إن ذلكم الحضور التاريخي للخصوصية اليمنية في صورتها الإمامية، والمشيخية القبلية، في نظام الجمهورية العربية اليمنية، وفي نظام ما بعد الوحدة 22 مايو 1990م، وخصوصًا في نظام ما بعد الوحدة بالحرب 1994م، هو الذي يفسر غياب المجتمع المدني، وهو الذي يؤبد ويخلد استمرار حضور ثقافة "الرعوي" الرعية، وليس المواطن، والمواطنة، والوطن،
وبالنتيجة هو الذي يفسر تأجيل وترحيل حضور وقيام الدولة الوطنية والمدنية الحديثة، ورغم كل ذلك لا نستطيع فهم الثورة اليمنية، بعيدًا عن أنها نقد ثوري موضوعي تاريخي، لاستمرار كثافة الحضور التاريخي للخصوصية اليمنية الإمامية والمشيخية القبلية، على وجه الخصوص في وقائع السجال الحربي الدائر، تاريخيًا، وراهنًا في اليمن. وفي تقديري الشخصي أن الثورة اليمنية -أقصد الثورتين، 26 سبتمبر و14 أكتوبر- رغم التحديات، قد مهدت الطريق لتفكيك بنية ذلكم الحضور التاريخي للخصوصية في الواقع، وقد كانت الثورة مؤهلة وكفيلة بتقليص مساحة حضور ذلكم التاريخ في خصوصياته القاتلة والمدمرة، بعد أن بدأنا نشهد في جنوب الوطن خصوصًا خطوات جدية في تفكيك البنية الأيديولوجية التقليدية التاريخية (سياسيًا واجتماعيًا وقانونيًا)، حيث بدأت الضربات تطال العمق الأيديولوجي التاريخي، للبنية التقليدية وللجهاز المفاهيمي، والقيمي للثقافة التقليدية، وخصوصًا ثقافة "الفتوى" و"الفيد"، والفساد، التي هيمنت على البلاد لعقود طويلة -شمالًا وجنوبًا- إن لم تكن لقرون سحيقة كما في الحالة الإمامية، والجمهورية القبلية، بعد ثورة سبتمبر 1962م.. ونستطيع أن نلمس ونتتبع ذلكم الحضور التاريخي في خصوصيته في اليمن، في تمكن ذلك الحضور من هزيمة الوحدة السلمية، بالوحدة بالحرب، كما تمكن تحت الذرائع المختلفة من تهميش وقمع فكرة التعددية، والديمقراطية، وتحويل التداول السلمي للسلطة إلى احتكار بيد القائد الفرد، خطوة جدية على طريق توريث الجمهورية والانقلاب على النظام الجمهوري، كما هو حاصل اليوم، وكأننا نعود من جديد إلى الملكية الإمامية الوراثية، والسلاطينية، وهو أعمق تجسيد للحضور التاريخي في خصوصية إمامية، ملكية -دامت أكثر من عشرة قرون متقطعة- في شروط عصر مغاير، وهو ما تجلى وتجسد بوضوح بعد حرب 1994م، كاستحقاقات سياسية للمنتصر في الحرب.. أعاد البلاد معها إلى المربع الأول -شمالًا وجنوبًا- أي إلى مربع الإمامية، والمشيخية، والسلاطينية والقبلية السياسية، والاستبداد، والشمولية في حضورها التاريخي، وكأنها خصوصية يمنية، سرمدية خالدة، غير قابلة للتعديل والإضافة، أو إلى الإصلاح والتغيير، إلى الدرجة التي يمكننا معها القول إن القوى الاجتماعية السياسية التقليدية (القبلية، العسكرية، الدينية) قد تمكنت من بعد ثورة 26 سبتمبر 1962م -وصولًا إلى حرب 1994م- وحتى اليوم من استيعاب، وتوظيف أشكال ومضامين الحداثة السياسية والاجتماعية النسبية التي تحققت بعد الثورتين اليمنيتين شمالًا وجنوبًا، لخدمة التقليد، "الأبوية/ البطريركية"، ولصالح تكريس البنى التقليدية، مفرغة النظام الجمهوري من محتواه السياسي، والوطني، والاجتماعي، والديمقراطي، لصالح الاستبداد، وحكم الفرد، ولم يبقَ من النظام الجمهوري سوى الشكل والإسم، بخاصة أن رموز دولة المشيخة القبيلة الجمهورية القديمة/ الجديدة من بعد حرب 1994م (الجمهوريين المعتدلين)، استحضروا إلى جمهورية الوحدة بالحرب، كل البنى التقليدية: نظام الرهائن القديم/ الجديد، نظام السجون وإدارتها البشعة (القيود الحديدية المختلفة الأسماء على الأرجل)، كما أبقوا على موروث الحكم الإمامي في الريف، ووسعوا حضوره إلى معظم مناطق الجنوب، ومن بعد حرب 1994م أعيد إنتاج البنى الاجتماعية التقليدية (الثأر، السلاح، المشايخ، والعقال، حتى مدينة عدن لم تسلم من القبللة، والمشيخة، والبدونة)، في محاولة لتعميم كل ذلك على كل جنوب