قد تتمكن تايوان من إلحاق أذى عسكري واقتصادي وبشري كبير بالصين عبر هجمات مفاجئة، إلا أن النتيجة الحتمية لمثل هذا التصعيد ستكون سحق الصين لتايوان تُنهي وضعها المستقل. الأمر ذاته ينطبق على كوبا، التي قد تتمكن نظريًا من قصف ولاية فلوريدا، وإيقاع خسائر بشرية، لكن الرد الأمريكي سيكون ساحقًا، وسيُنهي النظام الحاكم في كوبا.
لطالما توهّم بعض القادة، أن إيقاع خسائر مفاجئة في قوة أكبر منهم كفيل بتحقيق النصر. هذا ما فعله اليابانيون حين هاجموا بيرل هاربر، وما اعتقده حسن نصر الله، وأسامة بن لادن، ويحيى السنوار، وآخرون، قبل أن تُثبت الأيام عكس ذلك، ويدفعوا ثمن ذلك الوهم.
إن إلحاق خسائر -مهما بلغت- بعدو يمتلك القدرة على تدميرك بالكامل، وبخاصة إذا كان هذا العدو دولة عظمى، ليس إنجازًا، بل عمل أحمق بكل المقاييس. فمثل هذا العدو، قادر على استعادة توازنه، وإعادة حشد قوته، وتوجيه المعركة نحو حسم نهائي، لا يرضى فيه بأقل من القضاء عليك بشكل كامل.
اليوم، يهلّل الحوثيون لما اعتبروه "إنجازًا نوعيًا"، بعد إعلان أمريكا فقدان إحدى طائراتها، ويُقال إن ذلك حدث نتيجة مناورات قامت بها حاملة الطائرات "هاري ترومان" لتفادي هجوم حوثي. بالنسبة لهم، هذا الحدث هو أعظم ما تحقق في المواجهة مع أمريكا، وهو لا يشبه مزاعمهم السابقة، والتي لم تتوفر أي أدلة تؤكدها.
يمكن تخيّل نشوة عبدالملك الحوثي وقياداته وهم يتلقون خبر سقوط الطائرة، والذي من وجهة نظرهم هو نصر مبين وهزيمة مدوية للولايات المتحدة. لكن الحقيقة التي لا يريدون سماعها هي أنهم، بعد هذا الحدث، يجب أن يقلقوا أكثر من أن يحتفلوا، لا سيما عبدالملك نفسه، الذي عليه أن يتحسّس رأسه.
فلو صحّ أن الحوثيين باتوا قادرين على تهديد أو حتى إصابة حاملة طائرات أمريكية، فإن هذا لا يعد إنجازًا بل كارثة عليهم، إذ يضعهم في مرمى رد مدمر لا حدود له. فمهما كانت إنجازاتهم التكتيكية، فإنها في النهاية ليس لها قيمة تُذكر أمام هزيمة استراتيجية حتمية، بعد أن تقرر الولايات المتحدة تصفيتهم.
وعلى عبدالملك الحوثي أن يستوعب معادلة بسيطة: حين يكون فارق القوة بهذا الحجم لصالح خصمك، فإن كل ضربة توجهها إليه، مهما كانت ناجحة، تعجل بنهايتك. ولا حاجة هنا لسرد الفوارق الهائلة في القوة بين أمريكا وجماعة الحوثي. الأهم من ذلك، أن المجتمع الدولي لا يرى الحوثيين ضحايا في هذه المواجهة، بل مسؤولين عنها، كونهم الطرف البادئ. حتى دول مثل روسيا والصين، التي يُفترض أنها خصوم لأمريكا، صوّتت إلى جانب قرارات تُدين هجمات الحوثيين في مجلس الأمن، وهذا يؤكد على أن لا أحد يأخذ تبريرات الحوثيين بإسناد غزة على محمل الجد. كما أن الغالبية الساحقة من اليمنيين، ينظرون إلى هذه الهجمات باعتبارها عبثًا كارثيًا ألحق ضررًا بالغًا بالبنية التحتية والاقتصاد الوطني والمدنيين الأبرياء، والأهم من ذلك أنهم يتمنون أن تنتهي هذه المغامرات بهزيمة ساحقة للجماعة الحوثية.
