"لا مكان للآراء السياسية في ملاعب كرة القدم" إذا كنت واحدًا من ضمن مئات الملايين من جماهير اللعبة الشعبية الأولى عالميًا، فلا بد أن هذه العبارة قد شقّت طريقها إلى مسامعك مراتٍ عديدة.
ولا بد أيضًا أنك تساءلت عن مدى التزام السلطات المعنية بتطبيق هذا المبدأ الذي بدا مختلًا غير مرة.
يدّعي البعض أن هذا التعميم، الذي يحظر على اللاعبين التعبير عن آرائهم في القضايا السياسية والاجتماعية، يهدف إلى تجنّب الوقوع في ما يثير النزاعات بين المجتمعات والثقافات المختلفة.
كان هذا تعبير عضو مجلس إدارة الاتحاد الدولي لكرة القدم (IFAB)، من اتحاد كرة القدم الويلزي، جوناثون فورد، الذي قال: "إن تحديد ما هو الصواب والخطأ بين البلدان والثقافات المختلفة، أمر معقد للغاية، لذا من الأسهل القول إنه لا مكان له في اللعبة".
هذا أيضًا يوافق نص المادة 16 من دليل الإجراءات التأديبية الصادر عن الاتحاد الدولي لكرة القدم، على أن "استخدام الإيماءات أو الكلمات أو الأشياء أو أية وسيلة أخرى لنقل رسالة استفزازية لا تصلح لحدث رياضي، خصوصًا الرسائل الاستفزازية ذات الأهمية السياسية والأيديولوجية، أو الطبيعة الدينية أو الهجومية".
لكن الخط لم يكن مستقيمًا على الإطلاق، بل تعرّج غير مرة ليلتقي مع مصالح وتوجّهات القوى السياسية المهيمنة.
لاعبو منتخب انجلترا يتضامنون مع الشعب الاوكراني في تصفيات كأس أمم أوروبا 2024(شبكات التواصل)
مقارنة تعاطي اتحادات الكرة والإعلام الرياضي الأوروبي مع أحداث الحرب الأوكرانية -الروسية، بموقفهم الحالي إزاء حرب الإبادة على غزّة، يكشف هذا التناقض الفج في تطبيق قوانين لا تخضع لأي معايير واضحة، وإنما تستخدم كأداة لقمع الأصوات المخالفة لسرديتهم التي يُراد لها أن تسود دون منافسة.
خلال الحرب الروسية -الأوكرانية، سخّرت الحكومات الغربيّة كل أدواتها الممكنة لإدانة الجانب الروسي، وإعلان التضامن الكامل مع الجانب الأوكراني.
أهم هذه الأدوات بالتأكيد كانت ملاعب كرة القدم؛ إذ وقف اللاعبون دقيقة صمت قبل المباريات، وارتدوا الشارات السوداء، حدادًا على أرواح الضحايا، كما حملت شارة قائد الفريق وقتها ألوان العلم الأوكراني. بالإضافة إلى رسائل الدعم والمؤازرة التي عرضتها شاشات البث خلال مجريات المنافسات الكروية الأوروبية.
الأمر لا يقتصر على كرة القدم، بل يشمل معظم الرياضات الفردية منها والجماعية.
فمثلًا، في لعبة كرة المضرب، قرر منظمو بطولة ويمبلدون استبعاد اللاعبين الروس والبيلاروس من المشاركة في نسخة البطولة لعام 2022، بناءً على طلب مباشر من الحكومة البريطانيّة.
حيث صرّح وزير الرياضة نايجل هادلستون آنذاك قائلُا: "لن يتم السماح لأحد يرفع علم روسيا باللعب في ويمبلدون".
علل المسؤولون مواقفهم هذه، في مجالات كرة القدم وغيرها من الرياضات، بأنها مواقف من أجل الإنسانيّة.
بنفس الطريقة، اتخذ الغرب من الفضاء الرياضي منصة لإعلان موقفه الداعم للجانب الإسرائيلي خلال الأحداث الجارية منذ 7 أكتوبر.
الموقف الألماني كان الأكثر تطرفًا من خلال بيانات اتحاد الكرة الرسمية، التي عبروا فيها عن تضامنهم مع المدنيين الإسرائيليين ضحايا هجمات يوم السابع من أكتوبر، ودعوتهم اللاعبين للوقوف دقيقة صمت قبل كل مباراة في الجولة التي تلت التوقّف الدولي، حدادًا على أرواح الضحايا الإسرائيلين، متجاهلين أية إشارة للضحايا المدنيين الفلسطينيين.
أيضًا، تعرّض اللاعبون الذين أعلنوا موقفهم الداعم للقضيّة الفلسطينيّة، لعقوبات وصلت إلى الاستبعاد من قائمة الفريق؛ مثل اللاعب الهولندي من أصل مغربي أنور الغازي، الذي قرر ناديه ماينز الألماني إيقافه نتيجة لمنشور للّاعب في مواقع التواصل عبّر فيه عن دعمه لتحرر فلسطين، حيث ورد في منشور اللاعب "From the river to the sea, Palestine will be free"، بمعنى "ستصبح فلسطين حرة من النهر إلى البحر".
قبل أن يعدل النادي عن قراره، بعد أن ذكر في بيان رسمي أن اللاعب اعتذر عن موقفه هذا الذي يعتبر معاديًا للسامية، كما قام اللاعب بحذف المنشور بعد دقائق من مشاركته.
هذه الإجراءت التعسّفية، بمستويات جزائية مختلفة، نالت من كل الرياضيين الذين أعلنوا وقوفهم إلى جانب حق الفلسطينيين في التحرر من قبضة الاحتلال ونظامه العنصري.
حتى مجرد التضامن مع المدنيين الأبرياء ضحية آلة القتل الإسرائيلية، لا يمر مرور الكرام في أغلب الأحيان.
السبّاح المصري عبدالرحمن سامح( شبكات التواصل)
في رياضة السباحة مثلًا، قام الاتحاد الدولي للسباحة بحذف كل صور السبّاح المصري عبدالرحمن سامح من حساباته في مواقع التواصل، بعد أن عبّر اللاعب عن تضامنه مع الضحايا المدنيين الفلسطينيين، عقب إحرازه فضّية كأس العالم سباق ال-50 مترًا، إذ قال اللاعب: "أنا بصراحة لا أعرف إذا كان ينبغي عليّ أن أحتفل بهذا أم لا، إخوتي وأخواتي يُقتلون في فلسطين الآن".
بينما على الجانب الآخر، لم يتعرض أي رياضي من الذين أعلنوا تضامنهم مع إسرائيل لأية عقوبة أو مساءلة.
والأمثلة كثيرة على ازدواجية المعايير، بحسب بوصلة المصالح والتوجهات السياسية لأصحاب النفوذ، دون أي اعتبار للقيم والمبادئ المزمع اتخاذها كمرجعية في تسيير المنافسات الرياضية.