لا تجرف السيول ما صادف وجوده أمامها، ولكن أعظم الأحداث المأساوية في تاريخ اليمن عبر آلاف السنين، اقترنت بكوارث الغرق.
لقد تفرّقت أيدي سبأ بعد "سيل العرم" الذي دمر السد، واقترن زمنيًا بهلاك حضارة السبئيين.
وما نشهده اليوم ليس سوى بروفة بصرية مصغرة من لعنة الكوارث الطبيعية التي تعصف باليمن عبر التاريخ: الأعاصير والعواصف والفيضانات المدمرة والزلازل.
اليمن مركبة على أرضٍ ليست مستوية، إذ تؤكد الدراسات الجيولوجية وعلماء المناخ أن اليمن من البلدان المعرضة للكوارث بشكل متكرر.
وأشارت دراسة يمنية (حكومية) نشرها مكتب الأمم المتحدة "أوتشا" في موقعه الألكتروني، إلى أن اليمن يعد من بين أكثر دول العالم قابلية للتأثر المناخي.
وبحسب الدراسة، فإن اليمن يحتل المرتبة 117 من بين 181 دولة داخلة ضمن خطوط التغيرات المناخية. "كما أنه أقل البلدان استعدادًا للتخفيف من آثاره".
ويحتل اليمن المرتبة 22 من بين الدول الأكثر ضعفًا، والمرتبة 12 للدول الأقل استعدادًا لمواجهة هذه المتغيرات. وأكدت الدراسة أن "اليمن معرّض بشدة للآثار المرتبطة بتغير المناخ قبل الجفاف والفيضانات الشديدة والتغيرات في أنماط هطول الأمطار وزيادة شدة العواصف وارتفاع مستوى سطح البحر".
وهو فوق ذلك: من أكثر 5 دول منخفضة الدخل وفقًا للدراسة، وأكثرها عرضة لارتفاع مستوى سطح البحر، حيث تعتبر "عدن" سادس أكثر مدن العالم "المعرضة للعواصف والفيضانات الناجمة عن ارتفاع مستوى سطح البحر".
هذه السنة فاضت أودية جبال السراة (غربي اليمن)، واندفعت سيول بشكل مهول لدرجة كادت أن تغرق مدنًا كبيرة في تهامة مثل "زبيد" التي ارتفعت قليلًا، ولكن لتبدو كلقمة سهلة لطالما حاول الوادي التهامها عبر تاريخها.
هذه المرة كادت مدينة "الحديدة" أن تغرق لأول مرة، حيث حاصرتها سيول وادي سهام العظيمة من جنوبها، بالتزامن مع حالة حصار ثانية طوقتها من جهة الشمال: وادي سردد.
ولم تكتفِ سيول وادي سردد بما جرفته روافده من أرواح وأموال من أعالي جبل ملحان، هذا العام، وإنما كادت مياهه أن تغرق مدينتي الكدن والضحي، وتجرف الأخيرة عن بكرة أبيها.
وتعد مدينة "زبيد" من أكثر المدن اليمنية المعرضة لخطر الانجراف.
يعد موقعها من الناحية الحربية والدفاعية جيدًا، لكن محمد بن زياد ووزيره جعفر المناخي لم يضعا في الحسبان قوة وخصائص السيول القادمة من إب وجنوب وصابين وعتمة، ومن حدود يريم وسمارة، حيث أكبر كمية من مياه الأمطار تهطل هناك ضمن حصة مطرية هي الأكثر كثافة على مستوى الجزيرة العربية، إذ تتجمع عبر وادي زبيد كل تلك الروافد باتجاه البحر. [مؤسس الدولة الزيادية في اليمن تحت راية العباسيين، وأول من اختط مدينة زبيد، وجعلها عاصمة لدولته سنة 203 هجرية/ 819م، ووزيره جعفر المناخي].
ودوّنت كتب التاريخ ووثائق الإخباريين بعضًا من نكد الحظ الذي عايشته هذه المدينة العظيمة بفعل تعديات السيول والأعاصير المدمرة.
في القرن السادس عشر كادت زبيد أن تلقى حتفها تسع مرات إحداها بحريق التهم حارة الهنود، والبقية بفعل السيول العظيمة القادمة من الهضبة الوسطى (جبال إب وما جاورها).
في إحدى المرات كاد الملك الأفضل عباس بن المجاهد الرسولي، أن يلقى حتفه وهو عائد من زبيد باتجاه تعز، عندما اعترضت سيول وادي نخلان طريقه، وخسر عددًا من رجاله.
كان الملك عائدًا من زبيد بعد أن وضع التدابير اللازمة لإعادة إعمار وترميم ما دمرته سيول ذلك العام في مدينة زبيد التي كانوا يجلونها ويعتبرونها من أقدس حواضرهم الفقهية والمعرفية.
في يوليو سنة 1500، تعرضت زبيد لكارثتين عظيمتين؛ كادت سيول الوادي أن تغرق المدينة وتجرفها إلى البحر بعد أن هدمت أجزاء واسعة منها، وفي الشهر نفسه، ولكن بعد خمس سنوات (1505)، عادت السيول من جديد "سيل عظيم لم يعهد مثله"، حيث "ارتفع السيل مقدار خمسة أبواع"، وفقًا للمؤرخين: الخزرجي وابن الديبع.
ويبدو أن عاصفة مدارية غمرت اليمن كلها سنواتئذٍ، حيث وثقت كتب التاريخ حوادث غرق مماثلة في نفس الشهر من ذلك العام، وقعت في عدن ولحج وأبين وتعز، ضمن أمطار غزيرة ضربت سائر الجهات، كما أن وادي دوعن في حضرموت شهد سيولًا عظيمة سنة 1533، لم يشهد مثلها.
الآثار الكارثية لسيول جبل ملحان الاسبوع الفائت
وبالمناسبة، حضرموت من أكثر مناطق اليمن تعرضًا للجفاف، وفي مواسم الأمطار والمنخفضات الجوية، تصبح من أكثر المناطق عرضة للغرق.
ويمكن القول إن الذاكرة الحضرمية لا تنسى الكوارث. فقد خلّد الإنسان الحضرمي أحداث السيول، وثبتها كمحطات زمنية يهتدي بها رواة التاريخ. فهم يقولون: "سيل الإكليل" و"طوفان الثريا" و"سيل جاحش" و"سيل الهميم" و"سيل 726" و"سيل شبام" و"سيل 905" و"طوفان الشحر" و"سيل المهيل" و"سيل الحيمر" و"سيل الحوت".
وإذا كان وادي حضرموت هو أطول وديان اليمن والجزيرة، وأعمقها، فإنه أيضًا أكثرها خطرًا، وأشد وديان المشرق غزارة.
و"سيل الإكليل" في الذاكرة الحضرمية لم يكن حديث عهد ارتبط بالتسميات الحديثة للتغيرات المدارية، وإنما هو سيل عظيم وقع سنة 970 هجرية، حيث فصل "شبام" عن "سحيل"، وكانتا مدينة واحدة متصلة ببعضها، وفقًا للمؤرخ الكبير جعفر محمد السقاف.
وارتبطت بـ"سيل الإكليل" الحكايات والقصص، إذ قال الشاعر الحضرمي الشهير بن زامل هذه القصيدة الغزلية المغناة على الألسن الحضرمية:
يقول بن زامل مساك الخير يا سيد الملاح
يا قايد الغزلان يا نعسان يا نجم الصباح
يا مشفي المتعوب يا جرعوب يا نوب الجباح
وهي أبيات غزلية طويلة حكايتها بدأت يوم سيل الإكليل، حيث بينما كان الناس يشاهدون السيل إذ لمحوا شابة على ظهر خشبة من جذوع النخل، تعوم فوق مياه السيل، وتستنجد بالناس، فأسرع الشاعر بن زامل وغامر وسط السيل، حتى تمكن من رمي الحبل إلى الفتاة، وأنقذها، فعاشت لديه، وأعجب بها، وهي أعجبت به، فتزوجها، وكانت في قمة الجمال والشجاعة. وبعد فترة أقبل أهلها يطلبونها ضمن سياق العادة الحضرمية البنت مخطوبة لابن عمها، فاحتكموا للفقيه الذي أفتى بوجوب الطلاق، فطلقها بن زامل مكرهًا، لكنه ترصد مكان إقامتها وسكن إلى جوار بيتها الجديد، وغنى هذه القصيدة فيها، فلما سمعته توقف قلبها وماتت.
وفي سنة 1120 هجرية، وقعت كارثة "سيل الهميم"، وبحسب المؤرخين فإنها فاقت كارثة سيل الإكليل الذي سبقها بأزيد من قرن. حيث دمر سيل الهميم قرى كاملة "وأخذ أنفسًا لا تحصى، وافتقر بعده الناس بسبب انجراف الأعداد المهولة من أشجار النخيل والسدر".
ولئن كانت آخر كوارث حضرموت سنة 2008، بفعل المنخفض الجوي الذي اجتاح معظم واجهة اليمن الشرقية، فإن سيول العاصفة المدارية سنة 1989 التي ضربت حضرموت والمهرة وشبوة وسائر مدن وأرياف الجنوب، كانت أعظم وأكثر فداحة.
وعن سيول 1989 كتب الشاعر الكبير حسين أبو بكر المحضار قصيدته الشهيرة مواسيًا المدن الحضرمية المتضررة:
سال من رحمة الله كل وادي
يا سعاد الزبينة يا بلادي
اصبري واسهري لا تغمضي العـين
كل ما جابه الله زين
للقدر بافتح قلبي على بابين
كل ما جابه الله زين
شل نفسك رفع يا بن عبادي
سدة الخور والحوطة تنادي
جالك السيل من مطـراق حنين
كل ما جابه الله زين
للقدر بافتح قلبي على بابين
كل ما جابه الله زين
يا المكلا احفظي عهدك وحادي
يا تريم اجعلي خاطرك هادي
لا تقولين يا سيئون يا هوين
كل ما جابه الله زين
للقدر بافتح قلبي على بابين
كل ما جابه الله زين
يا شبام اصبري عادك تمادي
لا نترقين بالونة فؤادي
عادنا عا لمدى باوفي الدين
كل ما جابه الله زين
للقدر بافتح قلبي على بابين
كل ما جابه الله زين
يا عدن يا تبن يا أبين تهادي
يا أهل شبوة الشراقي والنجادي
يا محبين في الغيظة وحصوين
كل ما جابه الله زين
للقدر بافتح قلبي على بابين
كل ما جابه الله زين
لكنا بانضم مَرّة الأيادي
في القرى والمداين والبوادي
بانقوّي العزيمة بيننا البين
كل ما جابه الله زين
للقدر بافتح قلبي على بابين
كل ما جابه الله زين