ولا يقتصر هذا الرأي على خصوم الحوثيين، بل إن بعض "العقلاء" داخل الجماعة، إن صح أن هناك عقلاء داخلها، يرون في هذه الهجمات مغامرة غير محسوبة العواقب، لا طائل منها، وقد تؤدي إلى هزيمتهم الكاملة، أو تراجع قوتهم في أحسن الأحوال.
وفي كل الأحوال، علينا أن نتذكر هنا أن وضع جماعة الحوثي قد تغير عما كان عليه خلال الحرب ضد التحالف، إذ كانت الجماعة تعتبر في موقع "الدفاع"، من وجهة نظر أطراف محلية وخارجية، وهو ما أكسبها بعض التأييد الداخلي وتعاطفًا كبيرًا من الخارج، بخاصة من بعض الأطراف داخل الولايات المتحدة. أما الآن، فقد أصبحت هي الطرف البادئ بإشعال هذا الصراع الأخير.
هذا التحول يضع الحوثيين في موقع "المعتدي"، الأمر الذي يمنح الولايات المتحدة الأمريكية مبررًا وشرعية لتوسيع نطاق ضرباتها ضدهم، بغض النظر عن حجم الخسائر التي قد تلحق بالمدنيين والبنية التحتية.
لكن الخطير في ذلك أن تبعات الرد الأمريكي لن تطال عبدالملك الحوثي وقيادته، إلا في النهاية، كما يحدث في الأفلام السينمائية، كون هؤلاء محترفين في فن الاختباء. فعبدالملك الحوثي مشغل "وضع الاختفاء" منذ توليه قيادة الحركة الحوثية، وربما حتى قبل ذلك. وهذا يؤكد أن التواري عن الأنظار ليس مجرد أسلوب عابر بالنسبة له، بل هو مهارة متقنة وصل فيها إلى درجة الاحتراف، مما يجعله أشبه بالمعلم في فنون الهروب والاختفاء. ولا يقتصر إتقان فن الاختباء على عبدالملك الحوثي وحده، بل يشمل أيضًا جميع القيادات العليا الفاعلة في الحركة، فهم أيضًا يتمتعون بخبرة واسعة في هذا المجال.
ولهذا من سيدفع ثمن تصعيد الهجمات الأمريكية هم اليمنيون العاديون، مدنيين وعسكريين، إضافة إلى ما تبقى من بنية تحتية متهالكة. وستكون الخسائر فادحة، كلما كبرت الخسائر الأمريكية، والتي قد تكون عددًا محدودًا من الجنود. وهنا وجب التنبيه إلى أن أمريكا لن تكترث لحدوث خسائر هائلة في صفوف المدنيين، فهذه الخسائر لن توقف الهجمات، وما يحدث في غزة يؤكد ذلك.
إذا ما قررت أمريكا فعلًا التخلص من الحوثيين، فإنها لن تتورع عن استخدام أقصى درجات القوة، من القصف الكثيف والواسع إلى القيام بعمليات خاصة على الأرض لملاحقة هدف كبير كرأس عبدالملك الحوثي. وقد تشمل هذه الهجمات استخدام أسلحة ذات طابع تدميري شامل، في حال قرر الأمريكان أن الحوثيين تجاوزوا "خطوطًا حمراء" كإيقاع أذى معتبر بالقوات أو المصالح الأمريكية.
قد يحاول البعض تفسير هذا المقال بأنه نصيحة لعبدالملك الحوثي وحرص عليه، لكن الحقيقة أنه لا يحمل ذرة تعاطف. فبالنسبة لي، ولأغلب اليمنيين، فإن زوال الحوثي وجماعته هو خير محض لليمن، بغضّ النظر عن الجهة التي تقوم بذلك، وبخاصة لو تم ذلك على شكل عملية جراحية دقيقة لا تمس الأبرياء، ولا البنية التحتية.
والخلاصة أنه كلما زادت الخسائر التي يتسبب بها الحوثيون للولايات المتحدة، اقتربنا من لحظة التحول الجذري للمواجهات، حيث يتحوّل فيها عبدالملك الحوثي من مجرد خصم مزعج إلى هدف في قائمة التصفية الأمريكية. فالمعادلة هي: كلما سال دم أمريكي، أصبح رأس عبدالملك هو المقابل الطبيعي. ففي منطق القوى العظمى، لا أحد ينجو في نهاية الأمر حين يوجعها.