إن الاستعمار، في عبارة واحدة، وفي تلخيص لمعنى وجوده، هو احتلال للأرض ونهب للاقتصاد واستثمار سياسي وعسكري للموقع/ الأرض المحتلة، وهو نهب بلا قيد أو شرط وبلا حدود لثرواته، وبما يتوافق ومصالحه واستمرار وجوده وبقائه.
ويمكن أن تنعكس بعض آثاره التحديثية الشكلية على البلدان المستعمرة، باستثناء الاستعمار البريطاني لجنوب اليمن، فمثلما دخل قبل مائة وتسعة وثلاثين عامًا، بمثلما خرج منها في العام 1967م، لم يترك بعد خروجه سوى بلد متخلف اقتصاديًا واجتماعيًا، وعلى المستويات كافة (زراعة وصناعة وبنية دولة)، بلد منقسم على نفسه إلى ما هو أدنى من التكوينات السياسية والاجتماعية ما قبل الوطنية. خرج الاستعمار من البلاد ولم ينشئ أيًا من مكونات البنية التحتية للنظام والدولة (شبكة طرق، مواصلات بين المحافظات، مؤسسات دولة، مستشفيات، مدارس) ولا جامعة واحدة. ترك جنوب البلاد ساحة مقفرة وهشة في بنياتها الاقتصادية، ملحقة بهامش العجلة الرأسمالية في شكلها البورجوازي الكمبرادوري (سوق لبضائعه، وموقع جيو/ سياسي/ اقتصادي) يربط الاستعمار بمصالحه في مستعمراته، وفي العالم. كل ما كان يهم الاحتلال هو الموقع الجغرافي والجيو/ سياسي الاستراتيجي للبلاد، ليحكمها ويهيمن على أهم الممرات المائية الاستراتيجية العالمية (باب المندب، البحر العربي، البحر الأحمر).. سواحل ممتدة تربط قارات العالم بعضها ببعض، ومن خلاله تمر تجارة العالم ومصالحه. ولذلك تركز همه السياسي والاقتصادي على الموقع الجغرافي، الذي توسع الاهتمام به أكثر بعد الحرب العالمية الأولى، وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتحديدًا بعد إغلاق ميناء عبدان (فترة مصدق). ففي عام 1937م أعلنت اليمن (يقصد جنوب البلاد -الباحث) مستعمرة تابعة للتاج البريطاني، أي أنها أصبحت تدار من هذا التاريخ فصاعدًا من جانب وزارة المستعمرات البريطانية مباشرة(1).
ومع صعود مد حركة التحرير الوطني العربية والعالمية، وصعود نجم المعسكر الاشتراكي، وقيام ثورة 23 يوليو 1952م، وبداية الصراع حول قناة السويس، بدأ الاهتمام بعدن المدينة، بعد أن كُبلت السلطنات والمشيخات والإمارات بعقود واتفاقات ومعاهدات حماية واستشارة، ووضعت هذه الكيانات المنقسمة على نفسها تحت الحماية البريطانية. وتحت إدارة المستشارية البريطانية، وفي نطاق هذه الحدود من السياسة والمصالح الاستعمارية، بدأ تركيز واهتمام الاستعمار البريطاني بالمدينة عدن، بعد أن نفذ سياسة "فرق تسد" في علاقته بالسلطنات والإمارات والمشيخات، وكوَّن منها بُنى كيانية سياسية تابعة وملحقة به، حيث "كانت سياسة المستعمرين حيال المناطق الداخلية تكمن في الإبقاء على تشتتها الإقطاعي، وتخلفها، وعدم السماح بتسرب دول أخرى إلى هناك"(2).
خرج الاستعمار البريطاني بعد قرن وثلث، وليس هناك أي معلم اقتصادي إنتاجي (صناعي أو زراعي) حقيقي يعتد به. حتى الشركات ذات الطابع الاقتصادي المالي والبنوك، لأنها كانت تخدم مصالح الاستعمار في الخارج مجرد "ترانزيت"، لم تجد دولة الاستقلال حتى ما تؤممه ويدخل في عداد الاقتصاد سوى مصفاة عدن لتكرير البترول، ومعامل ومحالج القطن في أبين، وقلة من الشركات رأسمالها الحقيقي (أصولها النقدية) في الخارج، ولا صلة لها بالإنتاج الاقتصادي، ولا علاقة بين المستعمرة عدن وبين الريف الذي يشكل أكثر من 95% من الأرض ومن السكان. أما حكومة ما تسمى "دولة الاتحاد"، وحكومة عدن، فليستا أكثر من مبانٍ للإقامة والاجتماعات الدورية للحكام لإدارة المصالح الاستعمارية. وهنا وجدت سلطة الاستقلال بقيادة الجبهة القومية نفسها في مواجهة تحديات آنية مرحلية، وتاريخية أكبر من قدرتها على احتمالها. وقد احتوى "الميثاق الوطني" للجبهة القومية، يونيو 1965م، تحليلًا سياسيًا اجتماعيًا تاريخيًا مكثفًا لوضع جنوب البلاد قبل الاستقلال، جاء فيه: "إن بريطانيا الاستعمارية حاولت في المائة سنة الماضية (1839-1939م) الإبقاء على الأوضاع الاجتماعية المتخلفة في الجنوب كما هي، ولكن نتيجة للتناقضات التي أفرزتها الحرب العالمية الأولى (1914-1918م) في الدول الاستعمارية والرأسمالية، نتيجة لذلك أحست بريطانيا أن من الضروري البحث عن مجالات عديدة لاستغلال ثروات المنطقة وخيراتها. وهنا كان عليها أن تعيد النظر في تحقيق السيطرة على المنطقة كلها إداريًا، ففرضت معاهدات جديدة باسم الاستشارة، والحماية، التي تتيح لبريطانيا التدخل في الشؤون الإدارية في كل أرض الجنوب. إن معاهدات الاستشارة هذه بدأت بالسلطنة القعيطية، وكان آخرها تلك المعاهدة التي قبل سلطان لحج السابق علي عبدالكريم التوقيع عليها مقابل قبول بريطانيا السماح له بتولي الحكم بعد هروب أخيه عام 1952م، وأن المستشارين البريطانيين الذين عينتهم الحكومة البريطانية بموجب هذه المعاهدات أصبحوا الحكام الحقيقيين، يتدخلون في كل صغيرة وكبيرة في السلطنات والمشيخات"(3). وفي مثل هذه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة، جرت مفاوضات الاستقلال الذي فرض بقوة المقاومة والكفاح الشعبي والوطني، وليس كما تروج له بعض الكتابات التي تستهين بالكفاح الوطني والشعبي لأبناء جنوب البلاد في تصوير الاستقلال (جلاء)، باتفاق سياسي مسبق مع بريطانيا، أو أنه تم في صورة صفقة سياسية بين الجبهة القومية والاستعمار البريطاني نكاية بالرئيس جمال عبدالناصر. إنه حقًا الاستقلال الوطني الكامل والناجز بدون شروط، والذي فرض بقوة السلاح في 30 نوفمبر 1967م، وجدت فيه البلاد نفسها بدون بنية تحتية إدارية/ اقتصادية (مؤسسات دولة)، وفي وضع اقتصادي يرثى له، وبدون جيش وطني حقيقي، وفي ظروف تحولات عربية صعبة، هزيمة حزيران 1967م وإغلاق قناة السويس، وانسحاب القاعدة البريطانية العسكرية وملحقاتها المدنية وما يستتبع ذلك من تسريح الآلاف من العاملين، وتوقف نشاط حركة الميناء بعد إغلاق قناة السويس، مع رفض بريطانيا تقديم المساعدة التي وعدت بها دولة الاتحاد مقابل احتلالها واستعمارها، ونهبها لثروات الجنوب طيلة مائة وتسعة وعشرين عامًا. والأخطر تعمدها رفع مرتبات موظفي الدولة (مدنيين/ وعسكريين) إلى أضعاف ما كانت عليه قبل خروجها مباشرة، ليضع الاستعمار دولة الاستقلال في مواجهة مباشرة مع قطاع واسع من أناس المجتمع، لقد "ورثت الجبهة القومية وضعًا