الإهداء:
إلى الصديق د. زائد عاطف، الطبيب الاختصاصي في السكري والباطنية.. ابن خولان الطيال، ابن اليمن المدني التعددي الديمقراطي المنشود.. عرفته وهو طالب في دمشق أثناء إلقائي محاضرة عن التطورات السياسية في شمال البلاد "خط التطور السلمي"، في العام 1982م، في جامعة حلب، حين كنت مسؤولًا إعلاميًا "للجبهة الوطنية الديمقراطية"، في دمشق/ وبيروت. كان زائد الطالب شعلة مضيئة في سماء الحركة الطلابية اليمنية في "اللاذقية"، وتعمقت صلاتنا أكثر بعد عودتي إلى صنعاء، وهو نائب لمدير مستشفى الثورة للشؤون المالية، وتمكنت من خلاله من تقديم العديد من المساعدات العلاجية للكثير من المحتاجين للرعاية الطبية، حيث كان عونًا للجميع من خلال سلوكه، وتعامله الأخلاقي والإنساني.
د. زائد عاطف، يجمع بين الإبداع في مجاله الطبي التخصصي، وبين نشاطه الثقافي/ الاجتماعي المدني، في كل الفعاليات المدنية الثقافية. كان حاضرًا بسلوكه المدني، في علاقاته الأسرية المدنية الراقية؛ وفي تربيته لبناته وأولاده الذين اقتدوا بالمثال القيمي الذي تركه هو وزوجته الفاضلة فيهم.. زوجته د. فوزية شمسان، أستاذة الفلسفة في جامعة صنعاء.
للعزيز د. زائد كل المحبة والتقدير والتوفيق.
يجب أن نقر أن ثورة 23 يوليو 1952م، رغم بعض الأخطاء الجسيمة، شأنها شأن أية عملية ثورية كبيرة وتاريخية، كانت فاتحة وبداية لتاريخ سياسي، بل حتى فكري وثقافي جديد، كانت فاصلًا بين مرحلتين أو عصرين؛ عصر الاستعمار القديم وأفوله التاريخي، وعصر تصاعد مد حركة التحرر الوطني العالمية والعربية الذي قادته مصر عبدالناصر.
وجاء قرار تأميم قناة السويس ليؤكد هذا المعنى السياسي والأيديولوجي التحرري الوطني والقومي.
وكان بعده مباشرة، وكرد فعل لقرار التأميم، العدوان الثلاثي -بل حتى الرباعي، كما يتصوره المفكر السياسي هيكل، في كتابه "قصة السويس"- العدوان الوحشي الاستعماري الذي تمت مواجهته بوحدة القيادة والجيش والشعب، وتضامن الشعوب العربية، بل في كل مكان في العالم التحرري، وكان انتصارًا عظيمًا لمصر ولكل العرب، والذي أتبعه بعد العدوان الثلاثي، بقراري "فرض الحراسة" و"التمصير" للبنوك والشركات الأجنبية المملوكة للاستعمار، الأنجلو-فرنسية، كموقف سياسي واقتصادي، وهي الإجراءات التي اتخذت خلال عامي ١٩٥٦م و١٩٥٧م، وهو الذي أكد الدور السياسي القائد لمصر، وهو ما أخاف القوى الاستعمارية والإمبريالية مبكرًا من صعود هذا المارد، وذلك الدور السياسي المحوري لمصر، ليس في المنطقة العربية، بل الذي امتد تحديدًا إلى كل إفريقيا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية.
ومن هنا كانت تسمية الإعلام الاستعماري لعبدالناصر، بـ"الديكتاتور"، الذي يجب إزاحته وإضعافه، فكانت هزيمة حزيران/ يونيو 1967م التي قطعًا أحدثت شرخًا عميقًا في بنيان الكيان السياسي المصري، تركت آثارها السلبية على الصعد كافة. بدأت معها مصر تراجع أخطاء التجربة السابقة، فكان قرار "حرب الاستنزاف" العظيمة التي قادها الرئيس جمال عبدالناصر بنفسه، الذي لم يتوقف عن زيارة الجبهات، ووحدات ومواقع الجيش المختلفة.
