صنعاء 19C امطار خفيفة

الوحدة اليمنية من حلم قومي إلى شبح دولة معلّقة

2025-05-21

في مثل هذا اليوم من عام 1990، وقف اليمنيون شمالًا وجنوبًا على أعتاب التاريخ، معلنين قيام الجمهورية اليمنية، في مشهد بدا وكأنه استجابة لحلم قومي ظلّ يتشكّل منذ منتصف القرن العشرين. غير أن ما اعتُبر يومًا إنجازًا تاريخيًا، صار بعد 35 عامًا ذكرى موحشة تمرّ على شعب ممزق، واقتصاد منهار، وجغرافيا متصدعة، وحلمٍ يُسحق تحت أقدام السلاح والمصالح الأجنبية.

 
وُلدت فكرة الوحدة اليمنية في خضم معارك التحرر من الاستعمار والإمامة. كان الجنوب يخوض مقاومة شرسة ضد الاحتلال البريطاني، بينما كانت ثورة 26 سبتمبر في الشمال تحاول بناء دولة جمهورية تواجه إرث الإمامة. في تلك اللحظة، تلاقى وجدان اليمنيين في الشطرين على حلم جمع ما فرّقته الجغرافيا والتاريخ السياسي. طُرحت أولى صيغ الوحدة في اتفاق القاهرة عام 1972، ثم اتفاق عدن 1979، لكن الطرفين لم يكونا مهيئين لتنفيذها. استمرت اللقاءات والمناوشات حتى جاءت لحظة 1990، حين واجه الشمال بقيادة علي عبد الله صالح تحديات اقتصادية متصاعدة وتطلعات لشرعية إقليمية، بينما خرج الجنوب بقيادة الحزب الاشتراكي من صراعات داخلية منهكة وفقد داعمه الدولي بسقوط الاتحاد السوفيتي. من رحم هذه التحديات، أُعلنت الوحدة في 22 مايو، في اتفاق بدا أقرب إلى زواج مصلحة لا شراكة ناضجة.
 
لكن ما بعد الوحدة لم يكن كما تمنّى اليمنيون. سرعان ما ظهرت الشكوك. كانت الفوارق الأيديولوجية والتنظيمية عميقة؛ فالشمال قائم على تحالف قبلي–عسكري–ديني، بينما الجنوب كان دولة مؤسسات ذات توجه اشتراكي. لم يحدث اندماج حقيقي في الجيش أو الإدارة أو القضاء. وظهرت التصفيات السياسية كواقع يومي، حيث طالت الاغتيالات كوادر الحزب الاشتراكي، وتجاوز عدد الضحايا 150 شخصية خلال ثلاث سنوات فقط، وسط صمت رسمي. تزايدت الصراعات على السلطة والثروة، ولم تُنهِ الانتخابات البرلمانية عام 1993 الأزمة، بل فاقمتها، حيث شعر الجنوبيون بالإقصاء، وبدا أن الشمال يسعى لاستيعاب الجنوب لا لمشاركته.
 
في مايو 1994 اندلعت الحرب الأهلية بين قوات صالح وقوات الحزب الاشتراكي. أعلن نائب الرئيس آنذاك، علي سالم البيض، الانفصال وقيام “جمهورية اليمن الديمقراطية” في 21 مايو، لكن القوات الشمالية دخلت عدن في يوليو، واعتُبر الأمر حسمًا عسكريًا للوحدة. غير أن ما تلا الحرب لم يكن استقرارًا، بل إقصاء ممنهج للجنوب من مؤسسات الدولة، ونهبًا للأراضي العامة، وإحالة آلاف العسكريين والمدنيين الجنوبيين إلى التقاعد القسري. تحولت الوحدة بعد 1994 في نظر الجنوبيين إلى مشروع ضمّ بالقوة، لا عقد وطني جامع.
 
لم يقتصر الإقصاء على الجنوبيين، بل طال أيضًا كوادر وقواعد الحزب الاشتراكي من أبناء الشمال، خاصة في تعز، التي كانت مركزًا فكريًا ومدنيًا للحزب. تم استبعادهم من دوائر النفوذ، وقُمعت الأصوات التي نادت بالدولة المدنية. وبينما توسعت القبضة الأمنية والعسكرية، شهدت تعز تهميشًا متدرجًا، ثم دكًا وقصفًا في محطات مختلفة، رغم أنها لم تكن متمردة، بل ضحية لصراع مراكز القوة.
 