البلاد، بشكل مدروس ومقصود، وبخاصة في بعض المحافظات الجنوبية (شبوة، أبين تحديدًا، وحتى حضرموت)، ففي محافظة شبوة عمل نظام علي عبدالله صالح، بعد الحرب مباشرة، على إعادة إنتاج أحكام قبلية عمرها أكثر من مائة سنة، ويتم التنقيب عنها، ونبشها، وإحياؤها، بعد أن كانت ميتة ولا يذكرها أحد، وإعادة التحكيم فيها على قاعدة الأعراف القديمة، وكأنها قضايا وصراعات حدثت اليوم والآن، بهدف تمزيق وحدة المجتمع، وإنعاش بنى تقليدية انقسامية، شقاقية، صراعية، تقوم على قاعدة الحرب في ما بينها البين، بما فيه -كما سبقت الإشارة- تعيين شيخ لمشايخ مدينة عدن، وهو قمة السخرية والاحتقار للمدينة وللمدنية، ومن هنا حالة "البدونة" و"القبللة"، للمدينة عدن، التي تشهدها منذ بُعيد حرب 1994م، بل وحتى اللحظة، أي شمللة الجنوب بنقل نظام ج.ع.ي بعد حرب 1994م إلى كل الجنوب، أي محاولة استعادة التاريخ الإمامي والقبلي(1) إلى كل الجنوب بأثر رجعي، مع تثبيت جمهورية الوحدة بالحرب.
ورغم هذا الجدل العنيف والعقيم بين السياسي، والتاريخي، وبين الأيديولوجي، والديني، وبين الدين، والسلطة، أو الفتوى، والسلطة التي ظهرت بقوة خلال وبعد حرب 1994م، ضدًا على إعلان بيان الوحدة في 22 مايو 1990م، الذي جاء ليمثل حالةرفض وتجاوز للتشطير، ورفض لثقافة الوحدة بالحرب، إعلان حاول ربط الوحدة، بالسلمية، وبالتعددية،
والديمقراطية، التي مثلت نقلة نوعية في الفكر السياسي اليمني، بل حتى العربي، خطوة أولى باتجاه تجاوز الثقافة الشمولية/ الأحادية، ثقافة القبيلة، وثقافة الحزب الواحد، وفي هذا المناخ شبه التعددي والسلمي، والديمقراطي نسبيًا، الذي فتح فضاء السياسة على الجميع، مؤكدًا على فكرة المواطنة، والقبول بالآخر، تحركت نخبة أيديولوجية مذهبية (هاشمية) بإعلان انتهاء وسقوط خطاب الإمامة، بعد أن أعلنت مجموعة من علماء الدين الزيدية المتنورة، أن الإمامة وحصرها في البطنين قد انقرضت، واعتبروها جزءًا من صراعات الماضي(2)، وهي واحدة من أبجديات الحضور التاريخي في خصوصياته اليمنية في العهد الإمامي، انتظر اليمنيون من 1962 إلى 1990م حتى يعلن علماء كبار في الزيدية إعلان سقوطها أيديولوجيًا وسياسيًا، ووطنيًا، وهو انتصار فكري ثوري على بعض خصوصيات الحضور الأيديولوجي التاريخي (المذهبي)، في أسوأ مظاهره تعبيرًا عن عدم المواطنة.
ولولا حرب الفتوى الدينية، والعسكرية، والقبلية، التي شنت على الشريك الأساسي في الوحدة في 1994م، والتي سُميت حرب "الردة والانفصال"، بما تحمله التسمية من إيحاءات ودلالات دينية/ تكفيرية.. فرضت شمولية عسكرية، وأيديولوجية دينية، على السياسة، والثقافة، والمجتمع، وحاولت إعادة إنتاج السياسة، والتاريخ، والثورة، على قاعدة الأحادية والشمولية... لولا كل ذلك، لكان مسار التاريخ اليمني اليوم مختلفًا، ولو بصورة نسبية.. ولما سمعنا خطاب المذهبية والطائفية والسلالية، والمناطقية والجهوية، تعيد إنتاج نفسها اليوم في أكثر من صورة وشكل من أشكال العنف والأصولية المذهبية، التي وصلت إلى حد الحرب العسكرية، ومرتدية الغطاء المذهبي/ الطائفي والمناطقي، بين السنة، والشيعة الزيدية، في أكثر من مكان ومحافظة (حرب الزيدية القحطانية، والسنة الوهابية، ضد الزيدية العدنانية الهاشمية)، كما في بعض الشعارات والخطابات(3)، ولما سمعنا كذلك خطاب الانفصال وتقرير المصير الذي نجد جذره العميق في خطاب واحدية الثورة اليمنية الذي حول تاريخ الجنوب كله إلى فيد سياسي، واقتصادي، وإلى فيد أيديولوجي. بل حوّل كل التاريخ السياسي الوطني اليمني، إلى لحظة محشورة في جب الحاكم، والقائد الضرورة، الذي كتب نهايته التراجيدية بنفسه، حين انقلب على الثورة، وعلى الخيار الجمهوري، وتحالف مع نقيض الثورة والجمهورية، حتى أوصلنا -ثانية- بعبثه وجنونه بالسلطة، إلى "الهاشمية السياسية الراهنة".