هذه الحرب التي تمثلت في توجهين أو أمرين: الأول، محاولة إعادة بناء الجيش المصري عتادًا وعدة، والأهم استعادة ثقة الجيش بقيادته العسكرية، وضرب الطبقة السياسية والعسكرية الفاسدة، وفي إعادة بناء الجيش على أسس وقواعد سليمة؛ كعقيدة قتالية وطنية، وتنظيم وإدارة عسكرية. والثاني، عدم نسيان الضرورة الوطنية والقومية لإعداد العدة ليس "لمحو آثار العدوان"، بل والعمل الجدي لتحقيق نصر عسكري وسياسي معًا، يتم من خلالهما تجاوز الهزيمة/ النكسة، فكان قرار "حرب الاستنزاف"، البداية العملية للاستعداد للحرب.. الحرب التي جمعت بين شبه حرب عسكرية منظمة، وحرب فدائية في صورة غارات منظمة ومحددة، حرب دفاعية محدودة، كما هي في الوقت نفسه حرب جمع معلومات عن العدو، كما تقولها بعض الكتابات العسكرية الاستراتيجية، حرب بدأت من العام 1967م، واستكملت ترتيباتها في آواخر العام ١٩٦٨م، حتى مارس ١٩٦٩م، وهي التي استنزفت جيش الكيان الصهيوني، وأزعجته وأرهقته عسكريًا واقتصاديًا وبشريًا، بصورة كبيرة في زيادة أعداد القتلى بين جنوده في المواقع المختلفة، جزء منها "حرب إرباك/ وحرب أعصاب"، مع الإعداد والاستعداد لحرب عسكرية شاملة، كانت خططها جاهزة، وترتيباتها قائمة على مستوى الحركة العسكرية، تحت قيادة اللواء محمد فوزي، وزير الحربية، وتحت الإدارة والإشراف المباشر للرئيس الخالد، جمال عبدالناصر، مع الاستمرار في دعم حركة التحرر الوطني الفلسطيني "فصائل المقاومة" القريبة من مصر، "حركة فتح" وغيرها، فضلًا عن موقفه السياسي المبدئي في اعتبار حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني هو الطريق الوحيد لحل القضية الفلسطينية، بكافة أشكال الكفاح السياسي والعسكري. لقد كانت "حرب الاستنزاف" هي البداية "البروفات"، والتمهيد العملي لحرب أكتوبر ١٩٧٣م، بعد ذلك، والتي كانت استجابة للمطالبات والتظاهرات الشعبية الواسعة، والتي لم تتوقف في مصر، للحرب ضد الكيان الصهيوني، وضرورة استعادة الأرض المصرية والعربية.. وجاء الموت أو القتل المفاجئ للرئيس عبدالناصر، ليسدل الستار على صفحة سياسية ووطنية وتاريخية، لتبدأ بعدها مرحلة لا تشبه الثورة المصرية في شيء، وكما يرى جمال حماد في مؤلفه "من سيناء إلى الجولان"، حيث كتب قائلًا: "توفي الرئيس ناصر، ذلك القائد الفذ ذو الشخصية الساحرة المؤثرة في العالم العربي (...)، رحل ناصر تاركًا وراءه دولة تموج بالمشاكل السياسية الداخلية العصيبة، وكذا قيادة كما يبدو أنها تفتقر تمامًا إلى القوة والجاذبية المؤثرة" (ص٤٧، طبعة أولى، ١٩٨٨م، الزهراء للإعلام العربي، مصر).
ورأي جمال حماد، في تقديري، هو أصدق وأعمق تعبير عن أزمة القيادة بعد عبدالناصر، في صورة رئاسة السادات.
فقد جاء أنور السادات، صاحب أضعف وأصغر دور على رأس قيادة ثورة 23 يوليو 1952م، قياسًا بالآخرين، ليواصل السير بالممحاة على ما كان من مواقف وأدبيات وفكر الثورة.
كان الرئيس جمال عبدالناصر يقول: "إن منطق هذا العصر، ولعله منطق كل العصور، أن الحق بغير القوة ضائع، وأن أمل السلام بغير إمكانية الدفاع عنه استسلام، وأن المبادئ بغير مقدرة على حمايتها أحلام مثالية مكانها السماء، وليس لها على الأرض مكان".
