ولأهمية ما تضمنه الكتاب من معلومات عن هذه المراحل التاريخية، فقد جرى إهداء ما يقارب 820 نسخة على جميع الجامعات اليمنية الحكومية والخاصة والمكتبات العامة والمراكز العلمية العامة ومراكز الدراسات ولبعض الشخصيات السياسية والاجتماعية، كما تم إهداؤه لعدد من الجامعات العربية وغيرها ليستفيد منها الدارسون والباحثون.
وللعلم أن الرئيس علي ناصر محمد قد تدرج في مناصب قيادية في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية كأول محافظ للجزر اليمنية في المحيط الهندي والبحر الأحمر بعد الاستقلال، ومحافظًا للمحافظة الثانية (لحج)، ووزيرًا للإدارة المحلية ووزيرًا للدفاع ورئيسًا لمجلس الوزراء، ومن ثم أمينًا عامًا للحزب الاشتراكي اليمني ورئيس هيئة رئاسة مجلس الشعب الأعلى في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.
ذاكرة وطن- علي ناصر محمد
وأجدها فرصة هنا لأعيد إلى القارئ والمتابع والمهتم مقالًا جديدًا للرئيس علي ناصر محمد بعنوان "القصر المشؤوم"، والذي يمثل صفحة من صفحات التاريخ التي يجب على النُّخب السياسية اليمنية الوقوف عليه ودراسته والاستفادة منه لتجاوز أخطاء اليوم التي تكاد تكون تكرارًا لأخطاء الأمس بوعي وبغير وعي:
"القصر المشؤوم"علي ناصر محمد
علي ناصر محمد(شبكات التواصل)
يصادف اليوم 21 أبريل انتخابي أمينًا عامًا للحزب ورئيسًا للدولة في 1980م، وبحكم مسؤولياتي الجديدة، بالإضافة إلى عملي رئيسًا للوزراء، كان عليّ أن أنتقل إلى "دار الرئاسة" مقر عمل رئيس الجمهورية.
بدا لي أن الشؤم يطارد كل من يسكن هذا القصر الذي كان قصر آخر مندوب سامٍ بريطاني همفري تريفليان قبل نهاية الإمبراطورية البريطانية في عدن التي كانت لا تغيب عنها الشمس.
وبدا لي أيضًا أن من المتعذر على أيِّ حاكم أن ينجح في تفادي تلك اللعنة التي يواجهها، والمتعلقة بالصراعات السياسية على السلطة، ابتداءً من قحطان الشعبي مرورًا بسالمين وعبدالفتاح إسماعيل. وكنت وأنا أقبل منصب الأمين العام والرئيس، واعيًا لهذه الحقيقة التي عاصرتها، حيث رأيت المصير الذي آل إليه الرؤساء قبلي. بل إن ذلك كان من الأسباب القوية التي جعلتني أرفض المنصب زمنًا طويلًا قبل أن يضعني الرفاق أمام الأمر الواقع. فالقصر الذي بناه البريطانيون ليكون مقرًا للمندوب السامي البريطاني، وخصصته دولة الاستقلال مقرًا لرئاسة الجمهورية، تحوّل إلى قصر للصراع، ومقبرة للرؤساء!
وكنت بحكم مُعاصرتي الأحداث، ومشاركتي فيها من موقع المسؤولية، أتوقع أن يصيبني ذلك الشؤم في أية لحظة. ولم يكن ذلك نوعًا من التطير الذي اشتهر به العرب، أو تشاؤمًا، بل قراءة للأحداث السابقة، وقد تساءلت في سري: هل سأنجو من تلك اللعنة التي أصابت الرؤساء قبلي؟!
تتابعت في مخيلتي الأحداث التي مرت بهذا القصر وساكنيه قبل الاستقلال وبعده.
كنت متأكدًا أن رفاق اليوم سيصبحون أعداء الغد. ولم يكن ذلك رجمًا بالغيب، بل كان قراءة لخريطة الصراعات السياسية في عدن وغيرها من البلدان دون كبير عناء.
وكنت متأكدًا أن المشكلة لن تُحَلّ برحيل عبدالفتاح إسماعيل، وقد رحل قبله الرئيسان قحطان الشعبي وسالم ربيع علي، ومع هذا قبلت تحمّل مسؤولية قيادة الحزب والدولة والأمانة العامة للحزب الاشتراكي.
كان نهج التطرف قد بدأ عشية الاستقلال من قبل مَن أطلقوا على أنفسهم "اليسار التقدمي" أو الجناح التقدمي للجبهة القومية، أو التيار الذي سمّى نفسه بعد أحداث يناير 1986م "الصف المبدئي" الذي كان ينتظر ويقف مع كل الأطراف في كل مرحلة من المراحل التي مررنا بها، لتثبيت موقعه والتقدم خطوة إلى الأمام.
