حركة المعارضة وتعارضاتها الداخلية:
وفي مثل هذه الأوضاع المتردية الصعبة التي كانت عبًا ثقيلاَ على أوسع قطاعات المجتمع على مختلف الصعد، بدأت أولى تباشير المعارضة لحكم الأئمة منذ عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، والتي يمكن ردها إلى جانب ما أسهبنا في الحديث عنه -أزمة علاقات الإنتاج، أزمة علاقات الحكم، أزمة الطبقة/ "الإمامة"- إلى عوامل أخرى هامة أسهمت في نشوء وظهور حركة المعارضة في صورتيها أو شكليها: المعارضة الثقافية الجنينية، المحلوي، والدعيس، ومجلة الحكمة، و"البريد الأدبي"،
ممثلًا في رموز الاستنارة الفكرية الأدبية الثقافية، والمعارضة المنظمة بعد ذلك، وهي العوامل التي يمكن إرجاعها إلى نتائج الحرب اليمنية السعودية التي انتهت بهزيمة الإمام يحيى عام 1934م، وتوقيع اتفاقية الطائف والتنازل المؤقت عن الأرض اليمنية، وكذا هزيمة الإمام وتساهله تجاه السيطرة الاستعمارية البريطانية على جنوب البلاد، التي توجت بعقد اتفاقية فبراير 1934م وتسليمهم حكم المحميات للاستعمار البريطاني لمدة أربعين عامًا، كشفت هذه الحرب(1)، والتطورات اللاحقة، عن عورات وسوءات النظام المتوكلي، على أن أبشع نتائج الإمامة هو قتلها الإحساس بوطأة الوجود الاستعماري في جنوب الوطن، وفي نفوس أبناء الشمال الذين قاسوا منه ألوانًا من العذاب ترجع إلى عهود خلت في تاريخ البشرية"(2). ويرى البعض أن النص منذ عام 1926م على لفظ جلالة الملك، وتدبير عملية مبايعة السيف أحمد وليًا للعهد بعد ذلك، مخالفًا بذلك أصول وقواعد المذهب الزيدي، أمر ساعد في تأليب كبار الأسر الدائرة في فلك الحكم والطامعة فيه أو الطامحة إليه ضد نظام الحكم الحميدي.
بل إن هناك من قد يرى أن البدايات الأولى المبكرة لجذور نشأة المعارضة لبيت حميد الدين، إنما بدأت مع اتفاقية أو "صلح دعان 1911م"، الذي اختار الإمام يحيى أن يكون فيه فقط، إمامًا للطائفة الزيدية، وتحت الحكم العثماني.
إن جميع المقدمات الموضوعية التاريخية السالفة شكلت الخلفية المادية، والسياسية العامة لنشوء فكر المعارضة وحركة المعارضة الإصلاحية، التي تمثل شكلها الأولي ذو الطابع الثقافي -المعرفي في العودة إلى الإسلام النقي، وبالدعوة إلى الاستنارة العقلية والتذكير بماضي العرب الإسلامي المشرق، والذي تجلى في البدء في جماعة الحكمة اليمانية (38-1941م)، التي رأس تحريرها الأستاذ الشهيد أحمد عبدالوهاب الوريث.. احتوت في مجموعها على مقالات في الإصلاح، وسلسلة مقالات عن الأدب العربي وحظ اليمن منه، ونقد الشعر، والقصة والأخلاق والكتابة النثرية، وفي اللغة وعلم التربية، وقضايا الاقتصاد والزراعة، وجميعها تصب في قضية التنوير والإصلاح، والإشارة إلى ما أصاب الأمة من فساد، واستبداد وانحطاط. ويرى الضباط الأحرار أن ما يجعل لمجلة الحكمة اليمانية مكانًا خاصًا في تاريخ الحركة الفكرية الحديثة، طابع الشمول فيها، ففيها بداية الدعوة الإصلاحية(3) التي هيأت أرضية قيام ووجود المعارضة كحركة فكرية، سياسية منظمة، فهي اقتصرت على النقد الأدبي الفكري باتجاه الاستنارة العقلية والفكرية، وفضيلتها التاريخية الأولى هي أنها لعبت (مجلة الحكمة) دور المجلة والصحيفة والمنشور، باعتبارها كلها وسائل مدنية حديثة كانت مجموعة في الحكمة أو كما يقولون "الحكمة في واحدة"، وفي أصعب الظروف عكست وجه العصر الثقافي -السياسي، لأنه كان من الصعب وجود مجلة مستقلة يمكنها أن تلعب نفس الدور -على محدودية أثره- وهو الذي لعبته مجلة الحكمة، ومن نفس الأرضية الفكرية -العقيدية الدينية- ومن خلال الفهم العميق للدين الإسلامي، وبقوة حجج منطقية وعقلية غاية في الحصافة، والرصانة في وجه المثقفين "السلفيين" السلطويين -المشرعين الأيديولوجيين للحكم- حيث أثيرت من خلالها جملة من الإشكالات المعرفية والتاريخية، والتنويرية والسياسية والأخلاقية والإصلاحية الدينية، تحمل في البعض منها فهمًا ماديًا اجتماعيًا للتاريخ، ولقضية العلم والإصلاح من واقع الفكر الديني نفسه.
ويمكن القول إن دور الرعيل الأول من المثقفين ممثلًا في دور مجلة الحكمة اليمانية، تجلى في ثلاثة أبعاد:
أولًا: نقدي في حدود التفكير الإصلاحي التنويري -ولو بصورة مبسطة أولية- على غرار ممثلي النهضة العربية المعاصرة، الذين تأثر بهم الرواد المتنورون اليمنيون، أمثال: جمال الدين الأفغاني، والكواكبي، ومحمد عبده، ورشيد رضا، وعلي عبدالرازق في كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، وطه حسين، وشوقي، وحافظ، وحتى فيلسوف التاريخ وعالم الاجتماع الأول ابن خلدون، في مقدمته، كما هو واضح من قراءة بعض مقالات مجلة الحكمة.
ثانيًا: إسهامها في إحداث رجرجة فوقية -ولو غير منظورة في حينه- في بنية الثقافة الإقطاعية المتحجرة الجامدة.. وإن لم تطمح ولم يكن بمقدورها تجاوز البنية الأيديولوجية والذهنية السائدة بصورة جذرية/ راديكالية عبر النقد بسلاح المعرفة والفكر البديل، على أن دورها التجديدي في الإصلاح والاستنارة العقلية، والتحديث السياسي، لا يستطيع أحد إنكاره.
ثالثًا: إنها كانت الأرضية الفكرية والثقافية التي انتصبت على شرطها قامة المعارضة، ممثلة في حركة الأحرار المستنيرين اليمنيين "حزب الأحرار". وتشير الباحثة جلوبوفسكايا إلى أن فئة المثقفين قبل الثورة كانوا حجر الأساس(4) في حركة المعارضة اليمنية ضد النظام الاستبدادي وطغمة الطبقة المستبدة باسم المذهب الزيدي كغطاء أيديولوجي، وفكرة الهاشمية السياسية، كبعد روحي.
لقد أفرزت مجمل تلك الظروف حركة المعارضة اليمنية التي ضمت -كما سبق الذكر- العناصر المتنورة من أبناء الأسر المتوسطة والميسورة وأبناء الأسر الإقطاعية أو شبه الإقطاعية، المناوئة لحكم أسرة حميد الدين والأسر الطامحة إلى الحكم، كما ضمت عناصر واسعة من التجار اليمنيين المهاجرين خارج الوطن(5)، الذين شكلوا "حزب الأحرار اليمنيين 1944م"،
وكانوا وراء تشكيل "الجمعية اليمنية الكبرى 1946م"، ولم تولد حركة المعارضة ممثلة في حركة الأحرار اليمنيين فجأة، بل هي امتداد متطور نوعي لتلك الأشكال البدائية التي سادت بعض مناطق البلاد، وكانت تتويجًا لتلك التكوينات الأولى المحلية -القروية -المناطقية، التي ظهرت في بعض مناطق البلاد، وهي كذلك امتداد لتجمعات أدبية وثقافية وتعليمية، ففي شمال البلاد -كما في جنوب البلاد- ظهرت العديد من التكوينات التي لم تتخذ طابع حركة سياسية تهدف إلى الإصلاح السياسي الاجتماعي، سوى في فترة لاحقة، حيث نشأت في شمال البلاد -كما يشير القاضي الشماحي- هيئة النضال (35-1936م) التي يؤكد السياق السياسي الاجتماعي التاريخي على زمن ظهورها، إلا أنها ليست أكثر من حالة، أو ظاهرة أولية محلية مناطقية بدائية، ظهرت في بعض الألوية، ولا ترتقي حتى إلى ما يمكن تسميته جمعية سياسية أولية، وهي جمعية أو "هيئة"، تفتقر -بالضرورة التاريخية- إلى مفهوم التنظيم/ الحزب، أو الجمعية السياسية، وإلى شروط العضوية المنظمة، ويمكن وصفها كتجمع بعض العناصر المثقفة ذوي أفكار متشابهة، ويتبنون مواقف ونظرات أدبية ثقافية معينة مشتركة تتعلق بالرغبة في إدخال إصلاحات تتمثل -كما يرى الكاتب لي دوجلاس- في بناء طرق ومدارس ومستشفيات، إدارة حديثة في اليمن. وهذا القول ممكن ينطبق على كل الأشكال الأولى ممثلًا في المدارس والنوادي(6) والجمعيات بما فيها هيئة النضال؛ أو جمعية الإصلاح في مدينة إب، ونادي الإصلاح، والمدرسة الأهلية (34-1935م) اللتان أنشئتا في منطقة الحجرية، وأسسهما الأستاذ عبدالله علي الحكيمي، والأستاذ أحمد محمد نعمان، ممثل الوجه الفكري/ السياسي للبرجوازية التجارية الوطنية الناشئة -ذات الأصول المشيخية الزراعية- في حركة المعارضة، في قرية ذبحان، وهي المدرسة الوحيدة -إلى جانب مدرسة عبدالله الحكيمي في الأحكوم- القريبتان من مفهوم المدرسة الحديثة، وامتداد -أو انعكاس- لشكل ومضمون المدارس التي كانت قائمة في المستعمرة عدن، وهي تدار بطريقة أقرب ما يشبه بالحذر والتوجس، والخوف من بطش الإمامة وكأنها تدار في "السر"، من شدة الخوف، يتلقى الدارسون فيها دروسًا في الرياضيات والعلوم والجغرافيا والتاريخ، خلافًا للتعليم الديني التقليدي الذي ساد كتاتيب "مدارس اللغة وتحفيظ القرآن". ويرى لي دوجلاس أن مؤيدي نادي الإصلاح والمدرسة الأهلية من "المزارعين والعمال"(7)، ويعتقد أن هذا الفارق في التكوين الاجتماعي للعناصر الأولى في حركة الأحرار اليمنيين، هو توضيح هام للتطورات السياسية اللاحقة في صفوف الحركة(8)، وانقساماتها التطورية اللاحقة في صورة "الاتحاد اليمني"، بشقيه في عدن، وفي مصر (القاهرة).
وتعتبر الجمعيات والمدارس والنوادي العامة، وكذا ما تبقى من منشورات أو مراسلات ما يسمى "البريد الأدبي"، الضمير المفزع والمكبوت للمثقفين اليمنيين المستنيرين، الذين حاولوا قراءة الواقع بصورة إصلاحية نقدية من قلب فكر البنية الأيديولوجية السائدة "الإمامية".. والذين بدأ العديد منهم يتلمس طريقه وإن بصورة تجريبية وعفوية نحو الإصلاح.
إنها جميعًا أشكال أولى للاحتجاج الثقافي/ الاجتماعي من منظور الرؤية والموقف الإصلاحي تجاه واقع الإمامة الثيوقراطي الاستبدادي الشرقي في صورة الإمامة المتوكلية الحميدية.
ورغم الاختلافات وعدم الاتفاق في تحديد الإطار الزمني لظهور العديد من هذه التكوينات -الأولى ذات الطابع المناطقي- لدى الباحثين، إلا أن ما يشبه الإجماع النسبي يذهب مع التأطير الزمني على النحو التالي تقريبيًا: نادي الإصلاح والمدرسة الأهلية (34-1935م)، هيئة النضال (35-1936م) صنعاء، جمعية الإصلاح في إب في فترة 35-36م، "الكتيبة الأولى"، مع إدراك خصوصياتها عن سابقاتها (39-1940م).
ويعتبر حزب الأحرار 1944م الشكل الأولي الجنيني لنشاط الأحرار السياسي/ الحزبي على أساس من رؤية هيكلية وتنظيمية شبه معاصرة، وتشكل من العناصر التي فرت -هريت- إلى الشطر الجنوبي من الوطن في العام 1944م، وما بعده.
وفي عدن تصاعد نضال حركة المعارضة السياسية بصفتها تنظيمًا سياسيًا علنيًا، وكان الأستاذ عبدالله علي الحكيمي من أبرز مؤسسيه -من الخارج- إلى جانب الزبيري والنعمان، حيث جمع الحكيمي بين دور الداعم والحاضن لرموز الحركة، إلى جانب دوره كمثقف وسياسي بارز ورجل دين مستنير في قلب الحركة من لحظة قيامها وبعد ذلك، إذ تعتبر الجمعية اليمنية الكبرى 1946م، واحدًا من أشكال التعبير السياسي لحركة المعارضة السياسية عن نفسها في إطارها التاريخي، والتي كانت عبارة عن حالة انتقالية أو حلقة وسط بين التجمع الفكري الثقافي، وبين صيغة التنظيم السياسي ومفهوم الحزب بالمعنى المعاصر.. أي مرحلة انتقالية تشكل معنى ودلالات التنظيم السياسي الحزبي وفق الشروط والخصوصيات الوطنية اليمنية في ذلك الحين -في ظل الحكم الاستعماري- التي أفرزت ظاهرة الجمعية/ الحزب، أو المعنى الجنيني الأولي لمفهوم الحزب.
وقد ضم "الحزب" أو التنظيم قوى اجتماعية متباينة وغير متجانسة -كما أشرنا- كان "التجار اليمنيون في عدن"، وفي مختلف البلدان التي يوجد فيها مهاجرون يمنيون -بصورة خاصة من التجار- أصبحوا قواعد هذا الحزب حتى بدون انتماء انتظامي -حسب اللوائح المتبعة- والممولين لنشاطه السياسي والدعائي"(9).
إن التكوين الطبقي -القبلي- والمذهبي المعقد لاتجاهات قوى حركة الأحرار اليمنيين، الذي تمثل في تلك التركيبة التي ضمت العناصر، من الفئات المتوسطة والميسورة، إلى الأسماء أو العناصر شبه الإقطاعية من الأسرة الحاكمة مباشرة، بعض سيوف الإسلام (سيف الحق إبراهيم)، إلى رموز هي طبقيًا تقف في قمة الهرم شبه الإقطاعي "الإمامي" وطامحة للسلطة -بيت الوزير وغيرهم- ومشايخ القبائل الكبيرة التي اندمجت بعض رموزها بـ"الدولة/ السلطة"، من خلال توظيف الإمامة الزيدية للقبيلة في حروبها الخاصة، إلى ممثلي البرجوازية التجارية الناشئة المتضررة من السياسة الاقتصادية للإمام يحيى ونجله أحمد(10)، والفئات الاجتماعية الفلاحية الزراعية في المناطق المستقرة من أبناء المناطق الجنوبية والوسطى والتهائم. إن ذلك التكوين غير المتجانس اقتصاديًا واجتماعيًا وفكريًا، إلى جانب التركيب الجيوفيزيقي المعقد للمناطق المحيطة بالعاصمة صنعاء (التضاريس الجغرافية الصعبة والقبل السبع)، فضلًا عن تأثيرات الذهنية السيكولوجية القبلية، والطائفية، على مجمل بنية الحركة، كانعكاس لبنية الواقع الاجتماعي، هو ما يفسر تلك التباينات التي برزت في إطارها -أي إطار حركة المعارضة- تجاه جملة من المواقف والأحداث والتطورات قبل الانقلاب، وخلال انقلاب 48م وما بعده، وهي التي تحتاج إلى قراءة بحثية مستقلة عنها وحولها، ومنها على سبيل المثال، الموقف من اغتيال الإمام يحيى، الذي عارضه الأستاذ أحمد نعمان.
إن كل تلك المقدمات الذاتية والموضوعية هي التي تفسر ذلك التقوقع والجمود الذي أصاب الحركة بعد ذلك، ويكشف سر تلك الانقسامات المتتالية في البنية التنظيمية السياسية للحركة لاحقًا، وبخاصة في ظل قيادة الاتحاد اليمني في النصف الثاني من الخمسينيات.
فالاتجاهات المختلفة المكونة للحركة كانت تعيش منذ البدء حالة من التوجس، والخوف تجاه بعضها البعض -لسنا هنا في مجال بحث ودراسة ذلك- ونلمس ذلك في قول الشهيد الشاعر محمد محمود الزبيري في كتابه "مأساة واق الواق"، على لسان عبدالله بن أحمد الوزير، عندما قال: "إنني منذ فجر حركتنا عام 1948م، انفجرت الشكوك في نفسي ضد الأحرار جميعًا، وتوجست خيفة حتى من ابن عمي الشهيد علي بن عبدالله الوزير، وأبلغني أنهم كانوا ينوون إزاحتي، ووجدت نفسي بين نارين؛ نار العدو ونار الصديق"(11). كما يقول الشهيد الزبيري بعد ذلك بفترة زمنية عن عموم حركة الأحرار وطبيعتهم التكوينية: "كان إحساسنا المزدوج المضطرب بين العالم القديم والجديد، وكانت حيرتنا بين طقوس العبودية التي يعيشها جيلنا يومئذ، وبين مُثُل العصر الحديث الذي تسللنا إليه مبهورين ذاهلين"(12)، وفي الواقع لم يتسلل إلى هذا العالم الجديد إلا المثقفون ذوو العمق الإصلاحي والتجديدي "التنويري"، وأفكارهم الدستورية التي -رغم فشل حركة 1948م- خلخلت البنية الأيديولوجية للحكم الإمامي.
إن هذا الموقف والرؤية بمقدار ما يشيران إلى الوضع الانتقالي المعقد فكريًا واجتماعيًا وسيكولوجيًا ضمن إيقاع حركة العصر الرأسمالي العالمي، حتى مع ما يقوله الأستاذ الشهيد الزبيري حول اكتمال "اليقين الثوري"، بعد ذلك، فإن هذا القول يشير كذلك إلى أي مدى كان اضطراب الأحرار اليمنيين وحيرتهم، وازدواج رؤيتهم بين فكرة الحركة والاندفاع بقوة إلى الأمام باتجاه العصر، والمعارضة والإصلاح السياسي، وبين نزوع المحافظة على الراهن، وهو ما لازم مسيرة حركة الأحرار منذ البدء حتى قيام ثورة 26 سبتمبر، وهو -في تقديري- نتيجة حتمية لتناقض الأهداف النظرية مع نشاطهم العملي(13) الذي يصطدم بواقع الإمامة شديد التخلف (الجمود والركود)، حيث تسبق الأهداف النظرية -الفكرية السياسية- القدرة على التعاطي العملي والسياسي معها حتى في حدودها الدنيا في الداخل الإمامي، بسبب التخلف الاقتصادي الاجتماعي التاريخي، والعزلة عن الداخل بعضه البعض، ومع الخارج، وانسداد آفاق الإصلاح والتجديد على أي مستوى كان. إن حركة المعارضة السياسية -الدستوريين اليمنيين- هي في تقديري البروفة الأولى لكسر جدار التخلف التاريخي السميك، وأجد نفسي هنا لا أتفق مع ما يذهب إليه د. محمد علي الشهاري في قسوته النقدية على حركة الأحرار، وتحديدًا في تقييمه النظري غير الواقعي الذي يرى فيه أن حركة الأحرار، إنما تأتي في إطار عملية "توفيقية لإيجاد صيغة سياسية منسجمة، ومتطابقة مع الحقيقة الاقتصادية الاجتماعية والبنية الطبقية القائمة، بحيث تتمكن في ظلها الطبقة الإقطاعية كلها من الاشتراك المباشر في توجيه سياسة الحكم، بما يتفق مع مصالحها العامة السياسية الاستراتيجية"(14)، وكأن كل مهمة الأحرار اليمنيين إنما كانت محصورة في إنقاذ حكم الإمامة، متجاهلًا بذلك قراءة المكانة الاستثنائية التاريخية لدور الأحرار، وهو حكم أيديولوجي "حزبي"، مسبق لا علاقة له بخصوصيات الحالة اليمنية. إن المثقفين المستنيرين -الدستوريين- قبل الثورة، على قلتهم، أي الرعيل الأول من المثقفين، كانوا حجر الأساس في حركة المعارضة اليمنية.
إن ازدياد فرص التعليم المختلفة، والبعثات العسكرية، وفتح المدارس الطبية والعسكرية المحدودة جدًا، مع أنها وسعت لاحقًا القاعدة الاجتماعية لحركة المثقفين المستنيرين، ولحركة المعارضة بالضرورة، إلا أن معظم من تخرجوا من هذه المدارس العسكرية وغيرها وضعوا في غير أماكنهم، وبعيدًا عن تخصصاتهم التي درسوها.
ويرى د. حمود العودي أنه "وعلى الرغم من أهمية الأثر السياسي الاجتماعي الذي ترتب على هذه البعثات، إلا أن حجمها ظل محدودًا للغاية، ولا يشكل ظاهرة ثقافية وتعليمية وفكرية قائمة بذاتها في المجتمع اليمني ككل، إلا في مرحلة ما بعد الثورة"(15)، وأنا هنا أتفق كلية مع ما ذهب إليه الصديق د. حمود العودي.
ويمكننا هنا معاينة الخريطة الثقافية لصورة المثقفين في اليمن الإمامي على مستويين من المثقفين: مثقفين تقليديين أو َمُشرّعين أيديولوجيين للحكم، يعملون على تبريره والمحافظة عليه وتخليده روحيًا، وسيادته كبناء فوقي -أيديولوجي- بصورة مطلقة، ومثقفين حملوا مشعل فكر الفئات والعناصر المستنيرة من أبناء الفئات المتوسطة، ومن أبناء شبه الإقطاع المتضررين من هيمنة واحتكار طغمة العائلة الحاكمة "المتوكلية الحميدية"، ولصالح تحالف سياسي، اجتماعي طبقي أوسع، وإلى جانبهم كذلك أبناء بعض "شيوخ الأرض" -إذا استخدمنا مصطلح د. أحمد الصايدي- وهم مثقفون شعروا بحقيقة أزمة نظام الحكم السياسي الإمامي، مع بقاء ذلك الشعور والوعي منحصرًا في نطاق أزمة الحكم -أي في البنية الفوقية- لا في أزمة الطبقة والنظام الاقتصادي/ الاجتماعي ككل. وهو في تقديري أمر طبيعي ومنطقي، لأننا لا نستطيع أن نحمل "حركة الأحرار" وفكرها ودورها أكثر مما يحتمل.
والقراءة التاريخية تفرض على الباحث الموضوعي أن يقرأ حركة المعارضة، ودورها في سياقها الاجتماعي التاريخي، دونما أي إسقاطات أيديولوجية إرادوية.
إن ضيق الأفق الفكري والسياسي الطبقي التاريخي للحكم الإمامي/ الحميدي/ المتوكلي، وانحسار قاعدته الاجتماعية، واشتداد أزمته البنيوية التاريخية العميقة (تعارضاته الذاتية العميقة في صورة خروج بعض سيوف الإسلام إلى صف المعارضة، وفي صورة انقلاب 1955م، وإعدام الإمام أحمد لأخويه عبدالله والعباس)، فضلًا عن حصر السلطة أو علاقات الحكم في شكله الاستبدادي الآسيوي الشرقي، في أضيق نطاق للحكم ممكن تصوره.. مما قاد إلى خلق أشكال مختلفة من المعارضة كلها ذات طابع فوقي، بداية من الاحتجاجات في صورة العرائض السلمية التي تمثلت في رفع العديد من المذكرات ورسائل النصح الديني والاحتجاج من رموز الطبقة، حتى أبناء الإمام أنفسهم (سيف الإسلام علي، وغيره)، وهو ما يفسر أن اتساع القاعدة الاجتماعية السياسية لحركة المعارضة، إنما كان سببه ضيق الأفق الفكري والسياسي للحكم الإمامي، اجتماعيًا وسياسيًا ووصول أزمة الحكم إلى ذروتها.
وهنا أجد نفسي متفقًا إلى حد بعيد مع وجهة النظر السالفة للضباط الأحرار، وبخاصة نظرتهم لانقلاب 1948م، كانقلاب وللأفق السياسي التاريخي المسدود لحركة المعارضة على أساس من طبيعتها، مهامها، قواها المحركة، وخلفيتها الاجتماعية الفكرية، والعقل السياسي الإصلاحي العام الذي كان يقف خلف الانقلاب على تناقضاته الواقعية في الممارسة.
الهوامش:
1. مع اقتناعنا أن قضية التوحيد السياسي الوطني في التاريخ المعاصر، لا يمكن أن تحققها عقلية إقطاعية قبلية -طائفية/ سلالية- غير توحيدية، وذات أفق وطني ضيق، لأن مهمة في مستوى توحيد البلاد اليمنية مهمة أكبر من أن يستوعبها الأفق الأيديولوجي الطبقي/ التاريخي الإقطاعي "الإمامي"، وهو الحكم الذي شدد على حكم العائلة والأسرة، بل والفرد مطلق الصلاحية والشمول، بالحق الإلهي.. وفي نظام حكم يقوم على تفتيت "الوحدة الوطنية" باسم المذهب، والممارسة الطائفية، السلالية، ومن خلال استخدام الدين والمذهب الزيدي الهادوي، في صيرورته السلطوية البشعة غطاءً لحكمه واستمرار سيطرته، ولا نستطيع نحن اللحظة، أن نحاكم الإمامة التاريخية بمنطق اليوم في ما يتعلق بقضية الوحدة اليمنية، إذا كنا نحن اليوم وبعد خمسة عقود من حرب 1934م، مانزال نحاول أن نكتشف الطرق والمداخل العملية الوطنية لاستكمال مشروع الوحدة اليمنية والتوحيد الوطني الفعلي كمشروع سياسي وطني اجتماعي تاريخي.
2. د. أبو بكر السقاف كتاب "دراسات أدبية وفكرية"، كتاب الكلمة، دار العودة، بيروت، ص52. وانظر كذلك عبدالله باذيب كتاب "كتابات مختارة"، الجزء الثاني، ص126، حيث يرى أن "هموم قضية الأحرار الخاصة طغت على كل تفكيرهم، وكان إحساسهم بخطر الاستعمار ضعيفًا".
3. "أسرار ووثائق الثورة اليمنية"، إعداد: لجنة من الضباط الأحرار، 1978م، ص300.
4. يبدو من خلال القراءة التاريخية -الأولية- أن الجميع يؤكد على أن محمد المحلوي هو واحد من الرواد المعاصرين الذين استوعبوا الأفكار والقيم المعاصرة التي جاءت مع رواد النهضة العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين.. أي أن نشاط المحلوي انحصر أو تحدد أكثر في البعد التنويري وتجديد الفكر الديني (في إطاره الشفاهي والسلوكي)، أي أننا لا نجد أثرًا مكتوبًا يشير إلى إسهامات المحلوي يمكن الاعتماد عليها وتثبيتها هنا كنصوص. باستثناء ما كتبه الأستاذ محمد الفسيل من رأي في كتابه "كيف نفهم القضية"، عن فكر ودور المحلوي.
وتميز المطاع تحديدًا بالقدرة على القيادة السياسية التنظيمية.. فالجميع يكاد يتفق على ذلك، وبخاصة الأستاذ محمد الربيع، القاضي الشماحي، الفسيل، السياغي، أحمد المروني، راجع كتاب "ثورة 48 المسير والميلاد". والشيء الأكيد أن هناك فارقًا بين الحركة في مستواها الأدبي الثقافي والتنويري العام كما تمثل في مجلة الحكمة والبريد الأدبي، وبين مسألة البدء بالمعارضة السياسية بالمفهوم الحزبي، وهو ما نجد الكثير يمارس معها نوعًا من الخلط، وعدم التحديد والتمييز بين الحالتين، فالمرحلة الأولى من التنوير الأدبي/ الفكري -على محدوديتها- لم ترتبط بمشروع سياسي -حزبي- للإصلاح أو التغيير، وإن كان العديد من الرموز في المرحلة الأولى الثقافية والتنويرية موجودين ومؤسسين للمرحلة الثانية من المعارضة السياسية الحزبية ("حزب الأحرار"، و"الجمعية اليمانية الكبرى"). ويشير البعض بحق إلى أن هناك فرقًا بين الهمس بالمعارضة الفكرية في نشاط المحلوي وجماعة مجلة الحكمة من خلال التبشير بالأفكار المستنيرة الإصلاحية، وترديدها في المقايل (مجالس القات) من جهة، وبين تكوين تنظيم حزبي معارض، ويورد الأستاذ القاضي الشماحي رواية بحاجة إلى تدقيق أن هناك في حركة الإصلاح تيارين -دون تحديد الفترة الزمنية التاريخية لذلك القول- تيار يدعو إلى نشر الزيدية وتجديدها وإصلاح الإمامة، وآخر يدعو لتجاوزها بالمعارضة السياسية ممثلًا في هيئة النضال، وهي الرواية التي بحاجة إلى إثبات، وتدقيق، وكذا التدقيق في رواية وجود "هيئة النضال" من عدمه. ويشير د. أحمد الصايدي في كتابه حول حركة المعارضة، إلى ما سمَّاه المعارضة كموقف والمعارضة كحركة، حيث يرى في المعارضة كموقف هو ذلك الموقف الواسع العام الذي تلتقي عنده كل القوى والأبعاد الدينية والتمردات القبلية، والانتفاضات الشعبية، والمعارضة كحركة وهي التي يراها د. الصايدي -حسب حديثه الشفهي معي- أنها يقصد بها المعارضة كحركة سياسية حزبية منظمة ممثلة في الجمعية اليمانية الكبرى 46م. وفي هذا السياق يرى د. سيد مصطفى سالم في كتابه مجلة الحكمة اليمانية، أن المنورين الأوائل قبل وجود الإطار التنظيمي السياسي "يلتقون بدافع وحدة الفكر أكثر منه بدافع وحدة التنظيم"، ص64.
5. دراسات في تاريخ الثورة اليمنية، مؤسسة 14 أكتوبر، 1975م، ص26.
6. لي دوجلاس، مجلة الحكمة اليمانية الجديدة.
7. يشير بعض الباحثين خلال حديثهم عن حركة المعارضة نشأتها وتطورها، إلى وجود تيارين في إطارها كما هو عند البعض، ولكل منهم تصوره لمعنى ودلالات التيارين، على أن د. أبو بكر السقاف حاول أن يتلمس ويناقش الأساس المادي الاجتماعي الثقافي التاريخي لذلك.. وهنا تبدأ محاولة جدية لقراءة سياسية فكرية وتحليلية اجتماعية تاريخية لقوى المعارضة، حيث رموز المعارضة التي يعود أصولها إلى الزراعة والإنتاج الزراعي التي يسميها د. أحمد الصايدي شيوخ الأرض في مقابل شيوخ القبائل، حيث العلاقات المكونة لها تقوم على أساس عصبة "القرية" أو "الجهة"، من أبناء المناطق الجنوبية والوسطى والتهائم، الذين ينتمون للمذهب الشافعي، والذين شكلوا رافدًا أساسيًا لحركة المعارضة، أهم دعواتهم ضد الإمامة، حق المواطنة المتساوية.. وهناك في الوقت نفسه رموز المعارضة التي يعود وجودها ومنشؤها إلى المناطق الشمالية ذات التركيب الجيوفيزيقي المعقد الذي يقوم على وحدة القبيلة، والدولة في تاريخ الإمامة اعتمدت علاقاتها على عصبة القبيلة ولغة القوة والحرب في ما بينها، ومع غيرها، ويعود انتماؤها المذهبي التاريخي للمذهب الزيدي الذي مثل الغطاء الأيديولوجي للحكم لقرون طويلة، وفي هذا الجذر الاجتماعي المادي الثقافي المذهبي تتجلى الفروق النسبية في التكوين الداخلي لحركة المعارضة، ومن هنا في تصورنا يمكن اختزال حركة المعارضة السياسية في هدفين، أو بعدين؛ بُعد الإصلاح السياسي، ويشترك في المطالبة به كلا التيارين في الحركة، وبُعد تحقيق المواطنة المتساوية للجميع، ويقع في صلب هذا المطلب التيار الذي لا يرتبط بالقبيلة المسلحة، وظلت الإمامة تعامله طائفيًا بنوع من الانتقاص لحقوقه في المواطنة المتساوية، أي كرعية، أو مواطن درجة ثانية.
8. كما يوحي إلى هذا المعنى لي دوجلاس، مصدر سابق.
9. د. محمد علي الشهاري، كتاب "اليمن ثورة في الجنوب وانتكاسة في الشمال"، دار ابن خلدون، ص66-67، وكذا زكي بركات، "الزبيري شاعر الحرية"، مجلة الثقافة الجديدة، عدن، العدد يناير -فبراير 1975م.
10. مما لا شك فيه أن السياسة الاقتصادية الإمامية عرقلت "فرص نمو طبقة تجارية مستقلة في اليمن. وقد ظهرت في فترات مختلفة، تكوينات جنينية لهذه الطبقة، ولكن السياق العام للتطور لم يتح لها فرصة النمو وتثبيت مواقعها؛ لقد منعت الأوضاع المشار إليها آنفًا، بالتضافر مع عوامل أخرى، العناصر التجارية التي بدأت في عدن، أو في بعض بلدان المهجر، من أن تمد نشاطها إلى داخل اليمن (شمال اليمن). كما أعاقت عملية تشكل طبقة برجوازية تجارية في فترة ما بين الحربين في المناطق الجنوبية مما نسميه "يمن الإمامة"، لمجرد التمييز الجغرافي والتاريخي. وتجدر الإشارة إلى أنه قد انهارت شرائح وعناصر تجارية كانت في مدينة المخا في فترة سابقة، أي قبل انهيار تلك المدينة وما كان بها من نشاط اقتصادي، بفعل الصراعات القبلية والحروب الأهلية في المحل الأول. كما تدهورت الجماعات التي كانت تعمل في صناعة النسيج والصباغة في منطقة تهامة"، د. أحمد القصير، "العوائق الاجتماعية لتشكل سوق قومية في اليمن"، مجلة الكلمة اليمنية، عدد سبتمبر -أكتوبر 2013م، السنة الثالثة والعشرون.
11. القاضي محمد محمود الزبيري، "مأساة واق الواق"، ص165.
12. محمد محمود الزبيري، كتاب أو ديوان الزبيري، المجلد دار العودة، بيروت، ص73.
13. الفقيد عبدالله باذيب، "كتابات مختارة"، الجزء الأول، دار الفارابي، ص232.
14. د. محمد علي الشهاري، كتاب "اليمن ثورة في الجنوب وانتكاسة في الشمال"، دار ابن خلدون، ص31.
15. د. حمود العودي، كتاب "المثقفون في البلدان النامية"، دار جامعة صنعاء، ص 177.