وهو الذي كان يؤكد أن "لا مفاوضات ولا صلح ولا سلام بغير استعادة الأرض والحق"، وعشرات النصوص والمفاهيم الفكرية والسياسية والمواقف العملية، التي تؤكد هذا المعنى التحرري الوطني والقومي.
وبعد رحيله المفاجئ، وغير المتوقع، جاء السادات ليقول ويمارس النقيض الجذري لما كان يقوله ويفعله الرئيس جمال عبدالناصر.
لم يأتِ السادات ليقول عكس ذلك فحسب، بل هو أيديولوجيًا وسياسيًا وعمليًا سار على خط وخطى محو كل تاريخ ثورة 23 يوليو 1952م، بدءًا من اعتقال وسجن كل قادة الثورة الذين كان أمام أسمائهم وتاريخهم وأدوارهم صغيرًا، قبل الثورة، وحتى بعدها، حيث قام باعتقالهم تحت تهمة المؤامرة على حياته وعلى النظام الذي هم صانعوه، في صورة عملية انتقامية ثأرية لما كان يعانيه منهم من شعور بالنقص لدوره ومكانته الصغيرة، بالنسبة لأدوارهم ومكانتهم السياسية والعسكرية -وهو الذي كان في ذروة الإعجاب بهتلر في قمة شبابه الفكري والسياسي- والتي لا تكاد تذكر في قلب الثورة، وهو الذي بُدئ بالتشكيك بدوره من ليلة الثورة حين ذهب للسينما، وهو الذي شكك بدوره حتى بعد الثورة مباشرة، لولا الموقف الداعم له من الرئيس جمال عبدالناصر، الذي خفف من وطأة تلك الهجمة.
إن اعتقاله معظم قادة الثورة الأساسيين، كان هو بداية التمهيد لانقلابه على المشروع السياسي والاقتصادي/ الاجتماعي لثورة 23 يوليو 1952م، بطرحه سياسة الباب المفتوح "الانفتاح الاقتصادي"، الذي سماه أحمد بهاء الدين سياسة "السدح مدح"، وألف د. فؤاد مرسي، أستاذ الاقتصاد، وفي مواجهته، كتابه النقدي حول "الانفتاح الاقتصادي"، وعشرات بل مئات الأبحاث والكتابات والكتب النقدية. لقد هندس السادات مشروعه السياسي للتطبيع على هذه الخلفية السياسية والأمنية، باسم "ثورة التصحيح"، لاحظوا تسميته لإجراءاته الانقلابية بـ"الثورة"، وليس بالحركة التصحيحية، وكأننا أمام ثورة ضد الثورة التي كانت قائمة، ومن هنا نفهم ونقرأ انقلابه السياسي والاقتصادي والاجتماعي، على نهج ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م، الذي بدأه بإعلان تدريجي لإفلاس (تفليس) القطاع العام، حتى عرض الناجح اقتصاديًا منه للمزاد العلني للبيع، وقراره السياسي والاقتصادي بالتصالح مع القوى السياسية والاقتصادية القديمة من الباشاوات والملاك الكبار، الذين وقفوا موقفًا سياسيًا عدائيًا من الثورة قبلها وحتى بعدها، وارتبطوا بالعجلة التآمرية الاستعمارية المعادية للثورة وضد الإجراءات السياسية والاقتصادية لها.
كان أنور السادات يدرك جيدًا أن ذهابه للتطبيع أو الصلح المجاني مع الكيان الصهيوني، لا يمكن أن يمر والنظام السياسي الثوري والتقدمي، والبناء الاقتصادي الاجتماعي، والمؤسسي للثورة قائم وفاعل، ولذلك بدأ بعد اعتقالات ١٥مايو 1971م، التي سماها "ثورة التصحيح"، والتي كان اللواء محمد فوزي، وزير الحربية، من أوائل من قام باعتقالهم، لأسباب شخصية وسياسية، ومعه العشرات من قادة الصف الأول للثورة، أي من صانعي وأبطال ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م، تمهيدًا بعد ذلك لتصفية القواعد الاستراتيجية للاقتصاد المصري الذي تم بناؤه طيلة عقود؛ من طلعت حرب، إلى دور البرجوازية الوطنية المصرية، حتى منجزات ثورة يوليو الاقتصادية الاجتماعية الاستراتيجية، وهي الإجراءات التي تمس صلب حياة الناس المعيشية والاقتصادية.
