بعد مرور أكثر من ستة عقود على ثورة 26 سبتمبر التي أطاحت بحكم الإمامة في اليمن عام 1962م، يشعر اليمنيون اليوم بتهديدات تطال قيم الثورة التي ارتبطت بوجدانهم.
في عام 2015، دخلت اليمن في دوامة من الصراعات، مما أدى إلى تقسيمها إلى كانتونات تسيطر عليها أطراف متناحرة، حيث يفرض كل طرف سلطاته على مناطق معينة، ويعزز أجندات ومناسبات تفتقر للطابع الوطني، بينما تبرز الهويات الجهوية والطائفية والمناطقية الضيقة، ويتم تكريسها في وعي المواطنين عبر فعاليات وخطابات إعلامية.
جماعة الحوثي، التي تسيطر على العاصمة صنعاء وعدد من المحافظات، هي أبرز هذه الأطراف التي فرضت مناسباتها السياسية والدينية الخاصة، مثل الاحتفالات السنوية بيوم 21 سبتمبر، تاريخ دخولها صنعاء والسيطرة على مؤسسات الدولة، واعتباره عيدًا وطنيًا وإجازة رسمية، وكذلك الاحتفال بذكرى المولد النبوي بطريقة تضفي على نفسها مشروعية دينية تعزز من سلطاتها. في المقابل، تتعامل الجماعة مع الأعياد الوطنية التي دأب اليمنيون على الاحتفال بها سنويًا، مثل ثورتي 26 سبتمبر و14 أكتوبر، كأنها أحداث عادية لا تهم اليمنيين.
ميلاد المواطنة
يقول الكاتب الصحفي عبدالباري طاهر، نقيب الصحفيين الأسبق، إن ثورتي 26 سبتمبر و14 أكتوبر تمثلان ميلاد المواطنة اليمنية شمالًا وجنوبًا، حيث كان اليمنيون قبل سبتمبر 1962 في المتوكلية رعية، وقبل الرابع عشر من أكتوبر كان الجنوبيون وأبناء المحميات أجانب في عدن.
وأضاف طاهر في حديثه لـ"النداء" أن المواطنة ارتبطت بالثورة، حيث أصبح اليمني سيدًا على أرضه، كما ارتبطت بالتعليم الحديث وبناء الاقتصاد الوطني والجيش الحديث والانفتاح على مختلف دول العالم وبناء المؤسسات الوطنية والبعثات الطلابية.
وأشار إلى أن الإنجازات الوطنية التي تحققت بفضل الثورة تظل حاضرة في ضمير ووجدان المواطن، ويستحضرها أكثر في يومي الذكرى العظيمة سبتمبر وأكتوبر، خاصة وهو يشاهد الحالة التي تعيشها بلاده من تفكك واحتراب وتمزيق للنسيج الاجتماعي وضياع لمكتسبات الثورة، وفي مقدمتها الكيان الوطني الواحد ومحاولة خلق هويات ميتة تعود باليمن واليمنيين إلى ما قبل عصر الوطنية والدولة.
ويرى نقيب الصحفيين الأسبق أن سر الاحتفاء الشعبي الكبير بالثورات الوطنية يعود إلى أن اليمني اليوم وجد بلاده في تفكك واحتراب ومجاعة شاملة وعودة إلى ما هو أسوأ بعد مرور اثنين وستين عامًا على قيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر وواحد وستين عامًا على ثورة أكتوبر التي حققت السيادة والاستقلال. وأضاف أن هذا هو سر الاحتفاء الشعبي بذكرى الثورة التي منحت اليمني المواطنة والحرية وحق الحياة والسيادة على أرضه.
وقال: نأمل أن يتخذ الاحتفاء بالمناسبة العظيمة السعي لرفع الحصار الداخلي والخارجي وتحقيق مصالحة وطنية ومجتمعية شاملة وتبادل الأسرى الكل مقابل الكل وإطلاق سراح المعتقلين والمختفين قسرًا، ومواجهة مخاطر الارتهان للصراعات الإقليمية والدولية والعودة للحل اليمني اليمني وإطلاق الحريات العامة والديمقراطية وحرية الرأي والتعبير ومواجهة مخاطر السيول والأمطار ومساعدة المناطق المنكوبة. واختتم طاهر حديثه قائلاً: "أملنا كبير في يقظة الضمير الوطني وإدراك معاناة الوطن والمواطنين".
ارتباط وجداني بالثورة
القمع والترهيب الذي تمارسه جماعة الحوثي على المحتفلين بذكرى ثورة 26 سبتمبر، أثارت ردود أفعال غاضبة من اليمنيين الذين يعتبرون ثورة 26 سبتمبر أهم إنجاز في تاريخ اليمن الحديث. ومن أجل ذلك يلتفون حولها فجاءت الاحتفالات الشعبية بالثورة السبتمبرية بعفوية وتلقائية، متفوقة على مناسبات الجماعة السياسية والدينية.
في العام الماضي، عندما خرج الناس إلى شوارع صنعاء وإب وغيرها من المحافظات اليمنية عشية ذكرى ثورة 26 سبتمبر، اعتدت جماعة الحوثي على الجماهير، ومزقت الأعلام، وشنّت حملة اعتقالات واسعة طالت المئات من المحتفلين. كما عمدت الجماعة إلى ترهيب وتخويف المحتفلين من خلال خطاب تخوين، واصفة إياهم بالعملاء والمرتزقة والفوضويين، بهدف ردعهم ومنعهم من تكرار الاحتفال.
