صنعاء 19C امطار خفيفة

عبثية ترامب والحصاد المر

لم يخرج الرئيس ترامب من عباءة الشيطان، بل هو الشيطان نفسه، لأنه يريد إعادة إطلاق شيطان الرأسمالية المتجدد والمتعثر ليتربع مجددًا ودومًا على سطح الكون ومصالحه وفق الترامبية الشيطانية التي تتغطرس قوة ومكانة حتى وإن كانت خائرة القوى بالمعنى الاقتصادي الشامل أو العسكري الذي بات قرب قوسين وأدنى من فقد تربعه عاليًا،

 
سواء كان يدرك أو يتعمد عدم الإدراك بأن بلاده لم تعد نسر العالم المحلق على الفضاء المدمر، قد كانت غداة حربين عالميتين وما تبعهما من صراعات، من مرحلة الحرب البادرة وبعدها سيادة القطب الأوحد أمريكا بقرون قوة الدولار وسندات الخزانة الأمريكية وتلاعبات بنكها المركزي بأسعار الفائدة، ما أدرك وهو المقامر وتاجر الصفقات وفق قانونه الأزلي: اقضم الجزء الأكبر وتوارَ.. لم يدرك أن دوام الحال من المحال، فقانون الحركة هو السائد، ولا شيء يبقى عند نقطة بعينها يرغبها المضارب أو المتلاعب بالأسواق، الأحوال تتغير، والمصالح تتصالح وتلتقي ويتغير مؤشرها تبعًا لعوامل ليس بمقدور فرد أو جهة الإبقاء عليها حيث تشاء رغبته.
 
ما جرى في العالم خلال مراحل ما بعد اتفاقية برايتون وودز، ساد لفترة اتخذت معه الرأسمالية العالمية الاحتكارية المسيطرة المتحكمة بمصائر الاقتصاد الكوني أشكالًا ومسميات شتى، فمن مرحلة اعتماد قاعدة الذهب وحدة للقياس، يومها كانت أمريكا هي الحائز الأكبر للغطاء الذهبي القادرة على تبادل كل دولار أمريكي بـ35 أونصة ذهب... لكن دوام الحال من المحال أيضًا، بات مخزون أمريكا من الذهب يتآكل حتى بات من الصعب عليها استمرار إعمال تلك القاعدة، حتى قرر رئيسها نيكسون التخلي كلية عن قاعدة الذهب، فارضًا الدولار كورقة نقدية عارية إلا من قوة وهيمنة أمريكا كوسيلة كونية للتبادل، ووسيلة لاحتياطيات الدول خلال فترة ساد فيها المعول الأمريكي عبر العديد من المؤسسات الكونية كحارس لهكذا نظام دولي ترعاه وتصونه مؤسسات اتفاقية برايتون وودز، اتفاقية التجارة والتعريفات المعروفة بالجات، صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، ولاحقًا منظمة التجارة الدولية التي مثلت حارسًا للفكرة المهيمنة على المرحلة البريطانية التاتشرية تحت سماء ومفهوم إزاحة القيود وتخفيف إن لم يكن إلغاء فرض الرسوم الجمركية تحت سماء مفهوم حرية التجارة الدولية، وفتح الآفاق أمامها دونما قيود، إذ قررت تلك الفلسفة أن قوة السوق وحدها تمتلك عناصر إعادة التوازن عند أي اختلال في الموازين ضمن آلية اليد الذهبية الخفية للسوق، تعيد التوازن بعيدًا عن تدخل الدولة وبيروقراطيتها المعرقلة لكفاءة عناصر السوق من عرض وطلب وفقًا للقانون الرديء: العرض قادر على الدوام على خلق الطلب.
 
