استهلال: أود بداية أن أعرج على جوانب تتعلق بتركيبتي الشخصية، التي اتخذتها إطارًا لمسار حياتي في التفاعل مع البيئة الاجتماعية المختلفة التي عشتها منذ أن بدأت أدرك الحياة، والناس من حولي. عشت المراحل المبكرة من حياة الطفولة والصبا، وفواتح مرحلة المراهقة المبكرة في أديس أببا (كتبتها "أببا" عوضًا عن "أبابا"، لأن الأولى أدق نطقًا باللغة الأمهرية، وتعني الزهرة، أما الجزء الأول من اسم المدينة فيعني الجديدة).
كان الحي الذي أمضيت كل تلك الفترة حتى عودتي إلى اليمن، في أواخر 1967، هو "المركاتو"، وتعني السوق باللغة الإيطالية، وهو الحي الذي كان غالبية سكانه من الجالية اليمنية، ومجموعات أخرى من الجاليات الهندية، واليهود اليمنيين، واليونانيين، وبعض من الإيطاليين، بجانب مواطنين محليين من المسلمين الإثيوبيين، والمسيحيين، ومن المفارقات كانت نسبتهم -أي المحليين- أقل. ويعتبر "المركاتو" أكبر سوق مفتوح على مستوى القارة الإفريقية.
نشأتي في هذه البيئة، الخليطة من الأعراق المتجانسة، نحتت في شخصيتي سلوكًا إنسانيًا مرنًا، جعلني أقبل فيها الآخر ببراءة ونقاء. أختلط وألعب مع جميع أبناء اليمنيين أو غير اليمنيين، دون أي منغصات أو نفس فئوية أن هذا زيدي أو شافعي، أو هذا مسلم أو مسيحي، لم نكن نتعامل مع بعضنا بثقافة من هذا القبيل، بل لم نكن في الأصل نعلم بها.
صادقت ولعبت مع أبناء القائم بالأعمال للسفارة اليمنية المتوكلية، أبو عبدالرحمن أبو طالب، وهو آخر سفير للإمام، ترددت كثيرًا إلى منزل السفير، دون علم أحد، وبالذات الوالد، الذي كان في عداء مع كل شيء ذي صلة بالملكية، باعتباره أحد النشطاء من الأحرار، والمطلوب من الإمام أحمد، مع مجموعة أخرى من اليمنيين، ذكرهم الشامي في كتابه "رياح التغيير في اليمن".
تألمت للسفير الملكي عندما رأيته في الشارع يومًا، بعد احتلال عدد من اليمنيين -عند قيام ثورة سبتمبر- لمقر السفارة، والاعتصام بها مضربين عن الطعام، في سعي لحث الحكومة الإثيوبية على الاعتراف بالنظام الجمهوري.
علمت بالفوارق الطائفية بين اليمنيين لدى عودتي إلى اليمن، وكان ذلك صادمًا. لكن الكثير من أصدقاء الطفولة في المهجر، تربطني بهم حتى الآن علاقات ود، بعيدًا عن بعض تلك السلوكيات المريضة في المجتمع اليمني، والتي كرست من قبل النظام الكهنوتي، وانتهت في عهد الرئيس عبدالله السلال، وأعيد إنتاجها بعد حرب أغسطس البغيضة في العام 1968.
وددت من هذه التعريجة أن أسلط الضوء كما أسلفت على كينونة معدني، وطباعي، في التعامل مع أية فئة من فئات المجتمع، حتى مع مجتمعات البلدان التي درست أو عشت فيها، تتجسد ببعد إنساني، وتتسم بقبول الآخر دون حساسية لانتمائه العرقي أو الديني، وأسلوب حياتي وعلاقاتي خالية من التعقيدات في التعامل مع الغير.
اختلطت مع كثير من بيوت المجتمع اليمني، عند عودتي من المهجر لأول مرة، بدءًا بتعز، المحطة الأولى التي وطأت قدماي عليها، في أواخر عام 1967، ثم بيوت عدة، من البيت الصنعاني، والعدني، بتجمعه المحلي، أو تلك التي نزحت إلى الشطر الشمالي، والبيت التهامي، وبيوت من القبائل، حتى بيوت السادة.
