًا الذين يقيمون هذه المناسبة يسمونها بدعة. كلنا نقول إن الاحتفال بالمولد النبوي بدعة، ولكنها بدعة مستحسنة. وهم يقولون: "لا، البدعة بدعة وليس فيها مستحسن وغير مستحسن لأن الحديث يشمل حكاية (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار)". هذا كان رأيهم شاملًا. وأنا من حيث المنطق الفقهي أرى أنهم على صواب، وأن البدعة غير مستحسنة في أي شيء، وبالأخص في الأمور الشرعية، لأن مخالفة ما أمر به الرسول أو اقتراف ما نهى عنه تتوقف عند حدود دعوة النبي، نهيه، وإقراره. هم يملكون جماعات من رجال الدين المحققين، وهم على مستوى عالٍ جدًا من فهم المتون والإسناد وكل علوم الحديث. هم في الحقيقة فقهاء كما ينبغي. قد يكونون أقل نحويًا، قد يكونون أقل بلاغيًا، ولكنهم في علوم الحديث شيوخ.

· فيما يتعلق بالجانب السياسي، يبدو من تاريخ العلاقة اليمنية السعودية أن مقولة "لا توجد عداوات دائمة ولا توجد صداقات دائمة، بل توجد مصالح دائمة" لا تنطبق على حالة هذه العلاقة. هناك عداء دائم من السعودية تجاه اليمن بغض النظر عن طبيعة النظام السياسي الموجود: من أيام الإمام يحيى، ثم نظام ما بعد ثورة سبتمبر، ثم نظام الإرياني القريب من السعودية، أو على الأقل الذي كان للسعودية دور في تركيبته، وعداء للحمدي من بعده، وعداء لنظام ما بعد الوحدة. كيف تنظر إلى واقع هذه العلاقة؟

هم ما يزالون على هذه الحال. إذا هبت ريح مختلفة، وتعود لهم نفس الفرص التي حدثت في أول الستينيات، لا يمكن أن تجدهم هكذا. لكن الآن هم يحاولون أن يأخذوا الأمور بالتودد والتصنع. وهذه مسائل لا يكون ثمنها التودد أو التصنع أو نقود العالم كله. هذه الأرض هي ملك الشعب جيلًا عن جيل، وليست ملك رئيس، ولا ملك دولة، بل ملك الرؤساء كلهم الذين سيأتون، والدول كلها التي ستأتي. لأنها أرض، ونحن نتكاثر في كل فترة. نحن الآن أصبحنا فيما يبدو 20 مليونًا.

 

· لكن كبار المسؤولين الآن يقولون إنهم قادمون على توقيع اتفاق، والأرجح أنه اتفاق صيغ وفق الرغبات السعودية. هل تتوقع أنهم يغامرون فيوقعون؟ وما هي تقديراتك للموقف الشعبي؟

أنا لا أتوقع أنهم يوقعون على هذا بصفته الحالية الآن، وعلى الشروط السعودية القائمة الآن. لا ينبغي أن يقبل أي رئيس إطلاقًا، وإذا قبل فلن يمر بسلام، ولن تكون هذه خطوة انتصار، وإنما ستشكل عداوات تاريخية ومقاومة تاريخية. قد لا تكون المقاومة التاريخية هذه السنة أو السنة الآتية. لم يقع مقتل الإمام يحيى إلا بعد توقيع الاتفاقية بـ15 سنة. هي القضية هكذا، لكن مقتل الإمام يحيى قطع الصلة بين الاتفاقية وختامها. بعدما قُتل الإمام يحيى، سكت الإمام أحمد، فلا طلب التصويت الانتخابي لمن يحكم، ولا طلب جعل الاتفاقية نهائية. بل سكت عنها طوال حياته، وما جرى بينه وبين آل سعود أي كلمة تفاوض.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً