اليمني الهارب حتى من نفسه
*منصور هائل
يهرب اليمني من مواجهة التحديات اليومية التي تدهمه وتستفزه بعنف وحدة، وتهتك حجبه وأستاره وأقنعته، وتهدم أسواره، وتشوشه وتربشه وتبهذله.
ويتهرب من مواجهة انكشافه في منحدرات الخيبة، ومنعرجات الخذلان والهوان، وهاويات الانسحاق والهزيمة.
وهو لا يجابه سؤال انهيار الخدمات الأولية والأساسية، والخراب الضارب في البنية التحتية المتهتكة والمتهالكة، والتي تندلع من فجواتها السوداء شتى أنواع الحروب والمصائب والجوائح، وكافة أشكال العنف والجريمة المنظمة والمجانية.
وهو يهرب من التصدي -مثلاً- لسؤال انهيار خدمة الكهرباء بالهرولة إلى الشموع، وحين ينعدم الشمع يلوذ بالفوانيس والمولدات، وإذا ما تعذرت إمكانية توفره على أية وسيلة فإنه يمتثل ويرضى بنصيبه ومصابه، وينصرف إلى التسبيح بحمد الظلام.
ولا يحتج ولا يرتج على ارتفاع أسعار فواتير الكهرباء التي ترتفع كلما تزايدت ساعات الانقطاع والانطفاء.
والأعجب أنه يكتفي بالتعبير عن شيء من التململ والتبرم عند اعتلافه لـ«القات»، وفي جلسة المقيل، ولكنه لا يتجاوز ذلك إلى مستوى الاحتجاج المدني الفاعل والجدير بالذكر، بقدر ما يسارع في اليوم التالي إلى دفع الفواتير المجحفة بكامل الانصياع والانتظام.
وعلى نفس المنوال، يكون تعاطيه مع أحوال التردي والانهيار التي طاولت الخدمات الأساسية الأخرى، وهو حين يتخرب الطريق العام -مثلاً- يلوذ بالطرق الفرعية، الملتوية، البديلة، والدائرية، ومع القطع المتواتر والمتكرر للطريق التي تصل صنعاء بعدن عن طريق الضالع -مثلاً- يتحايل اليمني على الأمر ويسافر إلى عدن عن طريق تعز وكرش، وإذا ما انقطع هذا الطريق، وذلك ما هو متوقع، فإنه سوف يسافر إلى عدن عن طريق منفذ طور الباحة التي تتهيأ هي الأخرى للانغلاق في وجهه كيما يستدير ويبدأ بتقليب فكرة السفر بالطيران.
ولا يأبه لواقع أن الانفصال قد تنفذ برياً وفي الميدان، وفي هذه الأيام يقال إن المقتدرين والكثيرين لجأوا إلى الطائرات، وقد انتعشت حركة الطيران الداخلي، ودبت الحركة النشطة في مكاتب طيران "السعيدة"، و"اليمنية"، ومن المتوقع أن تتعاظم مبيعات وأرباح تذاكر الطيران، وترتفع ولا تنقطع إلا حينما يصل (الحراك) إلى مطار عدن.
هكذا يهرب اليمني من الواقع حتى يرتطم بسلطة الأمر الواقع، ولكنه لا يرتدع في أكثر الحالات.
ويتبدى في مستوى هزال كائنات نيتشه أو الفرد النيتشوي -نسبة إلى الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه- الذي قال بأن الإنسان يعتمد الذكاء كوسيلة للحفاظ على ذاته، وتنمية لقوته الرئيسية في التخفي، لأنه بواسطة التخفي يحافظ الأفراد الأوهن والأقل قوة على أنفسهم، إذ إنه قد كان منكراً عليهم أن يخوضوا معركة الوجود بالقرون والأنياب الحادة للوحوش المفترسة. ويبلغ فن التخفي ذروته، إذ فيه الخداع والتملق والزيف والاحتيال والافتراء والتظاهر والادعاء والتنكر والتواطؤ المستتر، والتمثيل على الآخرين وعلى نفسه.
ولعل حالة اليمني هذه تحتاج إلى الاستعانة بعلم نفس الأعماق، أو علم النفس الاجتماعي والتاريخي وأدوات الانثروبولوجيا، وأدوات الحفر في طبقات الوعي والتفكيك لنظام خطاب مؤسسة القات وآلياته ومراتبه ودينامياته، وصولاً إلى استبطان واستنطاق أسباب هذا الإغماء الجماعي، والغيبوبة العامة.
ولعل المسألة تحتاج لوقفة أخرى بوجه هذا اليمني الهارب حتى من ظله ونفسه.
mansoorhaelMail
اليمني الهارب حتى من نفسه
2010-01-17