إنه مكر التاريخ لمن لم يتعلم من أخطاء غيره في التاريخ.. التاريخ الذي علينا جميعًا أن نتعلم منه، وبخاصة من يتوهم أن بإمكانه أن يعيد عجلة التاريخ إلى ما كان قبل قرون، أقصد إلى الإمامة الهادوية، وهو ما يحتاج إلى مناقشة تفصيلية مستقلة.
الهوامش:
(1) إن محاولة إعادة إنتاج البنية القبلية (المفاهيمية، والأيديولوجية، والسياسية، وحتى الذهنية) لم تتوقف طيلة حكم علي عبدالله صالح تحديدًا، وهي عملية كانت تجري بصورة منهجية، وواعية، يعززها الخطاب السياسي والإعلامي، والصحافي الرسمي، بما فيه خطاب رموز الدولة العليا، بالحديث عن "كلنا قبائل"، و"الشعب اليمني كله قبلي/ قبيلي، وكله مع الوحدة"، و"القبيلة هي أصل اليمن"، و"الذي ليس بقبيلي لا أصل له"، ولذلك فإن كل من يلبس "سروال" "بنطلون" حتى منتصف التسعينيات وبداية الألفية الثالثة، بل حتى اليوم، ليس يمنيًا أصيلًا، وليس قبيليًا حقيقيًا، صارت القبيلة مقياس الرجولة، والشرف، والعزة، والوطنية، والكرامة، "واليمنية"، بل إن القبيلة هي الشعب، والشعب هنا، هو "حاشد" و "بكيل "، جناحا اليمن، وأعظم تجسيد سياسي، واقعي لمعادلة القبيلة/ الوطن، والقبيلي/المواطن، والقبيلة الجمهورية، والآخر الرعوي، نجدها ممثلة في صورة ثنائية شيخ الرئيس، ورئيس الشيخ (علي عبدالله صالح، وعبدالله بن حسين الأحمر)، والتي استمرت طيلة حكم علي عبدالله صالح، وحجبت عمليًا، وسياسيًا، إمكانية ظهور فكرة الوطن، والمواطنة، والدولة الوطنية الحديثة. فالعسكري والضابط في الجيش يتبع وينتمي لقبيلته، وليس للمؤسسة العسكرية، أو الأمنية، وفي حالة حرب الدولة على القبيلة يقف الضابط، والعسكري في صف قبيلته، والوزير في السلطة يعيين في منصبه، ويقدر، ويحترم، لنسبته إلى القبيلة أو المنطقة، وليس لمكانته العلمية ودوره وخبرته وكفاءته، وماتزال الذاكرة السياسية، والاجتماعية، والوطنية، تختزن حادثة محاولة الاغتيال المسلح الذي قام بها الشيخ الشائف "الأب" ضد رئيس الوزراء بالنيابة الدكتور حسن مكي (المدني، التهامي) عام 1994م، وفي قلب العاصمة صنعاء، ليؤدبه أو يجلبه إلى رئيس الجمهورية -كما جاء في بيانه الذي نشرته صحيفة "الحياة" اللندنية في حينه- والمخجل والمؤسف معًا أن نجد الشيخ الذي مارس عملية القتل ضد رئيس الوزراء بالنيابة، وبعد أسبوع أو أسبوعين بالضبط، جالسًا في منصة احتفال رسمي، وفي الصف الأول الذي يجلس فيه رئيس الجمهورية وأعيان القبيلة والحكم، ما يؤكد أن اغتيال د. حسن مكي، رئيس الوزراء بالنيابة، كان بتكليف من رأس الدولة، أو بمعرفته وموافقة ضمنية منه، وهو خير دليل على انتقالنا من ثنائية "الإمامة والقبيلة" إلى ثنائية "الدولة والمشيخة القبيلة"، دولة رئيس الشيخ، وشيخ الرئيس، وهي الحادثة التي قامت على إثرها قيادة الدولة، وزعامة القبيلة، بتهجير رئيس الوزراء "بالأثوار" وفقًا للأعراف القبلية، وحدثني شخصيًا الأستاذ د. حسن مكي، أن الدكتور عبدالكريم الإرياني بعد ذبح الأثوار تهجيرًا لرئيس الوزراء بالنيابة حسن مكي، قال: الآن ذبحت الدولة، وأنه قال هذا الكلام باللغة الإنجليزية. وبعد ثورة الشباب، وتشكيل حكومة