أول مرة أسمع عن "التعرض الانتقائي" كان في عام 1994. كانت محاضرة وسائل الاتصال في جامعة صنعاء الدكتورة رؤوفة حسن، تحدث طلبة دبلوم عالٍ -قسم الصحافة، عن "جمهور" وسائل الإعلام، وميوله وعاداته (القرائية) للصحف المقروءة، وغير القرائية للإذاعة المسموعة أو المرئية!
قالت إن المستهلك (وهو هنا المشاهد) يفتح القناة التلفزيونية التي يرى أنها تعبر عن تفضيلاته بمعزل عن درجة المصداقية أو وسائل مؤثرة أخرى كالإبهار والسرعة… الخ.
التعرض الانتقائي صار جليًا بعد أقل من عقد؛ الجزيرة والعربية والعالم والحرة، ثم في 2011 وهيمنة قناة الجزيرة في العالم العربي، قبل أن ينحسر مشاهدوها قليلًا بعد 2013.
الدكتورة رؤوفة حسن (شبكات التواصل)
في شهر ابريل 2011 فارقت رؤوفة حسن الحياة في القاهرة، بينما بلدها يشهد أزمة شرعية بعد اندلاع ثورة شعبية ضد نظام الرئيس صالح.
لم يتسنَّ لي معرفة رأي المحاضرة والإعلامية المرموقة رؤوفة، في ما جرى، لكني أعلم جيدًا أنها لم تكن موافقة على سياسات النظام في سنوات ما قبل 2011.
في مطلع 2009 اتصلت بي الدكتورة، ولكن من الولايات المتحدة الأمريكية. بعد السلام والاطمئنان سألتني بشكل مباشر: سامي، إذا رشحت نفسي لموقع نقيب الصحفيين، هل ستدعمني؟
كانت تقصد أكثر من الإدلاء بصوتي في الانتخابات لصالحها!
كان ملخص ما قلته هو أن الأكيد أن التركيز كله سيكون على موقع النقيب. وشخصيًا ليس لدي أي تحفظ، وسأقف في صفك، لكنني أريد أن أعرف بالضبط "ظروف ترشيحك"، وهل هناك طرف معني بهذا الترشيح! باختصار هل هو قرارك الشخصي؟
أكدت لي ذلك.
صدقت، وقلت لها إنني لن أتوانى في دعمك!
قالت سنتحدث في التفاصيل بعد عودتي إلى صنعاء.
كنت، كعضو مجلس النقابة، أدرك أن السلطة وفروعها (وأجهزتها الأمنية) لن تترك مجالًا للصدفة في انتخابات النقابة الجديدة، وبالذات موقع النقيب. وقد لاحظت قبل مؤتمر النقابة، أن السلطة تمكنت من كسب بعض أعضاء المجلس، ممن كان يعد "راديكاليًا"، وضمنت موقفهم سلفًا. وفي اليومين الأخيرين (قبل الانتخابات) كان واضحًا أن رؤوفة حسن ستكون النقيب الجديد بالنظر إلى تنوع كتلتها التصويتية، واصطفاف أغلب الأعضاء المؤثرين معها، وبينهم صحفيون وصحفيات حزبيون ومستقلون.
في ما يخصني، فقد رأيت في الدكتورة رؤوفة المرشح الأفضل لموقع النقيب، فهي أولًا إعلامية مقتدرة عملت في الإعلام المقروء، وفي التلفزيون كواحدة من رائدات التلفزيون في شمال اليمن. ثم إنها مستقلة بالمعنى الحزبي، وبوسعها أن تدير علاقة متوازنة مع السلطة تصب في صالح الصحفيين والصحفيات، خصوصا بعد أن تحقق لهم بعض المكتسبات النقابية في الدورة الانتخابية السابقة. والأمر المهم أن رؤوفة حسن لديها من الخبرة
والتجربة ما يؤهلها لفهم احتياجات الأجيال الجديدة من الصحفيين والصحفيات، وهي أقدر على الاستجابة للتحديات التي يفرضها الإعلام الجديد في اليمن. والنقطة الأهم أنها ستكون سيدة قرارها لا تحتكم لدوائر سلطوية أو أمنية.
في يوم الاقتراع كانت الأمور تسير بشكل اعتيادي، لكن في اليوم التالي بدا كان السلطة تخوض حربًا على دوائر برلمانية انتخابية! لاحظت أن عددًا من الزملاء (خصوصًا من لهم علاقات حسنة بمكتب الرئيس صالح أو بأجهزته) حولوا موقفهم كليًا من دعم الدكتورة إلى دعم منافسها، دون مسوغ!