وكما قلنا دوام الحال من المحال، لم تشهد الريجانية التاتشرية بمفهوم الليبرالية المطلقة لقوى السوق، إلا مزيدًا من هيمنة وسيطرة الرأسمالية العالمية المتوحشة على أسواق العالم احتكارًا وتوسعًا، بما دفع الأمور نحو تجديد هذه الفلسفة عبر إعادة الاعتبار لمفهوم دولة الرعاية والرفاه الاجتماعي لمواجهة دعاة الانعتاق من جحيم رأسماليات متطرفة ازدادت توحشًا عبر الدخول بمرحلة العولمة عبر فلسفة النيوليبرالية الاقتصادية، وما ساد فيها من اضطرابات وفقاعات مالية وتجارية.
 
وخلال حقب رحلة الرأسمالية بتسمياتها المختلفة ظل جوهرها واحدًا، السيطرة على الأسواق والموارد من خلال منظور تعسفي لمفهوم تقسيم العمل الدولي: شمال جنوب، شمال متطور منتج وجنوب تابع مصدر للمواد الخام بأسعار يعيدها المركز الرأسمالي بأسعار مجحفة. هنا أيضًا دوام الحال من المحال، فالعالم قد أهلكته أزمة الثلاثينيات كما أهلكته أزمات الرأسمالية الاحتكارية الاستغلالية، وبات يبحث عن بدائل الانعتاق من همجية وسيطرة الرأسمالية العالمية بطابعها الغربي الصهيوأمريكي، ولاح في الأفق بعد سيادة مفهوم عولمة الأسواق أهمية مواجهة شرور الرأسمالية بأدواتها، أي بالكفاءة وامتلاك القدرات التنافسية، بخاصة لدى الدول المؤهلة لذلك، وهنا بزغ فجر التنين الصيني كخطر داهم يمتلك ذات الأدوات، إن لم يتفوق في بعضها، هي مرحلة واجه عدوك بنفس أدواته.
 
وحين أطل ترامب العائد لكرسي الرئاسة العائد إليها مشبعًا بأفكار مدرسة شيكاجو الاقتصادية، التي ترى وتدعم موجة ومفهوم الأمولة، أي جعل المال والمال وحده القادر على إدارة وتكييف الشأن الاقتصادي لهذا البلد أو ذاك، عبر ما سموه تفعيل مبدأ نزع الرسمية، أو كما يطلق عليه desformlzation، أي نوع الصفة الرسمية لآليات الدولة باعتبارها جهازًا بيروقراطيًا ذا كلفة فقط يتربع على عرشها آلاف الموظفين البروقراطيبن، يشكلون فقط عبئًا اقتصاديًا، بينما مليارديرات العالم يشكلون بديلًا أفضل، وهو يرى ويسوق بأن نموذجي ترامب وأيلون ماسك وسواهما هم الأكفاء.
 
ترامب وهو يقود معركته كان يدرك أن القطار قد فات الولايات المتحدة، لذا كان شعاره الأول لجعل أمريكا عظيمة مجددًا... أمريكا أولًا عبر شعار الميجا:Make Amrica Great Again، وشعاره الخاوي التحريري مواجهة هيمنة الغير على سوق أمريكا المفتوح سخاءً الآخرين، هو ينطلق من عدم إدراكه لمسائل خطيرة تعيشها الولايات المتحدة، أو أنه يكابر، واقتصادها المثخن بالعجز الفادح وبداية سقوط عرش الدولار كعملة يركع أمامها العالم. الأمر بات أخطر، أمريكا محاصرة بعجز عراها أمام العالم، لم تعد بقادرة على سده، ناهيك عن توالد أشكال ومسميات أخرى باتت عناوين تلي مرحلة سقوط عرش أمريكا وعرش الدولار، فكيان البريكس قادم، واليوان الصيني كعملة احتياط وتبادل يخطو خطوات ثابتة مدروسة، مدعومًا باقتصاد صيني يمتلك بل يتفوق على غيره.
 
