أيًا كانت نتائج المواجهات الأخيرة، والتي ربما لن تشذ عن سابقاتها، في ظل ميزان القوى دائم الاختلال لصالح العدو الإسرائيلي، بوجود نظام عالمي غير عادل، مند حرب 1948 وحتى حروب غزة العديدة، مرورًا باقتلاع منظمة التحرير "خيمتنا الأخيرة" من بيروت، وما تلاها من انتفاضات ومواجهات...
أيًا كانت النتائج، فلن تغير شيئًا من حقيقة كون إسرائيل كيانًا غاصبًا مفتعلًا جاء زرعه في منطقتنا كنوع من الرشوة السياسية، إن جاز التعبير، أو قل صفقة ترضية بين أطراف النفوذ الدولي الجديد الذي تمخضت عنه الحرب العالمية الثانية بانتصار الحلفاء على النازية الهتلرية. ولما كان واضحًا أن لا شيء يجمع أولئك الحلفاء، إلا العداء لألمانيا الهتلرية، فقد حملت أطراف النفوذ الجديد معها، ملامح انقسام، لم يطل اختماره كثيرًا حتى استوى على عرش معسكرين، أحدهما يميل نحو تبادل ووراثة النظام الاستعماري، مع تجديده بصبغة عصرية. ولكن كان
من غير الممكن إتمام الوراثة بهدوء في خضم صعود حركة تحرر الشعوب، وتوقع اكتسابها زخمًا جديدًا بفضل نتائج الحرب العالمية الثانية، وما كان من سبيل لذلك إلا من خلال صفقة ترضية مع الطرف الآخر تعطي المشروعية الدولية، لمشروع استعماري ظلت زعيمة النظام الاستعماري العالمي بريطانيا، تطبخه على نار هادئة، منذ ما قبل الحرب العالمي الأولى، بل ربما منذ المحاولات التوحيدية لوالي مصر محمد علي باشا، في بداية القرن الـ19. وهنا جاء القرار المجحف بتقسيم فلسطين لإقامة دولة يهودية، طبقًا لوعد بلفور، تشكل وريثًا للاستعمار، ومخلبًا له في منطقة تتوسط قارتي آسيا وإفريقيا، والأهم أنها تفصل ببن جناحي الوطن العربي. ومر الأمر بسهولة، كون المنظمة الدولية نفسها كانت هي الأخرى صفقة توافق بين طرفي النفوذ الجديد لتنظيم قواعد الاشتباك المستقبلي بينهما.
من هنا نشأت بؤرة خطيرة للتوتر العالمي، ونشأ ما سمي في الفكر السياسي، الصراع العربي الإسرائيلي الذي ألقى بظلاله على كل الساحات الدولية ومحافلها أكثر من أية مسألة أخرى من مسائل النزاعات الدولية. للأسف، لم يتقن العرب إدارة صراعهم مع عدوهم، خصوصًا بعد مرحلة عبدالناصر الذي تلقى مشروعه الوحدوي والنهضوي ضربة ساحقة في نكسة يونيو 1967، وفي نفس الوقت اعتمد الفلسطينيون على العرب كلية، فأهملوا دورهم الأساسي كأصحاب الحق المباشرين.
وعلى أية حال، فقد دخل الصراع العربي الإسرائيلي منعطفًا مغايرًا بعد حرب أكتوبر 1973، وهي باختصار، مرحلة تميزت من ناحية معينة بتراجع دور الأنظمة العربية مقابل تقدم الدور الفلسطيني والقرار الفلسطيني. إلا أن هذا التقدم الفلسطيني، من ناحية أخرى، لم يكن للأسف بمأمن من تأثير سلبيات التراجع العربي الذي جرى في ظل تزايد اختلال التوازن الدولي لصالح الطرف الإسرائيلي في الصراع.
ويعرف الجميع ما حدث من أحداث وانتفاضات وحروب، وما نتج عنها من تفاقم في الأزمة العامة للقضية، من حيث إنه كلما ازدادت حدة الظلم، ازدادت كثافة الظلال التي تلقيها أزمة القضية الفلسطينية على استقرار العالم وأمنه.
وإجمالًا، وعودًا على بدء، فإنه، وبصرف النظر عن نتيجة هذه المواجهات الجارية بين فلسطين وإسرائيل، فإنها لا يمكن إلا أن تؤكد المؤكد، والمتمثل في ما يلي:
أولًا: أن إسرائيل كيان مفتعل مزروع في غير تربته، وأن استمراره في عنجهية التهويد والتشريد وتوسيع الاستيطان، لهو أمر يهدد بتفجير العالم كله، وليس المنطقة وحدها.
ثانيًا: عدالة القضية الفلسطينية ومشروعيتها تتأكد أكثر بعد كل أزمة أيًا كانت النتيجة، فيما تتعمق أزمة الضمير العالمي، وتثير فساد منظمته الدولية، بل عدم جدواها سواء في هذا الصراع أو في كل معطيات الوضع الدولي.
ثالثًا: حتى التطبيع الذي قبل به العرب في مؤتمر مدريد، يصبح شيئًا فشيئًا أمرًا غير مقبول، لأنه، وإن كان التطبيع لغة جعل الأشياء طبيعية، فقد كان ما يحدو العرب من أمل يومذاك (طبعًا قبل مسخرة تطبيع صفقة القرن الجوفاء)، أن يطبع الطارئ نفسه مع الثابت، لا العكس المنافي لمنطق الأشياء. لكن زيادة اختلال التوازن الدولي مع انحدار الضعف العربي إلى أسفل سافلين، جعل ذلك العكس يكون في صدارة التداولات والبحث على حساب العدل والمنطق، وساق الأمور إلى حد اعتساف الثابت وإرغامه على الخضوع التام للطارئ.
ختامًا، فلعلي لن أكون مغاليًا في القول بأن تفاقم أزمة هذه القضية الكبرى، ربما لن يكون معها مستحيلًا في وقت ما أن يأتي يوم يكون فيه أدنى تنازل عربي في التطبيع، وبناء على كل ما فشلت فيه الأمم المتحدة والمجتمع الدولي برمته طوال 75 عامًا، هو: الرجوع لقرار التقسيم الأول عام 1947، ومعه بالطبع قرار عودة اللاجئين، بما يعيد لمفهوم التطبيع معناه في القانون الدولي، وليس في صفقات القسر والابتزاز.
لعل هذا أبرز ما ينذر به استمرار الصلف والتعنت الإسرائيليين اللذين فاقا كل حد!