إن الرئيس أنور السادات كان يدرك في قرارة نفسه ماذا يريد من الثورة، ولكنه كان يضمر كل هذه النوايا والخفايا الأيديولوجية والسياسية والاقتصادية، الكامنة في أعماق نفسه وعقله، ولأنه لم يكن ليجرؤ حتى على الهمس بها، خلال سنوات الثورة، بل كان من أكثر المتشددين "ثورية" في بعض المواقف أمام عبدالناصر، ومؤكدًا "لطاعة ولي الأمر"، والذي لم يعهد ولم يعرف عنه قول كلمة "لا"، في الوقت الذي كان يبطن في حقيقة الأمر شيئًا آخر، لا صلة له بمبادئ وأهداف الثورة، وإلا ما كان جمال عبدالناصر وثق به ليجعله نائبًا للرئيس بعد عبداللطيف البغدادي، وزكريا محيي الدين، وحسين الشافعي. كان السادات يشتغل على التعارضات الذاتية/ الداخلية في قلب قيادة الثورة، ويستثمر عامل الوقت لصالحه كشخص، وهو ما كان له بعد موت الرئيس جمال عبدالناصر، الذي تدور الشكوك حول موته مسمومًا.
فهل يعقل أن هذه الأيديولوجية الانقلابية الجذرية على أهداف ومبادئ وعلى كل تاريخ الثورة المصرية، ولدت ووجدت بدون مقدمات ذاتية/ سياسية، هكذا فجأة نبتت في عقل السادات بعد رحيل عبدالناصر، ووصوله إلى السلطة؟!
إن ما فعله السادات من بعد رحيل الرئيس جمال عبدالناصر، واعتقال قادة ورموز الثورة، ومحاكمتهم الصورية، إلى إجراءاته الاقتصادية التصفوية للتاريخ وللواقع الاقتصادي الاجتماعي للثورة، لا تسمية واقعية لها سوى أننا أمام انقلاب أيديولوجي/ سياسي، أمني، ومؤسساتي جذري على كل تاريخ 23 ثورة يوليو 1952.
كان السادات يدرك أن البداية لإخراج مصر من تاريخها السياسي والوطني والقومي التحرري، وفصلها عن دورها، وتجريدها من مكانتها القيادية في المنطقة العربية، لن يكون ويتم إلا بهذه المقدمات التي يجب أن يتبعها بالضرورة، الذهاب للتطبيع مع الكيان الصهيوني باسم "جلب السلام والرخاء لمصر"، كما كان يعلن ذلك في خطاباته.. رخاء معلق في فضاء القول المجرد، سلام منفرد وعلى حساب القضية الفلسطينية، وعلى حساب "الأمن الوطني المصري"، و"الأمن القومي العربي"، بعد أن قرر -لاحقًا- ذهابه باسم "السلام" لزيارة الكنيست الصهيوني.
إن التجربة السياسية والوقائع التاريخية تقول لنا: إنه يمكننا أن نتحدث عن أمن قومي عربي، وعن دور سياسي قيادي للأمة العربية بدون السعودية، أو غيرها من الدول، وقد كان ذلك خلال سنوات الخمسينيات والستينيات وحتى بداية السبعينيات، حين كانت السعودية -وماتزال- في المقلب المضاد لأحلام وطموحات الأمة العربية، ولكن لا يمكننا الحديث عن الأمن القومي العربي، وعن زعامة الأمة العربية بدون مصر بصورة أساسية، وبدون سورية.
ومن هنا خطورة، بل جريمة "كامب ديفيد"، على مصر أولًا، وعلى كل الوضع العربي، ثانيًا، والذي مايزال قائمًا ومستمرًا حتى اللحظة.
