يرتبط في ذاكرة كل منا أشخاص وأحداث بـ"العيد". الأمر اعتيادي؛ يبدأ من الطفولة، ويستمر في المراهقة والشباب والكهولة فالشيخوخة. وهناك من يحضر في الأعياد لأسباب مهنية وإنسانية، وبين هؤلاء الشاب الذي يظهر في الصورة.
آخر مره رأيته كانت في خريف 2011 في عدن…
ربما!
لكن الأكيد أنني رأيته عشرات المرات قبل ذلك، في مواسم الأعياد في اليمن. يمكن أن أفترض -آملًا أن أدقق لاحقًا- أنه لم يغب عن ناظري منذ أعياد سنة 2005. ولتكن هذه سنة الأساس في علاقة بين صحفي يمني وطفل لا يتعدي الـ12 من العمر. وهي علاقة انتهت من أسف في 16 أو 17 أكتوبر 2017 عندما أردت رصاصات الطفل الذي صار الشاب وعد بجاش الأغبري، في مدينة عدن.
وعد بجاش الأغبري
ماذا حدث؟
الحقيقة أنني لم أدقق في حادثة قتل وعد! القتل في عدن كان بضاعة يومية، بدءًا من الغزوة الحوثية للمدينة في ربيع 2015. اندحر الحوثيون من المدينة بعد أشهر، لكن القتل أخذ أنماطًا أخرى تداخل فيها المحلي بالإقليمي، واختلط السياسي بالمليشيوي والتحرير بـ"النهب" و"الفيد".
قتل الطفل الذي كانه وعد. وقد سببت لي الواقعة وجعًا هائلًا حد أنني تجنبت مذاك فتح الموضوع حتى على أقرب الأصدقاء والزملاء. بل إنني عندما التقيت أباه لاحقًا (2018)، لم أفتح معه مسألة اغتيال أو قتل ابنه.
ها أنا أفعل هذا النهار في ثاني أيام عيد الفطر!
ماذا طرأ؟
ربما لأن "النداء" عاودت الصدور في هيئة موقع إلكتروني، وهذا هو "الكاتيليست"؛ العنصر المحفز. ذلك أن الصحيفة عندما وقعت الحادثة كانت متوقفة قسريًا منذ عدة سنوات. لكن صباح اليوم، وأنا أتصفح "فيسبوك"، ظهرت أمامي صورة شاب آخر بدا لي معروفًا. فتحت حائطه. اسمه معاذ بجاش الصبيحي!
هو معاذ بجاش الأغبري الصبيحي.
معاذ بجاش الاغبري
إنه شقيق وعد الصغير، الذي كان غالبًا ما يرافق وعد إلى مقر الصحيفة. أمعنت النظر في صورة معاذ. أمعنت وأدمت قبل أن أواصل القفز في حائطه وصولًا إلى 17 أكتوبر 2017. هناك وجدت عديدين يعزونه ويعزون أباه في استشهاد وعد. عاد الوجع مجددًا، لكنه هذه المرة مغلف بالحب والحنين... والعذوبة. حضر وعد ومعاذ ومعهما حضر زملائي في "النداء"، وذكرياتنا في ليالي رمضان وأعياد الفطر والأضحى، والأعياد الوطنية حين كان وعد ومعاذ يزوران المكتب، احيانًا لاطلاعي عن الجديد في قضية والدهما واحيانًا لينقلا لي رسائل شفهية أو مكتوبة من أبيهما الذي يقضي عقده الثاني في السجن، بعدما حكمت عليه محكمة بالسجن المؤبد، بعد أن تمت إدانته بالتآمر لقلب نظام الحكم، والتدبير لجريمة اغتيال الرئيس علي عبدالله صالح، بعد حرب 1994.
اشتهر بجاش الأغبري بوصفه رئيس عصابة تخريبية. وقد أضفى ذلك على شخصيته قدرًا من المهابة بالنظر إلى سجله السابق، وأبرز ما فيه أن كان أحد جرحى المقاومة الفلسطينية في لبنان في 1982، وتلقى العلاج من أثر الإصابة لاحقًا في السويد.
بجاش في مستشفى بالسويد بعد إصابته
لم يصب الرئيس علي عبدالله صالح بمكروه، لكن السلطة رفضت العفو عنه سنة تلو سنة، وعيدًا بعد عيد، رغم المناشدات التي كانت تصدر من منظمات حقوقية وأحزاب يمنية وهيئات عربية، بل ومن الأسرى المفرج عنهم من سجون الاحتلال الإسرائيلي، وبينها مناشدة شخصية من أشهر الأسرى اللبنانيين سمير القنطار، في 2008.
عاش وعد ومعاذ الخيبة تلو الأخرى، وهما يتابعان، معنا، تعنت نظام الرئيس صالح، رغم مرور عقد ونصف على بجاش الأغبري وهو وراء القضبان.
فجأة، في أبريل 2011، بينما الساحات مليئة بالمطالبين بتنحي الرئيس صالح، خرج بجاش الأغبري، في محاولة من نظام الحكم لتخفيف الاحتقان، وكسب حلفاء ومؤثرين، ويومها قدم السجين المفرج عنه إلى مكتب صحيفة "النداء" في شارع الزبيري، للتعبير عن امتنانه وتقديره لجهود الصحيفة.
في فبراير 2012، تنحى الرئيس علي عبدالله صالح، وتسلم نائبه السلطة، لتبدأ مرحلة انتقالية مدتها عامان تنتهي بانتخاب رئيس اعتيادي لليمن.
المرحلة الانتقالية ما كان لها أن تنتهي، إذ تهادى اليمن إلى حرب أهلية مصغرة فحرب كبرى استمرت سبع سنوات، قبل أن تتخذ شكل الهدنة المستدامة! وفي الأثناء استشهد وعد، وكبر معاذ. وبعد سبع سنوات عجاف، يظهر لي حائطه، ليتجدد اللقاء به، وإن في "العالم الأفتراضي"!
"وعد" معاذ الأغبري الصبيحي!
2024-04-11