بعد ظهر اليوم نفسه (وكان الاقتراع يسير بشكل حسن) التقيت الدكتورة في القاعة، وكانت لا تصدق ما تفعله أجهزة الرئيس صالح بها وبأسرتها، وقالت إن أسرتها تلقت اتصالات مسيئة تضمنت سبًا وقذفًا.
أدليت بصوتي، والتحقت بأصدقاء في مقيل الأستاذ القدير محمد سالم باسندوة، في منزله في الحي السياسي.
في حوالي الساعة الرابعة تلقيت اتصالًا أدهشني.
كان مدير مكتب "القائد" أحمد علي عبدالله صالح، وهذا اتصاله الأول والاخير بي، يبلغني أن القائد يراهن على أعضاء المجلس في دعم المرشح ياسين المسعودي (منافس رؤوفة حسن)، فهو المرشح الأنسب! قلت للمتصل يكلم قائده بأنني كعضو مجلس نقابة، يهمني أن تسير الانتخابات بشكل سلس ونزيه، وليس مهمًا بعد ذلك من الرابح ومن الخاسر!
بعد ساعتين عدت للقاعة، وكان التصويت مستمرًا، ولاحظت أن "قادة" وسائل الإعلام الحكومية حاضرون شخصيًا، لا للتصويت وحسب، وإنما للإشراف على عملية الاقتراع!
في اليوم التالي كانت الدكتورة متماسكة عندما تحدثنا عما جرى. وقد أحزنني أن شكها ذهب بعيدًا حيال بعض الزملاء؛ فمن لم يصوت طبق ما تريده أجهزة الأمن، حكمته تفضيلات حزبية أو شخصية. والحق أنني عذرتها باستثناء قراءتها لموقف الزميل نعمان قائد سيف الذي ترشح لموقع النقيب دون تنسيق مع أحد، لكن الدكتورة لاحظت أن لقبه المسعودي، وأن نزوله شوش على حملتها، وأدى إلى سحب أصوات (85 صوتًا) كانت ستصب لصالحها.
علمًا أنها حازت على أقل بقليل من 400 صوت، فيما حاز الأستاذ ياسين المسعودي على 490 صوتًا!
قلت لها إن نعمان قائد سيف مستحيل أن يخدم أيًا كان، وترشيحه هو حقه أولًا، وهو ثانيًا -كما أفهمه- تعبير عن عدم اقتناعه بالمرشحين للموقع.
كان الموقف حزينًا، فالسلطة تمكنت من هزم مرشحة مستقلة (حسب بعض المعارضين موالية لها)، مستفيدة من بعض أحزاب المعارضة، وبالذات التجمع اليمني للإصلاح الذي يعتبرها واحدة من طلائع التغريب والتشجيع على الانحلال، مذكرًا -يوم الاقتراع- بدورها في مركز المرأة (ومعلوم أنها عاشت قبل سنوات من مؤتمر النقابة محنة تخوين وتكفير بسبب المركز)، والاشتراكي والناصري اللذين يعتبرانها موالية للسلطة أكثر من مرشح السلطة ذاته، وأن الزميل ياسين المسعودي اشتراكي رغم عضويته في المؤتمر الشعبي!
كانت الانتخابات -وانتخاب النقيب تحديدًا- انتكاسة نقابية حقيقية ظهرت بعد أسابيع عندما انهالت الدروع (النقابية) على الرئيس صالح والسفير السعودي، وامتدت الانتكاسة عبر 2011 حتى الآن.
هيمن "التعرض الانتقائي" تلفزيونيًا في سنوات ما بعد "الربيع"، وفقد الصحفيون والصحفيات حقهم في انتخاب النقيب ومجلس النقابة، ذلك أن النقيب والمجلس صاروا فرعًا من "السلطة الانتقالية" ملحقًا بالرئيس المؤقت هادي، ربطوا مصيرهم به إلى أن حكمت عليه السعودية بعد 10 سنوات، بـ"الإقالة"!
بالموازاة، ساد ما يمكن تسميته "العرض الانتقائي"! وهنا لا يكون موضوع الظاهرة الزبون أو المستهلك أو المشاهد، وإنما المنتج أو صانع المحتوى أو الصحفي ذاته! وغالبًا ما يتفاجأ بعض الأصدقاء إذ أقول لهم إن عروض سلطة صالح (وما بعدها) نادرًا ما كانت تصلني، وإذا وصلت فإنها لا تتكرر. وكنت أقول لبعض الأصدقاء والزملاء إن المسألة لا تتطلب بطولة وعنتريات، إذ يكفي أن تحتمي بمهنيتك وكفى. ذلك أن المستهلك (وهو هنا السلطة أو أي مركز قوة) يكفيه أن يجد منفذًا للوصول إليك، وإلا فقمعك… إن استطاع!
رحم الله الدكتورة رؤوفة.