إن من يتصور أو يتوهم أن فكرة ومسألة التطبيع كانت فكرة وقضية طرأت وظهرت في تفكيره في العام 1977م، فهو قطعًا واهم، ذلك أن الفكرة والقضية "التطبيع"، كان السادات يعد لها ويرتب لوقائعها سرًا، ومن بداية العام 1972م، أي من بعد استكمال اعتقاله لمعظم قادة ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م (إن لم يكن من قبل ذلك)، والوثائق والتقارير الدولية تقول ذلك، بل إن السير الذاتية لقادة الكيان الصهيوني سربت وأعلنت ذلك، وما عليكم سوى العودة إلى سيرة حياة جولدا مائير "حكايتي"، وكتاب "عام الحمامة"، وغيرهما من الكتب والمذكرات، ناهيك عن صلات السادات بالرئيس الروماني تشاوشيسكو، حول طلبه منه ترتيب لقاء سري مع قادة إسرائيل، وذلك في بداية العام 1972م.
كتب المفكر السياسي المصري أحمد بهاء الدين، في كتابه الصادر عام ١٩٧٢م، "أبعاد في المواجهة العربية الإسرائيلية" (ص230)، حول دور مصر وضرورة عزلها، ومن أن ذلك "يتم بوسائل شتى: بقاء إسرائيل حيث هي، حتى تبقى مصر مغلولة اليد في قضية تحول دونها ودون الانشغال بهموم العالم العربي على نطاق واسع، واستمرار إغلاق قناة السويس تقليلًا من أهمية مصر الاستراتيجية وصولًا إلى محوه تمامًا إذا أمكن".
وهو عمليًا الرأي أو التنبؤ الذي تحقق كاملًا مع "كامب ديفيد" 1979م، وليس "قناة بن غوريون" المزمع إقامتها اليوم سوى المحاولة الثانية لمحو ليس دور قناة السويس، كما أشار مبكرًا أحمد بهاء الدين، وغيره، بل لمحو أي دور سياسي محوري لمصر، ليس على مستوى المنطقة العربية، بل حتى في داخل حدودها القطرية الوطنية، بعد أن صار "معبر رفح" اليوم خارج السيطرة السياسية والسيادية المصرية بهذه الصورة أو تلك، وهو ما تعلنه حقائق الصراع الفلسطيني الصهيوني الدائر اليوم في حرب غزة (أكتوبر 2023).
وتأكيدًا لهذا المعنى حول عزل دور مصر في المنطقة، يضيف أحمد بهاء الدين التالي: "فالمصلحة الإسرائيلية هي أيضًا في "حذف" مصر من حسابات "شرق السويس"، وانفتاحها هي على العالم العربي "شرق السويس"، فإذا فتحت لها الأبواب صار سهلًا عليها أن ترتع بالنفوذ والإرهاب والاقتصاد والسيطرة بعيدًا عن "الرادع" المحصور خلف القناة المغلقة وصحراء سيناء المحتلة. ذلك أن إسرائيل أيضًا لا تريد مصر لذاتها.. ماذا يمكن أن تأخذه إسرائيل من "مصر" ذاتها؟ (...) ثروة مصر هي نتاج عرق أبنائها (أي ليس هبة من الطبيعة، مثل النفط -الكاتب). إن مطامع إسرائيل هناك، إنها تريد أن تنطلق من عقالها إلى هناك، مصر بالنسبة لها عقبة، إما أن تعزل، وإما أن تقلم أظافرها" (بها الدين، ص231).
وهو عمليًا ما تحقق، وهو ما نراه اليوم، بعد أكثر من خمسة عقود من تنبؤات أحمد بهاء الدين، وغيره كثر من الباحثين، في صورة عزل مصر وإخراجها من دائرة الفعل التقدمي العربي، وصولًا إلى صورة "التطبيع الإبراهمي" الإماراتي/ البحريني، "الدين الإبراهيمي"، في غطائه السياسي الديني الزائف.
كان السادات يدير ويرتب أمر اتصالاته مع الكيان الصهيوني عبر وسطاء، من بداية العام 1972م، أي قبل حرب أكتوبر 1973م، وهو الذي حول النصر العسكري العظيم فيه، إلى هزيمة سياسية كاملة الأوصاف بعد ذلك مباشرة.. كان السادات يدير اتصالاته بالتنسيق مع أمريكا، والرئيس الروماني، وهو ما تم انكشافه بعد تسريب الصهاينة هذه المعلومات في كتاب "عام الحمامة" (The year the DOVE)، وفيه حديث مطول حول تلك الاتصالات والحوارات واللقاءات وتطوراتها، وترجم الكتاب إلى العربية ونشر في الكويت في حلقات مطولة في صحيفة "السياسة" الكويتية، عن صلات نائب رئيس الوزراء المصري حسن التهامي، ورد حسن التهامي على ما ورد في الكتاب في صحف القاهرة (انظر كتاب محسن عوض "مصر وإسرائيل: خمس سنوات في التطبيع"، دار المستقبل العربي، رقم الإيداع، 1984م، ص10).