الرئيسان عبدالفتاح اسماعيل وعلي ناصر محمد (أرشيف)
بعد لقاء ما سمي حينها لقاء الخريف بين علي عنتر وعبدالفتاح إسماعيل، في موسكو، برعاية المخابرات السوفييتية (كي جي بي)، وقد بدأ عضو المكتب السياسي أنيس حسن يحيى، ينظر بطريقة بريئة إلى هذا التحالف الجديد، ويطرح فكرة عودة عبدالفتاح إسماعيل من موسكو، وتوسيع المكتب السياسي، وتشكيل حكومة جديدة، دون أن يدرك خطورة الأمر، أو يتمعن في مرامي الآخرين من ورائه.
ويجب أن أعترف بأن العلاقة مع النظام في صنعاء، والعلاقة بدول المنطقة وإعادة صياغة علاقات اليمن الديمقراطية بالجيران والعالم على نحو جديد لم نعهده، كانت سياسة صائبة، لكنها لم تكن مقبولة من الخصوم السياسيين في الداخل الذين كانوا يتهمونني بالانفتاح على صنعاء ودول الخليج حينها (وبعضهم اليوم مستقر في دول الخليج وتجنسوا فيها، وأنا لست ضد قرارهم طالما هو خيارهم) مثلما حصل عندما بنينا فندق عدن من قبل شركة فرنسية، وسمي حينها قلعة الرأسمالية، وعند شراء طائرات البوينغ الأميركية لصالح شركة طيران اليمدا اعتبروا ذلك مؤشرًا لقيام علاقات مع أميركا، وكل ذلك ليس صحيحًا، فالسياسات التي اتبعناها مع صنعاء ودول الخليج وبناء فندق عدن وشراء الطائرات تصب في مصلحة الشعب والوطن، لأننا لم نفرط بالسيادة الوطنية والقرار الوطني.
كان نايف حواتمة قد سمع بهذا الاتجاه الجديد لإعادة صوغ نظامنا وعلاقته بالعالم من حولنا من معظم القيادات، وطار من بلاد الشام إلى عدن للتنظير كعادته، وكان قبل ذلك من أشدّ المتحمسين لإبعاد عبدالفتاح إسماعيل، وهو الذي كان من أقرب الناس إليه وأكثرهم توددًا له، حيث بدأ التنظير للتآمر عليه والمطالبة بإبعاده وإخراجه من اليمن إلى موسكو، لأنه رجل كسول على حد قوله. وكان حواتمة بعد كل زيارة لعدن يخلق أزمة فيها ويغادر.
فالسؤال: من كان يقف وراء هذا التنظير التدميري للتجربة في عدن؟
وفي أكتوبر من عام 1984 التقيت مع عبدالفتاح إسماعيل بحضور نايف حواتمة الذي طار من بلاد الشام إلى موسكو عندما علم أنني متواجد فيها، وحضر لقاءً بيننا، وكان ينظّر لعودة عبدالفتاح إسماعيل إلى عدن، واستمر اللقاء حينها أكثر من 4 ساعات، وانسحب حواتمة من هذا اللقاء بعد أن طلبت منه أن لدي حديثًا خاصًا مع عبدالفتاح إسماعيل، وتحدثت مع عبدالفتاح إسماعيل وقلت له إن حواتمة الذي كان يطالب بإخراجك من عدن، ها هو يطالب اليوم بعودتك إلى عدن، فهو ليس صادقًا معك ومع هذه التجربة التي تسبب في تدميرها، ولكن عبدالفتاح إسماعيل أصر على العودة إلى وطنه كما كان يردد.
وعندما فشلت بإقناعه بعدم العودة لمصلحته، أصر على العودة، فوافقت على ذلك، وقلت له أنا لا أخاف منك، ولكنني أخاف عليك، وعندما كنت أودعه عند الباب، تفاجأت بأن جريدينوف مسؤول الوطن العربي، ومالكوفسكي مسؤول اليمن، يقفان خلف الباب، فقال جريدينوف حينها ألف مبروك على عودة عبدالفتاح، فقلت لهم إنكم لستم حرصين على عبدالفتاح ولا على التجربة في اليمن، ولكنني أخاف عليه، وأخاف أن يكون هذا آخر خروج له إلى الخارج. وسبق أن تحدثت عن هذا الموقف بالتفصيل في مذكراتي.
نحن نعتز بالتجربة بإيجابياتها وسلبياتها، ولا نعفي أنفسنا من الأخطاء والسلبيات التي مرت بها جمهورية اليمن الديمقراطية.
وفي نهاية مذكراتي عن تجربتي في السلطة، طرحت سؤالًا وهو: من الذي يحرك الأحداث من 1967 وحتى اليوم؟
الزمن سيجيب على ذلك...