الوفاق الوطني برئاسة المثقف، والمناضل، محمد سالم باسندوة، يأتي الشيخ الشائف "الابن" ليقول عن رئيس وزراء الثورة -ومن تحت قبة البرلمان- (الثلاثاء 10/7/2012م)، بأنه صومالي وليس يمنيًا، فقط بسبب لون بشرته السمراء، مع أن النسبة العظمى من اليمنيين يميلون للسمرة، وبذلك يجرده من يمنيته، وهو يقف في قمة رئاسة الوزراء، بما يعكس ثقافة الحصانة المعطاة لشيخ القبيلة، والتي ما تزال تحكم اليمن حتى اللحظة، وهي ثقافة عنصرية، عصبوية، تجاه قطاع واسع من سكان اليمن، وهم الغالبية العظمى من سكان البلاد... وليس أمام رئيس وزراء حكومة الوفاق الوطني سوى حكم القبيلة، أي ذبح الأثوار وفقًا للتهجير القبلي، لأن لا أحد يستطيع محاكمة شيخ القبيلة المحصن، ناهيك عن الحكم بسجنه، أو تجريده من الحصانة البرلمانية، علمًا أن محمد باسندوة علم سياسي ووطني كبير على مستوى اليمن كله، وشيخ القبيلة الشائف لا يكاد يعرف إلا في حدود قبيلته.. ومن المفارقات العجيبة أن نجد رئيس الجمهورية الأسبق يحكّم قبيلة "الكبس" على الدولة في خلاف بين القبيلة والدولة، وهو غيض من فيض حوادث مماثلة هي القاعدة، وليس الاستثناء، ومن هنا أهمية ثورة الشباب والشعب، ومطلبهم المركزي بدولة مدنية حديثة، طال انتظارها. ومن هنا قولنا إن اليمن الإمامي، وحتى الحمهوري، بحاجة إلى أكثر من ثورة.
لقد حكم علي عبدالله صالح اليمن قبل الوحدة وبعدها، بالمحاصصة المناطقية والمذهبية، والطائفية... المحاصصة التي يحددها الرئيس نفسه، حتى وصل هذا التوازن الوهمي في قلب النظام السياسي إلى نهايته بإعلان قيام الثورة الشبابية الشعبية، التي بدأت الخطوة الأولى باتجاه إسقاط النظام ليس إلا.
(2) انظر صحيفة "الوحدة"، صنعاء، 28/11/1990م، العدد رقم (26).
(3) وليست الظاهرة "الحوثية" وحروب صعدة الست، وأشكال الحرب المذهبية/ السلالية، الجديدة، التي شهدتها وماتزال تشهدها بعض محافظات البلاد (صعدة، حجة، عمران، الجوف) وحتى (الضالع، أبين، وشبوة)، الحدودية، على قاعدة مذهبية تكفيرية جهادية، أو على قاعدة (سنية، شيعية زيدية)، سوى أحد تجليات ذلك الحضور التاريخي، في أسوأ تعبيراته عن نفسه في واقع اليوم، وليس الحديث عن ثقافة (الاصطفاء الإلهي/ الديني/ السلالي) سوى أحد مخرجات الحضور التاريخي القديم/ الجديد، الذي مايزال يبحث له عن مكان في تاريخ اليوم. وهو دليل على فشل مشروع بناء وقيام الدولة المدنية، الوطنية الدستورية، في البلاد طيلة الستة العقود الماضية وحتى اللحظة، وليس خطاب دولة "الخلافة" السنية/ والإمامة الهادوية التي يرفعهما البعض اليوم في مواجهة مطالب الحياة والمستقبل، سوى محاولة التفاف وتحايل على مطلب ثورة الشباب والشعب بدولة مدنية، دستورية حديثة، ومحاولة بائسة لإعادة إنتاج الماضي (الفردوس المفقود) في أسوأ طبعاته، كما هو حاصل اليوم والآن في صورة: "الاصطفاء الإلهي السلالي المذهبي"، ليس في مواجهة دولة الخلافة، بل على النقيض من كل معنى للحياة وللعصر والمستقبل، وهنا الكارثة أعظم، وهو ما نعد إن شاء الله في بحثه في قراءة مستقلة.
الثورتان اليمنيتان (سبتمبر، أكتوبر) (2-2)
2024-04-08