وهي لقاءات تمت بين موشي ديان، وزير الخارجية، وحسن التهامي، وتحدثت عنها جولدا مائير في كتابها "حكايتي". والكتاب كما يقول محسن عوض، "قد صدر في حياة الرئيس الراحل السادات، ولم ينفِ ما ورد فيه من وقائع".
أي أن فكرة التطبيع السياسي والثقافي والاقتصادي والسيكولوجي التي حاول إنتاجها السادات، لم تكن فكرة طارئة تبلورت في ذهنه وعقله السياسي بعد حرب 1973م بسنوات -كما سبقت الإشارة- بل هي فكرة وعقيدة أيديولوجية كانت قائمة في بنية عقله من سنوات طويلة، وهو ما تقوله جولدا مائير، بعد لقائها الرئيس الروماني الذي أخبرها أن الرئيس المصري مستعد لمقابلة أي شخص (...) (لاحظوا قوله وطلبه مقابلة أي شخص -الكاتب)، فقالت له: جولدا مائير "إن هذا أحسن نبأ سمعته منذ سنوات كثيرة" (محسن عوض، ص10)، هذه المذكرات في العام 1972م، وهذه بالضبط هي حكاية وحقيقة التطبيع الساداتية، والتطبيع المغربي من خلال الملك الحسن الثاني، الذي كان يسير ويتحرك على ذات الخط، ومنذ تلك السنوات، وما يكمله اليوم الملك الابن (حامي وحامل راية القدس، والتطبيع معًا! وهي من مفارقات السياسة والواقع)، هو السير على خطى والده التطبيعية، هذا الشبل من ذاك المطبع، وكأنها وراثة للملك، وللعمالة والخيانة!
إن التطبيع مشروع أيديولوجي سياسي اقتصادي ثقافي يقف خلفه الغرب الاستعماري، وهو الذي بدأ السادات به، رغمًا عن إرادة الشعب المصري، في إمعانه السير على طريق ثورة 23 يوليو 1952م بالاتجاه المعاكس، كان يسير على خطى جمال عبدالناصر بالممحاة، وكأنه ينتقم من التاريخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي لثورة 23 يوليو 1952م.
إن جمال عبدالناصر كان أحد ضباط ورموز معركة "الفالوجة" في فلسطين، ومنذ ذلك الحين كان يتحرك ضمن رؤية استراتيجية وطنية وقومية لقضية تحرير فلسطين، وثورة 23 يوليو 1952م، من أحد وجوهها هي رد فعل للفساد والاستبداد السياسي الداخلي، وللتبعية للاستعمار البريطاني، كما هي رد فعل لهزيمة ونكبة 1948م، وتخاذل وتبعية الأنظمة العربية للاستعمار. كان جمال عبدالناصر يدرك أن الكيان الصهيوني هو "كلب حراسة" متقدم للمصالح الاقتصادية والسياسية الغربية والاستعمارية في منطقتنا، كيان له دور وظيفي محدد، وهو العمل على زعزعة استقرار المنطقة، والمساهمة في تفتيتها وتفكيكها وصولًا للعدوان عليها، وهو ما كان منذ ما قبل نكبة 1948م، وما بعد النكبة، وإلى هزيمة حزيران/ يونيو 1967م، حتى غزو لبنان واجتياحه في العام 1982م، ومجازر "صبرا" و"شاتيلا" التي كان مقدمتها سياسيًا وعمليًا توقيع ما تسمى معاهدة أو صلح "كامب ديفيد" التي لولاها لما تجرأ الكيان الصهيوني على القيام بذلك الغزو والاجتياح للبنان، دون أن يقول النظام المصري كلمة سياسية واحدة، طبقًا لما تقوله "اتفاقية الدفاع المشترك العربية" بحقها -حق مصر- في الدفاع عن أي قطر عربي يتعرض للعدوان الخارجي، وهو ما فعله الرئيس جمال عبدالناصر في العام ١٩٥٨م، مع لبنان ذاته.