هذه التناولة هي إحدى الثمار الرائعة التي أتت من سلسلة لقاءات في أوساط البيت العدني، في صنعاء، وهنا سياقًا تعريجة أخرى "لحقة" عن خصائص المجتمع العدني، من منظوري الشخصي، تتعلق بمفهوم انتشر في مرحلة ما قبل الكفاح المسلح، وهي العبارة التي استهجنها الجميع، شمالًا وجنوبًا: "عدن للعدنيين".
أنا أنظر إليها من زاوية تركيبتي الشخصية. لو كان الثوار تعاملوا مع عدن ببراجماتية، وتركوا هذه المدينة كما هي بخصائصها المتميزة كمدينة "كوسموبوليتية"، أي مدينة كونية، وهي مدينة تتميز بخاصية فريدة تتمثل بمن دخلها، وعاش فيها ما يكفي من الزمن، مستقرًا، كسب تسمية "عدني".
ففي عدن، الجبلي، والصنعاني والبيضاني، ومن الأقاليم المحلية، والصومالي، والهندي... الخ، كلهم عدنيون، فلو -بئس للو هذا- عزلت عدن بحكم ذاتي، وأقاموا عاصمة سياسية جديد، أو اتخذوا أية مدينة أخرى كعاصمة للجمهورية الفتية، لكانت عدن رافدًا اقتصاديًا لا يستهان بها، مهما كانت توجهات الدولة السياسية، ولما كان لمدينة الملح، دبي، في دويلة "العمارات والعربيات"، أية قيامة، تمامًا كما فعلت الصين الشيوعية عندما استردت هونج كونج، أبقتها كما هي، تحت شعار علمين في دولة واحدة.
وأكثر البشاعة ظلمًا، ألحقت بسكان عدن، تلك التي أقدم عليها النظام القبلي، عند اجتياحها في حرب 94، وبدأت الأجهزة القمعية تقلب الدفاتر القديمة لسجلات المواطنين. وتمخض عنه إفراز قائمة، بقرابة ستة آلاف أسرة من العدنيين -من الجيل الرابع أو أكثر- ذوي الجذور الهندية أو غير الهندية، وطلب منهم مغادرة البلاد بحجة أنهم ليسوا يمنيين. لكن، رب ضارة نافعة! فقد تولت الحكومة البريطانية تسهيل سفرهم إلى بريطانيا بحكم وثائق سفر قديمة كانوا يحملونها لصاحبة الجلالة. سأكتفي بهذا القدر من الاستهلال لتناول الموضوع الرئيس.
شخصان لهما أثر مباشر في تقديمي إلى البيت العدني، كلاهما عدنيان بامتياز، المهندس الميكانيكي؛ محمد علي ناصر، الذي قدم من عدن للقيام بأعمال التركيبات لمطابع قديمة كانت ملكًا لابن عمه محمد ناصر، صاحب جريدة "الطريق"، قدمها لمحمد عبدالولي دون اتفاق مكتوب، لكن عاهده محمد، حسب إفادته لي، أنه سيرعى أسرته إن حدث له شيء، لكن من سخرية القدر، استشهد كلاهما في نفس طائرة الموت.
اصطحبني محمد علي ناصر في رحلة نقاهة معه إلى عدن، إثر الانتهاء من عمل مضنٍ لتركيب المطابع، وكانت بعد إكمالي سنة أولى ثانوي، وفي نفس الوقت كانت رحلتي الأولى لعدن في أواخر 1969، استضافني في منزله بشارع الشيخ عبدالله بكريتر. كنت مبهورًا بعدن وبالمجتمع العدني.
والشخص الآخر، أحد أنبل عدني ساقتني الأقدار للتعرف به، وهو أحد مجاهدي جبهة التحرير، الجناح المدني، والذي نزح مبكرًا إلى الشمال، مستقرًا بالحديدة، الأخ، والصديق الذي أعتز به، أحمد يوسف النهاري، مقاول درجة أولى، تعرفت عليه في صنعاء بحكم عملي في شركة النفط كمهندس مدني مسؤولًا عن كل نشاطات الشركة، الهندسية والإنشائية.
استمرت علاقاتي به قرابة أربعة عقود كمستشار له في كل أنشطته التي تولى تنفيذها، ومازالت علاقتي به حتى الآن حميمة، أطال الله بعمره.
كان أحمد يوسف هذا، لا يمكن ألا يتواصل معي كلما قدم إلى صنعاء من الحديدة، يصطحبني في جلسات "المقيل" التي يرتادها، غالبًا في البيوت العدنية، أو في أي مكان آخر.
أهم جلستين في فترتين متباعدتين زمنًا، رسختا في ذاكرتي ذكرى عطرة، هي الأجمل على الإطلاق، تلكما اللتان صادف فيهما حضور محمد مرشد ناجي، وهي مرتبطة تمامًا بموضوعي هذا.
جلسة اللقاء الأولى
أحببت المرشدي من خلال غنائه، كالجميع على امتداد الوطن شمالًا وجنوبًا. لكن لقائي الأول هذا، في "مقيل"، جعلني أحب الإنسان محمد مرشد ناجي، كأحد أنبل الناس الذين التقيتهم في حياتي. كان ذلك في أواخر عام 1980. جاء في زيارة خاصة إلى صنعاء قادمًا من عدن، وكان وقتئذ عضوًا في مجلس الشعب الأعلى.
كان المكان مكتظًا، جميعهم من المجتمع العدني، من الرعيل الأول، النازح إلى الشمال. جميعهم دون استثناء في آخر "شياكة"، "بفوط" طويلة تكاد لا ترى أقدامهم، كبار السن يتميزون بلبس "الكوفية" الزنجبارية، رائحة العطر والبخور تفوح من أجسادهم، وتملأ المكان بعبقها، الكل يحمل "قاته"، مقلمًا ومغطى بمناشف مبلولة، طقوس خاصة يتميز به "مقيل" البيت العدني.
كنت أقعد جوار أحمد النهاري، وفي صدر المكان يتربع المرشدي. يتبادل التحايا مع جميع من يعرفهم من أصدقاء. ثم يبدأ "الحشوش" في ما بينهم، ويتخلل كلامهم "العرعرة"، لم أكن أستبشع أو أستنكر عادتهم وطرائق تبادل الحديث، الكل يبتسم، ويضحك، بل بالعكس، كنت أستلطفه، لكن لا يمكنني أن أشاركهم الحديث بذات الطريقة.
بدأ أحد كبار السن، المعتق بعدنيته من ركنه، الحديث، موجهًا كلامه إلى المرشدي:
"إيش داللي رجع "عارك" من السعودية، تركت النعيم، ورجعت لي فرحان بعضوية مجلس الشعب، صحيح من قال: الدم يحب يد ماغله".
يتوالى "الحشوش" و"العرعرة" على المرشدي من كل زاوية لعدد من أصدقائه، منهم أحمد يوسف نفسه.
ألتفت إلى المرشدي في كل مرة يوجه إليه الكلام من أحدهم، أجده صامتًا لا يرد، منشغلًا بشرب الشاهي الملبن قبل أن يبدأ التخزين.
ثم يرد فجأة:
"فكوا علي، ما لحريمكم، خلوني أخزن".
ثم بدأ بعد وهلة، يتحدث عن الفترة التي أمضاها في السعودية، والتي لم تستمر طويلًا؛ ستة أشهر فحسب، حسبما أفاد سياقًا.
قال:
أنا رحت السعودية مش هارب من عدن، ولا سعيًا للثروة، سافرت للاستفادة من الإمكانيات الفنية الهائلة عند السعوديين؛ والتي تخلفنا عنها في عدن لشحة الإمكانيات، واستئثار السعودية بكل من لديه مهارات في العزف أو كل المنشغلين في الفن الغنائي من مصر ولبنان وآخرين من العالم العربي. وكان حلمي من السفر الاستفادة من تلك التسهيلات للقيام بتطوير أعمال جديدة، لكنني صدمت من واقع مرير تم استغلاله من قبل كبار القوم هناك. فعوضًا عن انشغالي لتحقيق حلمي، وجدتني منشغلًا بتنفيذ رغبات الأمراء، والأميرات، وكبار المتنفذين ورجال الأعمال "يلعن حريمهم"، تلفونات يوميًا لا تنقطع، كل واحد يطلبك للغناء في جلساته، وسهراته الخاصة. أحيانًا أكون منشغلًا مع شخص ما، وإذا بهاتف يرن ممن هو أعلى منه درجة، وأكثر نفوذًا، أو تأتي سيارة خاصة من دون اتصال إلى حيثما كنت، وتطلب مني الذهاب معهم. وهكذا دواليك. "شغل مرفالة".