محفوفًا بالمخاطر، فالقطاع المدني يهيمن على 80% من النشاط الاقتصادي، وكان هناك 220 ألف فدان مزروع تملك الأسر السلاطينية من 70% إلى 80% من مساحتها، وتقلص عدد عمال مصفاة عدن من 9750 و80 ألف عامل في عام 1965م إلى ألفي عامل عام 1968م (كما هو واضح نجد أن أرقام العاملين في العامين المذكورين غير واقعية). وانخفضت أهمية مرفأ عدن بسبب إغلاق قناة السويس كما سبقت الإشارة، وخسر 75% من تجارته. وأدى إغلاق القاعدة البريطانية إلى عطالة نحو 25 ألف عامل. وكانت الميزانية عام 1968م هي 33 مليون جنيه، في حين أن الدخل هو ثمانية ملايين جنيه استرليني(4). كانت البلاد تعيش في وضع سياسي منقسم وطنيًا بين عدن في وضعها الكوزموبوليتي، وريف يشكل ديمغرافية وجغرافية هي أكثر من 95% من السكان، ومن الأرض، أكثر من 95% من الريف يعيشون في ظل حياة متخلفة راكدة تنعدم فيها كل وسائل الحياة الحديثة والعصرية. ولذلك فإن الجبهة القومية "عندما تولت الحكم في تشرين الثاني (نوفمبر) 1967م، كان عليها أن تواجه عددًا مهولًا من القضايا التي تحتاج إلى حلول سريعة، على الصعد السياسية والاقتصادية والإدارية، وفي مواجهة أنظمة معادية عربية/إقليمية دولية، وكانت هذه المشاكل معلقة على جسم القضية التنظيمية -الأيديولوجية، داخل الجبهة القومية بين تيارين -كما يرى فيصل جلول- لكل منهما نظرته الخاصة لمستقبل الجنوب: الأول، مثله الرئيس قحطان الشعبي، والثاني (حسب تعبيره الذي لا نتبناه -الباحث) عبرت عنه الكتلة الماركسية التي كانت بدورها غير متجانسة، وغير موحدة الرؤية. وتم تغليب الصراع الداخلي في الجبهة القومية على مشروع الوحدة الوطنية الكفيلة ببناء سلطة مستقلة قادرة على مواجهة الأعباء التي خلفها الاستعمار، والتي تتطلب ليس "استكمال الثورة"، وإنما بناء (الدولة) والاقتصاد من الصفر، ووضع الأسس لأول حكم لجنوب يمني موحد مستقل في التاريخ على الأرض التي تم تحريرها من الاستعمار(5). وهنا يمكننا القول إن أهم إنجاز سياسي ووطني للجبهة القومية هو إنجاز قيام سلطة الاستقلال الوطني في 30 نوفمبر 1967م، وشروعها منذ قبل الحصول على الاستقلال مباشرة، وقبل المفاوضات وفي سياقها، في تأسيس المقومات الأولى للدولة الوطنية الجديدة، التي تم استكمال توحيدها بعد إنجاز سلطة الاستقلال في توحيد 23 سلطة ومشيخة وإمارة في دولة وطنية واحدة موحدة ومستقلة في تاريخ جنوب البلاد، ومن هنا ترافق الإنجاز الوطني التاريخي، معه مصاعب وتحديات بناء الدولة الوطنية الجديدة.
الهوامش:
١- فيتالي ناؤومكين، "الجبهة القومية في الكفاح المسلح من أجل استقلال اليمن الجنوبية، والديمقراطية الوطنية"، ترجمة: سليم توما، دار التقدم/ موسكو 1984م،
2- فيتالي ناؤومكين، مرجع سابق، ص9
3- الميثاق الوطني للجبهة القومية، نقلًا عن الملحق الوثائقي في كتاب "كيف نقيم تجربة اليمن الجنوبية الشعبية؟"، ص160.
4- فيصل عبداللطيف الشعبي (وزير الاقتصاد)، في محضر جلسة 19/9/1968م ما بين الجانبين اليمني والصيني، نشرها هاشم بهبهاني في سياسة الصين الخارجية في العالم العربي 1950-1975م، ترجمة: د. سامي مسلم، مؤسسة الأبحاث العربية، ط1/ بيروت، 1984م، ص273، نقلًا عن د. محمد جمال باروت، كتاب "حركة القوميين العرب، النشأة، التطور، المصائر"، المركز العربي للدراسات الاستراتيجية، ط(1)، توزيع دار المدى للثقافة والنشر، ص379.
5- فيصل جلول، "اليمن، الثورتان، الجمهوريتان، الوحدة، 1962-1994م"، دار الجديد/ بيروت، ط(2)، 2000م، ص111.