إن "كامب ديفيد"، حطمت وكسرت دور ومكانة مصر، في زعامتها للأمة العربية منذ ذلك الحين.
كان السادات يرى ويروج أنه بعقده "اتفاقية السلام" مع الكيان الصهيوني في 1979م، ستكون آخر الحروب، وسيهل على مصر والمنطقة عام "السلام والرخاء" والرفاه، والوقائع والحقائق تقول إننا لم نشهد سوى مزيد من الحروب الصهيونية على المنطقة العربية، والابتلاع التدريجي للأرض الفلسطينية، وتوسع الاستيطان، وضم القدس، وجعلها كلها عاصمة لدولة الكيان الصهيوني، بقرار مستريح دون خشية من أحد، ودون وضع أي اعتبار للقرارات الدولية، والمجتمع الدولي.. كان السادات يروج إلى أنه بزيارته للكنيست الصهيوني حتى توقيعه اتفاقية العار في "كامب ديفيد"، قد كسر حاجز الخوف النفسي، الذي كان يمنع دخولنا إلى "السلام"، كما كان يروج لذلك السادات، والحقيقة أنه كان يدمر كل الخطوط الحمراء الوطنية المصرية، والعربية والقومية، خدمة لمصالح الكيان الصهيوني، والاستعمار الغربي، وهو الذي وصل إلى قناعة راسخة من أن 99% من أوراق الحل بيد أمريكا.
وعلى ذلك قام بطرد الخبراء والمستشارين السوفييت، بل حتى تجميد العلاقات السياسية مع الاتحاد السوفييتي، الذي كانت مساهمته نوعية وبارزة وفارقة في إعادة تسليح الجيش المصري، من بعد هزيمة يونيو/ حزيران ١٩٦٧م، وإلى ما قبل حرب أكتوبر مباشرة، ويمكنني القول وبضمير مرتاح إن أنور السادات، هو من أعاد تثبيت الحضور السياسي الأمريكي وبقوة أكبر في السياسة المصرية، وفي كل المنطقة العربية، تحت شعار أن أوراق الحل السياسي والاقتصادي والعسكري في يد أمريكا.. أمريكا التي لم يتوقف دعمها للكيان الصهيوني، سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، من نكبة ١٩٤٨م، إلى حرب وهزيمة حزيران/ يونيو ١٩٦٧م، وحتى حرب التطهير العرقي، والإبادة الجماعية القائمة حتى اللحظة ضد الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، ولذلك أقول وأؤكد أن التطبيع الساداتي كان مشروعًا أيديولوجيًا وسياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا وعسكريًا استعماريًا، وظيفته التمهيد لتفكيك وتقسيم المنطقة العربية، وتثبيت دولة الكيان الصهيوني كقائدة للمنطقة العربية، بعد أن أفرغ السادات الساحة العربية من السياسة العربية، ومن مواطن القوة "الأمن القومي العربي"، لتملأها إسرائيل وتركيا وإيران، بعد أن صارت مصر خارج معادلة الفعل العربي القومي، لأن الطبيعة والسياسة لا تحبان الفراغ، وهو الذي جعل "أمننا القومي العربي" مكشوفًا، بعد أن شق السادات الحد الأدنى من وحدة الصف العربي التي كانت قائمة، وما يجري اليوم خير شاهد على ما نقوله. ولذلك لم يكن أمام السادات مهندس التطبيع الشامل مع الكيان الصهيوني، سوى أن يحول النصر العسكري العظيم للجيش المصري البطل، الذي كان يتم الإعداد له من بعد هزيمة حزيران مباشرة، وتحت قيادة وإشراف الرئيس، خالد الذكر، جمال عبدالناصر، إلى هزيمة سياسية محققة، نحصد مراراتها الكارثية في كل ما يجري اليوم، أي بعد أن حول النصر البطولي للجيش والشعب المصري، إلى حالة سياسية تراجيدية، فقط، حالة احتفائية واحتفالية شكلية، يلبس خلالها البدلة العسكرية والنياشين التي تغطي صدره، في ذكرى يوم النصر، ولذلك كان الانتقام منه بالقتل، من الجماعات الدينية المتشددة، التي قام ببعثها، ودعمها وتمويلها، تحت شعار "الرئيس المؤمن"، في مواجهة اليسار الوطني والقومي والاشتراكي "الملحد".. فكان قتله على يديها، في ذات يوم النصر العسكري، بعد أن حول "كامب ديفيد" الصراع العربي الفلسطيني الصهيوني إلى صراع فلسطيني صهيوني، جعل الفلسطينيين مكشوفين أمام خامس جيش في العالم، وكل حروب العدوان السبع على غزة منذ عدة سنوات، وعلى لبنان اليوم، لها صلة وصل بذلك "الكامب ديفيد"، وليست مفصولة عنه.
