يواجه القطاع المصرفي في اليمن تحديات جديدة تهدد بتفاقم الوضع المالي والاقتصادي الذي يعصف بالبلاد منذ سنوات. وعلى وقع القرارات أحادية الجانب التي صدرت مؤخرًا عن البنك المركزي في صنعاء وعدن، تلوح في الأفق أزمة اقتصادية خانقة تنذر بانهيار العملة المحلية، وإعاقة حركة الاستيراد والتحويلات المالية وارتفاع أسعار السلع والمواد الغذائية والخدمية.
الأربعاء الماضي، أصدر البنك المركزي في عدن حزمة من القرارات التصعيدية ضد البنوك التجارية ومحال الصرافة في البلاد، بتهمة مخالفة سياساته المالية. قضت توجيهات محافظ البنك المركزي بإيقاف التعامل مع خمسة من أكبر البنوك التجارية في البلاد، و13 فرعًا لشركات الصرافة في محافظة مأرب.
أرجع مركزي عدن الأسباب إلى عدم التزامها بالتعامل مع شبكة التحويلات الموحدة التي أطلقها مؤخرًا لإعادة تنظيم السوق المصرفي اليمني، لكن قيادات في عدد من هذه البنوك وشركات الصرافة، قالت لـ"النداء" إنهم يتلقون توجيهات متناقضة من السلطات المالية في صنعاء وعدن، وإن تضارب السياسات المالية يضعهم في موقف صعب، ويدفع بالاقتصاد الوطني نحو الهاوية.
رفض البنك المركزي بصنعاء التعامل مع الشبكة الموحدة الصادرة عن مركزي عدن، وأصدر نهاية فبراير الماضي لائحة مالية جديدة، وأجبر البنوك التجارية وشركات الصرافة في المناطق الخاضعة لسيطرته على استمرار التعامل وفق اللائحة الصادرة عنه.
فرضت الحرب المشتعلة في اليمن منذ العام 2015، تحديات اقتصادية عديدة، كان من أبرزها تباين السياسات النقدية بين الحكومة المعترف بها، وجماعة الحوثي، وبدأت أولى خطوات الانقسام النقدي الخطر في سبتمبر 2016، بإعلان الحكومة سحب البنك المركزي اليمني من صنعاء إلى عدن المعلنة عاصمة مؤقتة للبلاد. منذ ذلك التاريخ بات لليمن بنكان مركزيان يتبعان طرفي النزاع الرئيسيين في البلاد. وأفرز هذا الواقع وجود سعرين مختلفين للعملة الواحدة، بعد رفض جماعة الحوثي قبول فئات نقدية جديدة طبعتها الحكومة الشرعية. وهو ما تسبب بانعكاسات سلبية للبنوك التجارية وشركات الصرافة اليمنية مثلما أحدث حالة انفلات في القطاع المصرفي ككل، وسهل عمليات التلاعب بسعر الريال اليمني.
يحظى البنك المركزي في عدن باعتراف دولي، لكنه يفتقر للإيرادات، ويعاني من أزمة نقد أجنبي منذ تعليق مبيعات النفط نهاية 2022، ومع ذلك لايزال يتحمل فاتورة الاستيراد، ومدفوعات الموازنة العامة للدولة. في المقابل يسيطر البنك المركزي في صنعاء على الجزء الأكبر من الحركة التجارية في البلاد، ويتحصل موارد ويستفيد من التحويلات المالية، دون تحمل أعباء مماثلة، ويسعى لفرض سيطرته على القطاع المالي في البلاد ككل.
عبدالحميد المساجدي، رئيس منتدى الإعلام والبحوث الاقتصادية، يرى أن القرارات المصرفية الأخيرة تعكس صراع السياسة النقدية وتعمق الانقسام الاقتصادي، ويتهم بعض البنوك التجارية وشركات الصرافة بالاستفادة من هذا الانقسام والتلاعب بسعر الريال.
يكشف تقرير فريق الخبراء التابع لمجلس الأمن الدولي، الصادر في 2021، تورط بنوك تجارية وشركات صرافة بالفساد وعمليات غسيل الأموال، مما يشير إلى تعقيدات إضافية في القطاع المصرفي اليمني.
بحسب المساجدي، فإن جماعة الحوثي هي المستفيد الأكبر من حالة التباين في السياسة النقدية، ويقول في حديثه لـ"النداء" إنها وظفت التحويلات المالية للمغتربين، والمساعدات الإنسانية، عبر شبكات التحويلات المالية التي تقع مراكزها الرئيسية في صنعاء، في الحصول على العملات الأجنبية. "أصدرت جماعة الحوثي قرارات بمنع تداول الدولار الأزرق ومن ثم الأبيض، وبعدها منع تداولهما معًا، بما يتناغم مع نسبة العرض المتوفر لديها من الدولار، في مقابل استمرار نزيف العملات الصعبة من مناطق الشرعية، في ظل مشاركة بنوك تقع مراكزها الرئيسية في صنعاء في المزادات التي ينظمها البنك المركزي في عدن، وتحويل المبالغ التي تتحصل عليها لصالح توفير غطاء ائتماني لفاتورة الاستيراد للشركات في صنعاء.