إذن، ترامب محاصر اقتصاديًا بعجز هائل نتيجة الفجوة الهائلة بين النفقات والإيرادات التي تربو على تريليوني دولار، ناهيك عن أنها -أي أمريكا- مدينة للعالم بما يربو على 36 تريليون دولار، لم يعد بإمكانها الاستمرار بطباعة المزيد من الدولارات غير المغطاة بكفاءة اقتصادية ذات إنتاجية عالية وتنافسية... أيضًا انكشف الحال، والاحتياطي الأمريكي بات مربكًا، فلا هو قادر على التلاعب بأسعار الفائدة، ولا هو بقادر على بيع المزيد من سندات الخزانة الأمريكية، إذ رأى بأم عينيه دول العالم الحائزة على الكم الهائل من السندات الأمريكية، وهي تتلمس خطواتها المدروسة لإيجاد ملاذات جديدة أكثر أمانًا، وسرعة التخلص مما لديها من سندات. وتلك لحظة موت ما كان البيت الأبيض وسدنته يودون أن تحل بهم، لأنها كارثة اقتصادية وأية كارثة هي، إنها كارثة تدهور مكانة عرش الدولار.
 
هنا تحديدًا أسقط في يد الاحتياطي الفيدرالي، فهو لم يعد قادرًا كي يدافع عن عملة تآكلت ثقة العالم بها، بل قد فقد ثقته بإصدار المزيد من سندات الخزانة الأمريكية غير المغطاة، بحيث باتت تواجه عزوفًا وعدم إقبال، بل لجأ الكثيرون للبحث عن ملاذات أكثر أمنًا.
 
ترامب وهو يشهر سلاح فرض الضرائب وزيادة التعريفات الجمركية، أصبح كذاك الذي يستعين على الرمضاء بالنار، عبر آلية فرض الضرائب بشكل جنوني، هي لحظة سقوط، لحظة انعدام الوزن لرأسمالية ترهلت وباتت تبحث عن حائط مبكى جديد ستبكي تحت حجارته وحيدة، مع وسيلتها الاستعمارية إسرائيل، أما باقي العالم فيقول لترامب ودهاقنة مدرسة شيكاجو قد فاتكم القطار، فالعالم صار لديه حوافر أخرى أقوى، وعقول تفكر أفضل، وتخترع آليات عمل تضع خلفها من مازال يفكر بعقلية القرصان الاستعماري الاحتكاري المستغل المسيطر حتى وإن حاولت الرأسمالية العالمية باعتبار الإمبريالية آخر معاقلها، لم يعد لديها متسع من الوقت والتفرد، بات العالم بكتله الجديدة وقواه الصاعدة مصدر الخطر الداهم، لم تعد جامعة هارفرد المطاردة ماليًا من ترامب، ولم يعد أيلون وإمبراطوريته رائدي تقنية الذكاء الاصطناعي، هناك كثر بساحة الميدان يتنافسون، والعزاء لمن يتخلف، وأولهم نحن العرب المكتوين بجحيم نيران ليست من أمهات عصر الذكاء الاصطناعي الذي نحن عنه أبعد ما يكون.
 
نقول انتهى زمن الحلم الأمريكي، أفق من سباتك مسيو ترامب، الحلم الأمريكي تآكل... انتهى زمن الحلم الأمريكي، بتنا بزمن عالم أوسع، فليتنافس فيه المتنافسون بعيدًا عن هيمنة قوة بعينها، بعيدًا عن هيمنة وسيطرة أوليجاركية شيطنة الرأسمالية التوسعية الاحتكارية، إلى رحاب عالم تحكمه القيم والمصالح المتبادلة والمصالح المشتركة. ولا شك أن العالم لديه القدرات متى توافقت الإرادات وتوافقت المصالح على صياغة بدائل أكثر عدلًا وتعاونًا، يحقق مصالح الجميع وفق الكفاءة، وبعيدًا عن التلويح بمبدأ العصا والجزرة الذي انتهى أوانه.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً