بصمت كنت أتابع الأستاذ عبدالكريم الرازحي وبعض زملائه، وهم ينطلقون إلى أحضان الطبيعة، يمارسون هواية المشي وتسلق الجبال والسباحة، كُنت أشاهد الصور، وأتمنى لو أستطيع أن أمشي لساعات طويلة، وأقطع عدة كيلومترات بين أحضانها، ولم أكن أعرف كيف السبيل للوصول إليها.
كانت محاولتي الأولى في شهر يوليو 2023، قمتُ حينها بإرسال رسالة عبر "فيسبوك"، سألت فيها الأستاذ الرائع عبدالكريم الرازحي، عن إمكانية المشاركة في المشي بين أحضان الطبيعة، وحينها سألني هل تحبين المشي؟ أجبته جدًا، قال مع أقرب فرصة للمشي سأبلغك، وبالفعل أبلغني، ولكن لسوء الحظ لم يكن الوقت مناسبًا، ولم أشارك معهم أول فرصة أتيحت لي، بعدها جاء الأسبوع الثاني، وأبلغني كابتن الفريق سعيد السروري، بأن هناك رحلة مشي ستكون إلى قرية "حدة_العشاش".
في ذلك اليوم كنت سعيدة جدًا لأني سأحقق ما كنت أريده، اتصلت بصديقتي فخرية وأخبرتها عن الرحلة، وأبدت استعدادها للقدوم، لأنها هي أيضًا من مُحبي المشي، وأحيانًا نقضي أنا وهي ساعات في المشي بالشوارع، ولكن للمشي في الطبيعة نكهة أخرى، ويكفي من هذا كله أننا نستنشق هواء نقيًا بعيدًا عن عوادم السيارات وروائح النفايات والضوضاء التي تقتل جمال المدن.
بداية التحدي
فريق التسلق والمشي(النداء)
كانت الساعة تشير إلى السادسة صباحًا من يوم الخميس 13 يوليو 2023، نهضت وأنا في قمة سعادتي، وكأنني سأتوجه إلى مقعد الطائرة، وأنطلق فيها بين أحضان السحب، التقيت صديقتي فخرية في مطعم في شارع حدة، هناك تناولنا طعام الفطور.. كنت سعيدة لدرجة أني لم آكل كثيرًا، تذكرت حينها مرحلة الدارسة عندما أذهب للرحلة المدرسية من شدة فرحي أنام دون أن أتناول طعام العشاء.
أكملنا فطورنا، وبعدها توجهنا إلى مكان التجمع في نهاية حدة، كان هناك عدد من الأشخاص ينتظرون، بينهم امرأة ترتدي قبعتها، تعرفنا عليها في ما بعد، اسمها عبير الكوكباني، جلست أنا وفخرية نمارس هواية "الحش"، بعدها تقدم إلينا شخص سأل صديقتي هل أنتِ فاطمة الأغبري؟ قالت لا، هذه، قال نحن أخبرنا عنكما الأستاذ عبدالكريم الرازحي، وطلب الاهتمام بكما كون هذه مشاركتكن الأولى. لا أخفيكم أني سعدتُ بذلك الترحيب اللطيف، وبذلك القبول من بقية أعضاء الجروب الذي تنوعت أعمارهم بين كبير وصغير، ولكن جمعتهم هواية واحدة، وهي رياضة المشي والتسلق.
تحرك الجروب الساعة الثامنة صباحًا، كنا بحدود 28 مشاركًا، مشينا وصعدنا الدرج التي تؤدي إلى القرية القديمة، هناك رأينا عين "حميس"، التقطنا عدة صور، كانت فرحتي لا توصف وأنا أرى مكانًا جديدًا، خصوصًا أني من الذين يعشقون المناظر الطبيعية حد الجنون (لكن ربكم ما يقيد إلا وحوش).
وقبل أن أبدأ بالحديث عن هذه الرحلة أريدكم أن تعرفوا شيئًا.. أنا طبعًا لديّ مشكلة في تذكر الأماكن كونها جديدة عليّ، ولكن الكابتن سعيد السروري يعرف كل الأماكن وبالاسم، ويدونها في صفحته بعد كل زيارة، لذلك فإني عند كتابة هذا الموضوع استعنت بما كتبه لأتذكر الأماكن.
على كل حال، في البداية تجاوزنا القرية، واتجهنا صوب ثغر الجبل بمنطقة "زغن النمر"، هناك وجدنا أشجار البلس الشوكي كأنها تحرس ذلك المكان، وتقول من شدة جمالها اقطفوني، وهذا بالفعل ما قام بعض أعضاء الفريق، حيث قطفوا منه الكثير، ووضعوها في أكياس بلاستيكية، كنت ألتقط الصور لهم وللمكان وللأشجار، ولا أخفيكم أني كنت أشعر بالتعب وأنا أصعد وأصعد، وكنت من وقت لآخر أسأل كالطفل متى سنصل إلى الطريق المؤدي لطريق العودة؟ وكانت تصدمني إجابة البعض عندما يقولون أنتِ لم تقطعي سوى ربع المسافة. اكتفيت بالصمت، أمشي تارة، وتارة أخرى أجلس على أقرب صخرة تصادفني لالتقاط أنفاسي، كانت صديقتي فخرية أحيانًا ترتاح بجواري، وأحيانًا تسبقني فألحق بها لأني لا أعرف أحدًا سواها.
استمررنا في الصعود، وهناك عند عين "ذنبيل"، قام كابتن الفريق ومن معه بغسل البلس وتقطيعه للمشاركين، كان له طعم جميل وبارد، وهناك شربنا الماء، وكانت المرة الأولى التي أشرب فيها ماء من عين. وهكذا رجعت لي الطاقة من جديد لإكمال الطريق بمعية أروع فريق، توجهنا بعد ذلك نحو هضبة تسمى "محفد"، لنكمل طريقنا على سفح جبل عيبان الممتد إلى أعلى قرية العشاش القديمة، كنت أمشي وأنا خائفة لأني أخشى المشي في طريق كهذا، كانت صديقتي تسير أمامي وهي تغني غير مهتمة بالمنظر المرعب، وأتذكر أني أخبرتها أني أستطيع إكمال الطريق لأنها أمامي، فقط كل الذي أفعله أنظر إلى قدميها، ولا ألتفت نحو الهاوية. كانت الرياح تمارس هوايتها معنا وكأنها تقول من منكم يستطيع الصمود أمامي، فتأتي تارة بقوة، وتارة أقل قوة. ولا أخفيكم أنها كانت تسبب لي الرعب، كنت أتذكر أفلام الرعب عندما يسقط الأشخاص من مرتفعات عالية، وأتخيل نفسي مكانهم.
استمرينا في المشي، كانت المعنويات مرتفعة بالنسبة لي رغم كل التعب، ولكني شعرت كأنني حققت منجزًا تاريخيًا، بعد ذلك نزلنا باتجاه القرية والسائلة لاتخاذ خط العودة بقيادة الكابتن سعيد السروري، والكابتن مبخوت الماوري، أو كما يسميه البعض عم مبخوت.
هناك كان ينتظرنا التحدي الأكبر، كانت طريق النزول في غاية الصعوبة؛ أحجار متداخلة وأشواك لا ترحم أحدًا، كنا ننزل بحذر، كان حظي من الأشواك كثيرًا، فقد كانت متعمدة أن تدخل بين أصابعي، وأحيانًا في ساقي مخترقة العباية.
كانت مغامرة حقيقية رغم خطورتها كونها أول مرة.. أتذكر كنت أنا وفخرية ننزل مرة واقفات، ومرة أخرى نسحب كالأطفال من صخرة لأخرى، ومرات تأتينا مساعدات لوجستية من الأستاذ عبدالله الشرعبي الذي كان يمد لنا عصا طويلة كانت تساعدنا في تجاوز بعض الصعاب عند النزول بين الصخور الكبيرة. أتذكر وعلى الرغم من التعب، كانت تحدث بعض المواقف المضحكة؛ مثلًا انزلق أحدهم، وكنت وصديقتي نضحك بشكل جنوني، ونقضيها حش طول الطريق، وفجأة نالت صديقتي حظها وانزلقت رجلها، فضحكت عليها وقلت لها القضاء جاء سريعًا، تحدينا الصخور رغم التعب والخوف.
أكملنا طريقنا وانزلقت أنا أيضًا بطريقة مضحكة جدًا، كنت متألمة قليلًا، ولكن تجاوزت الألم بالضحك.. المهم بعد كل ذلك حاولنا تجاوز الطريق، جلسنا قليلًا لأخذ الراحة، ونحن نشاهد في الجهة البعيدة كابتن الفريق وبعض الأعضاء هناك ينتظرون البقية بعد وصولهم لآخر نقطة.
وصلنا جميعًا عند أذان الظهر، لنأخذ طريق العشاش المؤدية إلى نهاية موقف الباصات، وتم حساب الطريق التي مشيناها بمسافة 12 كيلومترًا، لمدة أربع ساعات.. وصلت وصديقتي إلى الخط الرئيسي نترنح من شدة التعب، لم نعد نشعر بأرجلنا، كنت أشعر أنى أمشي كأنني أرقص فتنطلق ضحكاتي أنا وهي كأننا في حالة سُكر.. نعم لقد أثملتنا تلك الطريق، وتحديدًا التي نزلنا منها، لكن الجميل في الأمر أننا لم ننزل بكسور، والحمد الله.
عدت إلى البيت، وعلى الرغم من كل ذلك التعب والوجع الشديد في ركبي، إلا أنني شعرت براحة نفسية لا أستطيع وصفها، شعرت بأن هناك طاقة سلبية انتزعتها روح الطبيعة من داخل جسدي.