هذا العام استبقت جماعة الحوثي احتفالات اليمنيين بالذكرى الـ62 لثورتهم المجيدة، بحملة اعتقالات طالت عدد من النشطاء على مواقع التواصل الإجتماعي، بهدف اخافة واعاقة الاحتفالات الشعبية بثورة الـ26 من سبتمبر، إلا أن هذه المحاولات باءت بالفشل، حيث قام اليمنيون في الداخل والخارج بتحويل صفحاتهم على منصات التواصل الاجتماعي إلى ميادين مفتوحة للاحتفال بالثورة، وتزيينها بصور رموز قادة سبتمبر وشعارات وأهازيج الثورة وعلم الجمهورية، تعبيرًا عن عظمة ومكانة الثورة في وجدانهم.
يقول الصحفي والناشط أحمد شوقي إن الاحتفاء الكبير لليمنيين بذكرى ثورة 26 سبتمبر، قبيل ذكراها بأسابيع، يجسد حالة من الحنين والالتحام الوجداني بالثورة التي مضى على قيامها أكثر من 6 عقود، وشعورًا عميقًا بعظمة تلك الثورة والقيم التي حملتها، وحجم التعقيدات والظروف القاسية التي نشأت فيها وواجهتها حتى نجاحها.
وأضاف شوقي في حديثه لـ"النداء" أن الاحتفاء بسبتمبر بالنسبة للكثير من اليمنيين يمثل ردًا عمليًا على الاحتفالات الضخمة التي تغطيها الجماعة برداء المناسبات الدينية، والتي تستخدمها لإضفاء شرعية إلهية مزيفة لحكمها، منتزعة عن الشعب حقه في اختيار حكامه. وآخر هذه المناسبات كان الاحتفال بالمولد النبوي، الذي تضمن أنشطته حزمة من الانتهاكات بحق المواطنين، من فرض الجبايات، والإلزام القهري بالتبرع للجماعة، وإجبار التجار وأصحاب المحلات والمواطنين على طلاء محلاتهم وسياراتهم، وإجبار الآلاف من المواطنين على الاحتشاد في الساحات.
أفراح سبتمبرية
عاد أيلول كالصباح جديداً
سُحقت في طريقه الظلماء
يبعث الروح في الوجود ويسري
في دمانا كما يدب الشفاء
للبلاد البقاء وللثورة المجد
وللشعب واللواء الولاء
قسماً لن ينال منك دخيلاً
أو يبيع المكاسب العملاء
ترافق الأناشيد الوطنية للفنان الكبير أيوب طارش اليمنيين المحتفلين بالثورة في كل مكان، وتصدح بها وسائل النقل الخاصة وطلاب المدارس في طابور الصباح، مما يكشف توق اليمنيين إلى الخلاص.
وحظيت احتفالات طلاب المدارس في مدينة تعز بذكرى ثورة 26 سبتمبر والأعياد الوطنية بتقدير وإعجاب اليمنيين دون استثناء، ولاقت المقطوعات الغنائية الوطنية واللوحات الاستعراضية التي يقدمها الطلاب تفاعلًا واسعًا على مواقع التواصل الاجتماعي.
برزت مدرسة نعمة رسام مؤخرًا من خلال إحياء الفعاليات الاحتفالية بالأعياد الوطنية في تعز، وأصبحت المدرسة التي تأسست في العقد الأول من عمر الثورة اليمنية وتحديداً في سبعينات القرن الماضي، نموذجًا متميزًا تلتها العديد من مدارس المدينة في تقديم الفعاليات والأنشطة المتنوعة للاحتفال بالأعياد الوطنية.
تقول مديرة المدرسة، رجاء الدبعي، إن المدرسة تؤدي دورها في تعزيز مفهوم الثورة لدى الأجيال التي حرمت منذ زمن طويل من الاحتفال بمناسباتهم الوطنية، وتعريفهم بأهمية الثورة وما قدمه آباؤنا من الثوار الأحرار لأجل الحرية والجمهورية والديمقراطية.
وأضافت الدبعي في حديثها لـ"النداء" أن المدرسة اليوم تعيد إحياء السيرة الوطنية للثورة والمناضلين الذين ضحوا بأرواحهم من أجل حرية الوطن. وتعمل على تعزيز هذه المفاهيم من خلال الاحتفالات التي تعبر عن تقديرنا لما فعله الثوار، والتأكيد على ضرورة الحفاظ على انتصاراتهم والمضي قدماً لتحقيق أهداف ثورتهم مهما كانت الظروف. كما تسعى المدرسة إلى تعميق مفهوم عدم العودة للإمامة، والتأكيد على أننا جمهوريون نفتخر بانتصاراتنا ولا نستسلم لأي ثقافة قد تشوش على إيماننا بقضيتنا الوطنية وحريتنا.
وقالت: في الوقت الذي يظهر فيه عملاء يحاولون العبث بمكتسبات الوطن وثورته ومنجزاته، يجب علينا تعميق حب الوطن وحريته في قلوب الأجيال الجديدة. وهذا لن يتحقق إلا بالاحتفال بهذه المناسبة العظيمة وتذكيرهم بها وتعريفهم بمنجزاتها والهدف من تضحيات الأحرار بأرواحهم من أجل الوطن.
الثورة الخالدة
تبقى ثورة 26 سبتمبر في ذكراها الثانية والستين حية في قلوب كل اليمنيين، حيث ارتبطت بالتغيير والحرية والتحرر من أغلال الاستبداد. ويرى مراقبون أن الاحتفاء الشعبي غير المسبوق بذكرى ثورة 26 سبتمبر والأعياد الوطنية خلال السنوات الماضية يعكس استشعارهم لعظمة هذه الثورة التي قاومت الوضع السيء ورفضت الاستبداد، وهو تعبير شعبي عن حالة الرفض الجمعي لما آل إليه الوضع العام في البلاد من تدهور الحياة المعيشية وتوقف صرف المرتبات وانهيار منظومة مؤسسات الدولة الصحية والتعليمية وغياب الخدمات.