في المقابل، جرى تركيز الموارد على عدن ومحيطها، ولكن ليس لأغراض التنمية، بل لكسب الولاء السياسي. خُصصت الميزانيات لمهرجانات، وبنية تحتية مؤقتة، ومشاريع واجهة كـ”خليجي 20”، دون أن تُبنى مؤسسات اقتصادية حقيقية. كانت الغاية تعزيز نفوذ الحزب الحاكم وتحالفه مع حزب الاخوان المسلمين الاصلاح– أي ذلك التحالف غير المقدّس من مشايخ الحرب، وضباط النهب، ورجال الدين المتنفذين.
 
بعد الحرب، سيطرت نخبة ضيقة على الدولة، وتقاسمت الثروات النفطية، فيما بقي الجنوب مهمشًا تنمويًا، وتعز ومناطق أخرى محرومة من التنمية. توسعت الفجوة بين المركز والأطراف، وتحول الفساد إلى نظام حكم. ومع ازدياد القمع والتفاوت، ظهر الحراك الجنوبي عام 2007، مطالبًا بداية بحقوق عادلة، ثم رافعًا لاحقًا شعار فك الارتباط.
 
زادت ثورات 2011 الأمور تعقيدًا، ثم جاء انقلاب الحوثيين عام 2014 ليفكك ما تبقى من الدولة. فرض الحوثيون سلطتهم على الشمال بقوة السلاح، مدعومين من إيران، بينما نشأت في الجنوب قوات موالية للإمارات تُعرف بـ”المجلس الانتقالي الجنوبي” الذي يسعى لإحياء مشروع الانفصال. أما حكومة “الشرعية”، فبين التبعية للرياض والشلل الإداري في عدن.
 
الاقتصاد اليوم يعيش أزمة مركبة عملتان، حكومتان، جبايات مضاعفة، فساد ممنهج، وسوق سوداء متغولة. النفط والغاز خرجا من السيطرة المركزية، وأصبحا بيد جماعات وسلطات أمر واقع. يعاني المواطن من انعدام الخدمات، الجوع، وانهيار العملة. حتى الجنوب، رغم إدارته الذاتية يواجه أزمات متواصلة في الرواتب والكهرباء والمعيشة.
 
مرّ على إعلان الوحدة 35 عامًا، لكنها فعليًا لم تعش إلا ثلاث سنوات كشراكة حقيقية. منذ حرب 1994، تحولت الوحدة إلى قناع لحكم مركزي استبدادي، ثم إلى واجهة لحرب شاملة، واليوم إلى حلم مكسور. فرقاء الأمس الذين تقاسموا الدولة ونهبوها باسم الوحدة، هم ذاتهم فرقاء اليوم الذين مزّقوا الدولة باسم السيادة أو المقاومة والوحدة
 
لم تعد الجمهورية اليمنية إلا اسمًا معلّقًا في أروقة الأمم المتحدة، وحدة صورية بلا سيادة فعلية، تتقاسمها سلطات أمر واقع وبقايا الانظمة السابقه والحوثيين وأجندات إقليمية ونخب فاسدة. أما المواطن اليمني، فيعيش في واقع ممزق، تتنازعه الجبايات وتعدد الولاءات وفقدان أبسط مقومات الحياة.
 
وفي ظل هذا الانقسام العميق، لم يعد ممكنًا الحديث عن دولة مركزية موحّدة على المدى القريب. بل إن المخرج الواقعي يكمن في تبنّي صيغة فيدرالية عادلة، تضمن توزيعًا منصفًا للثروات، وتكافؤًا في تقديم الخدمات، وتعزيز التنمية والاستثمار، في ظل جيش وطني موحّد، وسياسة خارجية واحدة، وبرلمان ومجلس شورى جامع. هذا ليس مشروع تقسيم، بل إعادة بناء الدولة على أسس الشراكة والعدالة، لا الغلبة والإقصاء.
 
كما أن بناء يمن جديد لن يتحقق دون إنهاء تهميش المرأة اليمنية، التي لا تزال محاصرة بهيمنة الأحزاب التقليدية والدينية والجماهيريه القبليه يجب أن تُمنح النساء فرصًا حقيقية للمشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، استنادًا إلى الكفاءة، لا إلى الولاءات الحزبية أو الوساطات الإقليمية، مع توفير الحماية لحقوقهن، باعتبارهن شريكات في بناء الوطن، لا حاشية صامتة على هامشه

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً