في ما مر من سنوات الاحتفاء بذكرى رحيل الشاعر حسين المحضار، غابت مواضيع جوهرية عن كل مناسبة. فكل الأبحاث المكتوبة والمقالات والخواطر تغفل الجانب اللحني والموسيقي، لكون المحضار -حسب توصيف الأديب المؤرخ الراحل محمد عبدالقادر بامطرف- ملحنًا في المقام الأول، ثم شاعرًا في المقام الثاني، ولكون القصائد الملحنة المغنّاة هي الأكثر تأثيرًا في تصوير المعاني، وهي الأكثر انتشارًا واشتهاءً لدى معظم متذوقي فنه، وهذا يعطي مؤشرًا مؤسفًا إلى أن حضرموت تفتقر إلى الكفاية الكافية من الباحثين الذين يجيدون الخوض في الاتجاهين معًا: اتجاه الإلمام بالموروث النغمي الذي استعان به المحضار في ألحان أغنياته، واتجاه تحليل هذه الألحان تحليلًا موسيقيًا أكاديميًا يوضح الفارق بين قالبها الشعبي القديم، وبين ما صارت عليه من تجديد، ومدى تطابق دلالة الكلمة مع اللحن، إلا في ما ندر، وبشكل شحيح بل أشح.
هناك بالفعل أمور كثيرة نغفل عنها كان ينبغي أن نعقد لها ندوات، ونقيم لها محاضرات في كل ذكرى رحيل للسيد المحضار، فعلى سبيل المثال لا الحصر أغنية "على عينك وعين الحاسد الواشي معاك أيوه على عينك"، من أين أتى المحضار بلحنها الأساسي؟! أتى به من لحن المبدع الراحل ناصر بن ناصر وادي حضرموت، وهو اللحن الذي طالما استمعنا إليه من مغني الدان الريّض عاشور الشن باشغيوان، على الكلمات التي تقول:
خرج ذا فصل والثاني على خط الصرك عارضت بدوية
شتيمة كلها غبره
ولا تحوي الحنك وتقول سكنية
ولا فيها ثياب
تدوّر زوج عاده ماعترف باني ولا دعكيك
من المعروف حصلت المودة واقفة لا صرخة الديك
وقد نظّم على هذا اللحن شعراء الدان الريّض السيئوني كثيرًا من المساجلات أبرزها "من المعروف حصّلت المودة واقفة تفتح لي الباب". وقد صاغ عليه المحضار كلماته الجميلة "على عينك وعين الحاسد الواشي معاك أيوه على عينك/ أنا مازلت من فوق الثريا والسماك ما أعرفك وينك/ عجب ما لي أراك تعادينا بلا حجة وتظهر لي جفاك ذا إيش لي جاك/ ولي ما عزّ نفسه في الهوى سيبه وعبّر فوقه الشاك".
وقد مر هذا اللحن بثلاث مراحل من التنغيم الموسيقي قبل أن يستقر بشكل أساس على مقام النهاوند في حنجرة الفنان الراحل أبو بكر بلفقيه الذي أخرجه من جوّه الشعبي الأصيل لكي يفرد للكورال مساحة أكبر من التجاوب والترادف الصوتي باستقرارات مغايرة عن اللحن التراثي الأصلي الذي سمعناه بصوت عاشور الشن، حيث كان عند الشن نهاوند متجاورًا في جزئه الثاني مع نغمات من مقام الحجاز، ثم سمعناه بصوت الفنان محفوظ بن بريك بنغمات أوضح من مقام النهاوند مع رشفات طفيفة في جزئه الأخير من مقام الحجاز، وأحيانًا عوارض من مقام البيات حسب حالات الأداء ومشاعر الفنان.
أتمنى أن نفرد لمثل هذه الدراسات حيزًا أوفر في الندوات والمحاضرات القادمة في ذكرى رحيل السيد الشاعر المحضار، وأن ننبش في ما تبقى من ذكرياته ومساجلاته مع أصدقائه في بقية المدن والأرياف، وأن نتوغل أكثر وأكثر في أعماق أشعاره وموسيقاه، لنضعه في مكانته المستحقة، بدلًا من تكرار الحديث عن إحصائيات الأماكن والبلدان والأشخاص الذين استعان المحضار بذكر أسمائهم للترميز بهم في قصائده.