وواصل حديثه قائلًا:
بالرغم من أن تلك الجلسات مع كبار القوم، تدر عليّ دخلًا باذخًا، أكثر بكثير، فيما لو أقمت حفلة عامة، إلا أنني قررت العودة إلى عدن، فقر عدن بكرامة، ولا غنى السعودية دون كرامة.
الجميع ينصت إليه بصمت، وكف الجميع عن مجادلته. هذا جانب استشففته من تلك الجلسة عن خصائص مشرقة في خصال الإنسان محمد مرشد ناجي.
جلسة اللقاء الثاني
مرة أخرى، كان أحمد النهاري الطرف الأساسي في ترتيب هذا اللقاء، وكان متواجدًا في صنعاء وقتذاك، بشكل يكاد أن يكون دائمًا، بسبب وجود عدد من بناته وابنه في صنعاء للدراسة. اتصل بي وطلب مجيئي لتناول طعام الغداء معه، لكني اعتذرت عن عدم المجيء لوعكتي، وهي لم تكن كذلك، لأنني كنت مكتئبًا من الأخبار التي تفيد بفقدان عبدالفتاح إسماعيل واحتمال مقتله في أحداث يناير 1986 الدموية بين الرفاق في عدن، لكنه أصر ملمحًا "بمقيل" خاص سيسعدني، وأرسل سيارته لإحضاري. أخبرني عندما التقيته: اليوم سيكون في "المقيل" المرشدي، سررت عند سماع ذلك. كان "المقيل" في بيت عدني، منزل الكابتن حسن اليافعي في شارع متفرع من أول شارع هائل.
كان المكان مكتظًا بغير العادة، لكنه ليس بذات الطقوس والنفوس، كسابقتها قبل خمسة أعوام، وجوه جديدة وشابة، من النازحين حديثًا من مجموعة الزمرة. كانت الأصوات في غير العادة صاخبة، الكل يتكلم لا تدري من هو المستمع.
فجأة بدأ أحدهم يتكلم بصوت عالٍ وبتهكم، قائلًا:
"سمعتم الأخبار؟ عبدالفتاح السفاح قتل شر قتلة، يستاهل، جزاء ما اقترفه في حق الجنوب"، ويرد آخر متشفيًا: "يستاهل عادو نار جهنم تنتظرو...".
بدأت أشعر بالاشمئزاز، وبغض وتقزز شديدين، ما هذا الغل والحقد؟
التفت إلى أحمد النهاري، وقلت له: لم أعد أطيق البقاء.
رد قائلًا:
"ما لك من عارهم، شوية روفلات".
وفجأة يتكلم المرشدي بنبرة حادة قائلًا:
"اختشوا من الله، الكلام اللي تقولوه في حق عبدالفتاح عيب".
صمت الجميع، وكف عن الشتم، والحديث حول ما حدث، فالذي يتكلم ليس إنسانًا عاديًا، إنه محمد مرشد ناجي العدني العتيق.
وواصل حديثه بصوت جهور، حول خصال عبدالفتاح إسماعيل، قائلًا:
في أحداث يونيو 1978، عندما كانت أجنحة الصراع بين أصحاب الضالع وأبين يقتتلون، كنت أنا وعبدالفتاح نراجع الأغنية التي كتب كلماتها، "مخلف صعيب"، أي سفاح هذا الذي تنعتون به فتاح؟
ثم جاء صوت من وسط القاعدين مفاده:
"كان ما بناش حاجة وفي نعيم، لما رجع فتاح انفجرت الفتنة".