قرارات عشوائية
الباحث في الشأن الاقتصادي اليمني عبدالواحد العوبلي، يصف القرارات المصرفية بالعشوائية، والتي لا تكترث لأوضاع الناس ومعيشتهم. ويحذر في حديثه لـ"النداء" من تداعياتها الخطيرة على حياة المواطنين وعلى الاستثمار والاقتصاد في البلد. "الشركات أو الأفراد الذين لديهم أموال في عدن لا يستطيعون إرسالها إلى صنعاء، والعكس، وهذا وضع كارثي".
العوبلي يدعو إلى تحييد القطاع المصرفي والمالي وإبقائه بعيدًا عن الصراع السياسي لتجنب كارثة إنسانة محتملة. ويقول: حتى لو كانت دولتين مستقلتين كان يفترض أن يبقى الجانب المالي والمصرفي مستقلًا حفاظًا على مصالح المواطنين لدى الطرفين.
ويتهم العوبلي مركزي عدن بالارتجال في اتخاذ قرارات أحادية دون القدرة على تنفيذها: "مركزي عدن غير قادر ماليًا على إخضاع البنوك التجارية وشركات الصرافة للتعامل مع الشبكة الموحدة التي أطلقها، وبنك صنعاء لا يكترث للتبعات الكارثية التي ستفاقم معيشة المواطنين.
لكن الصحفي الاقتصادي وفيق صالح، يرى أن القرار الصادر عن مركزي عدن مهم لتعزيز سيطرته على النشاط الاقتصادي، ومواجهة خطر انهيار الريال اليمني، والقيام بدوره الرقابي، ومكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، كونه البنك المعترف به دوليًا، والذي يتم التعامل معه من قبل المؤسسات المالية الدولية.
وعن انعكاسات هذا القرار يقول صالح في حديثه لـ"النداء"، إن من شأنه تعقيد الوضع الصعب للقطاع المصرفي من خلال التعاملات المالية الخارجية واستقبال التحويلات بالعملة الأجنبية.
ويتوقع وفيق صالح أن تلتزم البنوك التجارية وشركات الصرافة بتعليمات البنك المركزي في عدن، لأنها تدرك أن تعرضها للعقوبات من قبل مركزي عدن قد يؤثر على تعاملها المالي دوليًا.
معالجات ملحة
الانقسام الحاصل في السياسة النقدية لا يقتصر على التحويلات المالية وحسب، بل يمتد إلى خطابات الاعتماد، بعد أن حظرت سلطات الحوثي البنوك اليمنية التي يقع مقرها الرئيسي في مدينة عدن، ومنعت التجار من التعامل معهم، بسبب مشاركة عملياتها المصرفية مع مركزي عدن، كشرط لحضور مزادات بيع العملات الأجنبية. بقية البنوك التجارية التي يقع مقرها المركزي في صنعاء اضطرت منذ شهور لفتح مقرات إقليمية لها في عدن، حتى تتمكن من تلبية الشروط التي يطلبها البنكان المركزان في صنعاء وعدن كل على حدة.
الحلول الجزئية للبنوك التجارية ربما نجحت في تعاملات بنكية خارجية، لكنها فشلت في ما يتعلق بالتحويلات المالية، إذ لا يمكنها الامتثال للسياسات النقدية المتضاربة بين صنعاء وعدن في آن واحد.يحذر الخبراء من استمرار حالة الانقسام النقدي في البلاد، ويدعون إلى تدخل عاجل لتلافي الانعكاسات المباشرة على الوضع الإنساني المتفاقم أصلًا في البلد. وبعيدًا عن الجهود الأممية وأحاديث الحل الشامل للقضية اليمنية التي تتباعد يومًا بعد آخر في ضوء التطورات المتلاحقة، يتطلب الوضع الاقتصادي تعاونًا من جميع الأطراف المعنية لضمان التوافق على حلول مجدية لتوحيد السياسات المالية والمصرفية تراعي مصالح اليمنيين والاقتصاد الوطني ككل. الوضع يتطلب أيضًا -وفقًا لخبراء الاقتصاد- تقديم الدعم اللازم من المنظمات المالية الدولية لإعادة بناء البنية التحتية المصرفية، وتعزيز الشفافية والمساءلة في القطاع المصرفي اليمني.