لقد وظف السادات النصر العسكري للجيش وللشعب المصري العظيم في أكتوبر، وكأنه نصره الشخصي الخاص به وحده، بعد أن شق وحدة الصف الوطني المصري (مسلم ومسيحي قبطي)، كما شق وحدة الصف العربي في مواجهة الكيان الصهيوني من بعد زيارته للقدس -كما سبقت الإشارة- بعد أن حول الصهاينة القدس إلى عاصمة لدولتهم الموحدة، التي زارها ليوقع من على أرضها المقدسة، اتفاقيته البائسة.. فانتابته بعد أكتوبر 1973م حالة من جنون العظمة، خلقت لديه حالة مرضية من تضخم في الأنا، ظهرت في سلوكه وفي ملابسه وفي طريقة سيره، وحتى في طريقة حديثه، جعلته يعيش حالة انفصال عن الواقع، ولذلك كانت خيلاء ذاته المرضية هي من تفكر، ومن تتكلم، وتطغى على حقائق الواقع الموضوعية، أي ذاتيته الزائفة، فلم يعد يرى في المرآة سوى نفسه، الأمارة بالسوء، وهذه كانت هي مشكلته الذاتية الاستبدادية -عقدة ومركب نقص- التي جعلته يعتقل خلال يومين أكثر من ألف وخمسمائة وستة وثلاثين (1536) مفكرًا ومثقفًا وسياسيًا وعالمًا من جميع الأطياف الفكرية والسياسية والاجتماعية والطبقية، من الذين عارضوا اتفاقية "كامب ديفيد" وسياساته الاقتصادية،، تأكيدًا لحالة عنف انفصاله عن الناس، وعن الواقع، وتعامله مع معطيات الواقع والحياة بردود فعل ذاتية، هي التي قادته إلى حتفه قتيلًا، وهو يتوهم أنه يحتفل بذكرى انتصار أكتوبر 1973م، وكأنه عيد ميلاده الشخصي، بعد أن طرد معظم أبطال وقادة نصر أكتوبر الكبار، سعد الدين الشاذلي، وغيره من صناع النصر العسكري الحقيقيين، أو سجن ومضايقة بعضهم، ليرتفع اسمه، وبعض أتباعه.
على أن أجمل رد فعل صامت وفعال في الوقت نفسه على "كامب ديفيد"، جاء من الشعب المصري العظيم، الذي رفض وقاوم التطبيع بكل صوره، وشكل حالة مقاطعة ومقاومة لها، وكلنا مايزال يتذكر "لجان الدفاع عن الثقافة الوطنية والقومية"، و"لجان مقاطعة إسرائيل"، وغيرها، وحراسة مبنى السفارة الصهيونية بكتائب عسكرية مسلحة.. فبعد أكثر من خمسة وأربعين عامًا من توقيعه اتفاقية "كامب ديفيد"، يتحرك التطبيع السياسي الساداتي عاريًا ومكشوفًا، وبدون سند اجتماعي وثقافي مصري، وبدون أي سند شعبي عربي، وهذا وحده يكفي ليتعلم دعاة التطبيع الإبراهيمي المجاني "الدين الإبراهيمي"، الذين لم يتعلموا من الدرس الساداتي شيئًا له معنى يفيدهم في استمرار حكمهم بأقل الخسائر والتكاليف، والأهم تحقيق الحد الأدنى من إرادة وتطلعات شعوبهم الحقيقية، وليس إرادة ومصالح أمريكا والكيان الصهيوني، كما هو الحال مع "التطبيع الإبراهيمي المجاني"، في صورة محمد بن زايد، ومحمد بن سلمان.