رد المرشدي بحدة أشد، وفي ملامح وجهه الغضب:
"اسكت يا ولد!... واسمع ما يقوله العقال بدل ما "تخرأ" من فمك، هذا شغل أصحابك -وقصد مجموعة الزمرة- الذي تتكلم عنه. ترك لكم البلاد بعد حادثة الطائرة التي كانت تقله إلى ليبيا، وفشل الطيار في إنزال العجلات، بسبب خلل فني، تبين لاحقًا أنها بفعل فاعل، وكانت ستؤدي إلى إزهاق أرواح بريئة على متنها، غير الرئيس عبدالفتاح إسماعيل، الأمر الذي أدى إلى هبوط الطائرة اضطراريًا -بدرجة عالية من الخطورة- على رغوة فرشت على امتداد المدرج من قبل سلطات مطار طرابلس، وهبطت الطائرة منزلقة على سطحها السفلي، وقد خرجت عن الخدمة بعد هذا الهبوط، جراء الضرر الجسيم الذي لحق بها.
أدرك عبدالفتاح المؤامرة الدنيئة لتصفيته، وعند عودته آثر أن ينسحب عن المشهد السياسي وهو في أوج سلطته الحزبية والسياسية، وبدعم لا يستهان به في المكتب السياسي والقواعد العريضة في الحزب، وهو في قمة رأس الدولة. غاب خمس سنوات درءًا للفتنة، وإجهاض تجربة النظام.
ثم أردف يقول: الجريمة الوحيدة التي ارتكبها عبدالفتاح هي في حق نفسه، بقبوله الدعوة من الجناح الذي كان في الأصل سببًا لترك البلاد والعودة إليها. بل هي أيضًا، جريمة السوفييت في تركه يذهب إلى مصيره، وهم يدركون أن الأوضاع متوترة في الداخل. وأكمل حديثه قائلًا:
"ماذا كان بيد عبدالفتاح أن يعمله خلال ستة أشهر، وبمنصب أقل تأثيرًا من منصبه عندما ترك البلاد لرفاقه. كان البلد على فوهة بركان قبل أن يعود، وهي تراكمات لصراعات ذات نفس قبلي حدثت في غياب عبدالفتاح إسماعيل، وتفاقمت الخلافات الداخلية، جراء الصراع القبلي بين جناحين، وهو صراع على السلطة، وصل إلى مرحلة فارقة، أضحى فيها كل من طرفي الصراع، يتربص في تصفية الآخر، وكان هو ضحيتها.
طلب قفل النقاش والجدل حول الموضوع، والتخزين في جو هادئ، وإلا سيترك "المقيل".
لم يكن المرشدي اشتراكيًا، ولا عضوًا في الحزب، وليس له أي منافع من هذا ولا من ذاك، كان إنسانًا بحجم وطن، كل ما يربطه بعبدالفتاح إسماعيل، هي تلك التوأمة بين الإنسان الشاعر والإنسان الفنان، تمامًا كتلك التي توأمت عبدالله عبدالوهاب الفضول بأيوب طارش، ربما ليست بذات الزخم، لكن هي نفس التوأمة.
لقد وحد المرشدي من خلال أوتاره اليمن بأستاذية فريدة، خلال حقبة امتدت قرابة ستة عقود، من خلال تجربة غنائية ثرية، حافلة بالعطاء الإبداعي، بمحاكاة التراث اليمني شمالًا وجنوبًا، بمنهاجه الخاص، وغنى بتفوق مدهش كل الألوان الغنائية اليمنية، بدءًا من الإطار الذي عاش وترعرع فيها، ومرورًا بحضرموت، ويافع، ولحج، وتهامة، إلى أن امتدت إلى هضبة الشمال، وأخرج الغناء الصنعاني من قوقعته، مستندًا على عذوبة ورقة صوته بأسلوب تميز بسلاسته وبمخارج صوتية قوية وسليمة للألفاظ. هل ستتكرر، في قادم الأيام، هذه الأيقونة؟ أشك في ذلك.
المجد والخلود للمرشد القائد، والمرشدي الفنان.
سدني، 25 نوفمبر 2020