صنعاء 19C امطار خفيفة

أمريكا أولًا.. تسونامي ترامب

لا شيء يمكن عبره تفسير تصرفات ترامب غير إعمال مفهوم غطرسة القوة بما لها من ابتزاز مفرط لقوة الأنا الأعلى عبر شعار أمريكا أولًا وأخيرًا... جنون عظمة ترامب عبر تبنيه شعارين ألعن من بعض؛ الأول to make amrica again، وثانيًا إطلاق شعاره الملتبس يوم التحرير... عجيب وغريب أمر هذا الترامب حين يتحدث عن حرب التحرير العدو الأول لمفهوم حركة التحرر من أغلال الاستعمار والاستغلال، كما هو المشارك الأول بحرب الإبادة للشعب العربي الفلسطيني، فكيف نفهم يوم التحرير لأمريكا، بينما حرام على الآخرين، وفي مقدم ذلك تحرير فلسطين من قبضة الاحتلال الصيهوأمريكي.

 
قمة السخرية والتناقض، ما علينا.. فالأمر جله يجد تفسيره بالطبيعة العدوانية الكامنة بجوهر الرأسمالية العالمية الأمريكية الأوروبية أساسًا في كافة مراحل انتقالاتها التاريخية، وترامب هنا وبما يمارسه ويدعو له هذه الأيام من غلو وغطرسة، لم يأتِ من عندياته بجديد، إذ هو طالب جلف ينهل من معين لا ينضب من تراث إمبريالي توسعي حدوده وجوهره كان ومايزال التوسع والاستحواذ عبر التلويح بعصا القوة والأنا الأعلى. وفلسفة كهذه ليست وليدة عبقرية ترامب، إذ هو أبعد عن ذلك، فسعيه منصب كتاجر صفقات لاقتناص الفرص المناسبة للفوز بالغنيمة، ولو على حساب العالم كله، شعاره أمريكا أولًا يستمده من شعار أطلقته قبله بعقود مضت كاهنة الحرز المثقوب مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق، تعلنها بصراحة تحسد عليها، حين قالت: إننا الأمة التي تفتقر إليها الأمم، وبفضل علونا نستطيع أن نرى أبعد مما يراه الآخرون. هنا مربط الفرس الذي يشده ترامب حيث يشاء، ومتى استدعت الظروف، حيث لا تخلو جعبة مراحل تغول الرأسمالية كنظام هيمنة واستغلال موهبتها في التوسع عبر سياسة الفرض بالقوة، إذ الرأسمالية -كما قال من فترة مضت الأستاذ الدكتور الاقتصادي القدير فؤاد مرسي- تجدد نفسها كلما استدعت الحاجة، ولو على أجساد العالم شعوبًا وأممًا.
 
ما يمارسه ترامب لا يذهب بعيدًا عن جوهر الرأسمالية التوسيعة العدوانية، هكذا كان، وهكذا سيظل، ففي مرحلة ما تم فرض عولمة بعصا أمريكا تلغي الحدود، ويعكس جوهرها فكرة أمركة العالم، حيث ساد مفهوم بأن العولمة إنما هي مرادفة للأمركة، فما الذي جرى كي يهب ترامب لإطلاق لجام حصانه المنفلت كراعي بقر، أو كما يطلق عليه كاوبوي لا يقهر، يبيد وينكل بالهنود الحمر أصحاب الأرض الحقيقيين.
 
هي فلسفة الإخضاع والفرض بالقوة بغية التوسع تجديدًا بثوب جديد لذات الممارسات التي مارستها الرأسمالية في مراحلها الأولى، وحتى اللحظة.
 
ترامب تلميذ نجيب في مدرسة التوسع والفرض والاستحواذ عبر إعمال مبدأ القوة بكل مشمولاتها السياسية الاقتصادية والعسكرية، وأخيرًا القدرات المعرفية التي باتت أشبه بالخيال بعد المد المخيف لإمكانات الذكاء الاصطناعي.
 
هنا ترامب يتصرف كرب أمريكا الأعلى، أمريكا التي أربكت العالم من خلال اقتصادها القوي وهيمنة عملتها الدولار على أسواق ومحافظ احتياطيات البلدان، لذا باتت تتصرف خارج قوانين السوق والانضباط الصارم للقواعد المنظمة للسياسات المالية والنقدية، لكنها أغرقت نفسها بديون تفوق قدرتها الفعلية على السداد من خلال حصيلة اقتصاد حقيقي راكمت ديونًا اعتمادًا على عملة يحتفظ بها العالم كوسيلة للتداول ووسيلة للاحتفاظ بأصول سندات أمريكية يمكن اللجوء إليها اليوم التالي الذي سمته السينما الأمريكية ذات يوم اليوم التالي أو "ذا دومس داي".
 
وحين حل اليوم التالي، لم يعد بيد ترامب ما يملكه، فقد انفرط عقد القوة والهيمنة الأمريكية، وبزعت في الأفق قوى جديدة تمتلك قدرات تنافسية مع أمريكا، بل تكاد تتفوق عليها، الصين مثالًا والهند واليابان وروسيا بعيد خروجها من النفق المظلم الذي حاكه جورباتشوف بخيوط غزل صهيوأوروأمريكية. 
  
وهنا أسقط بيد ترامب، لتعود حليمة لعادتها القديمة، أي سياسة العصا والجزرة، لكن بعد فوات الأوان لم يعد دولار أمريكا الإله الحامي أو الملاذ الوحيد للاحتماء من كوارث مفاجآت حريق الأسواق، حيث استجدت بالأسواق العالمية عناصر أخرى جاذبة أكثر أمانًا من الدولار الأمريكي ومن السندات الأمريكية التي بدأ أفول نجمها، بخاصة هذه الأيام التي بدأ ترامب يتراقص على رؤوس الثعابين، كما قال ذات مرة الهالك، فقد أنتج العالم بدائله التي تقيه مغبة الوقوع في الشرك الأمريكي المعاني من التمزق والإنهاك.
 
لقد تبين للعالم أن سياسة ترامب هي ترجمة مباشرة لمفهوم أن الحرب التي يشنها بأدوات اقتصادية عبر إعادة فرض الرسوم الجمركية ناصبتها أمريكا عقودًا من الزمن العداء المطلق، منادية بحرية التجارة والمنع المطلق للرسوم الجمركية، وأن ترفع الدولة يديها، وأنشأت لهذا الغرض مؤسسات تأتمر بأمر أمريكا: صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، منظمة التجارة الدولية، وغيرها من المنظمات المتهالكة بضغط أمريكي، وها هو ترامب يدمر بكلتا يديه كل ما فرضته حين تغير الحال لغير صالح أمريكا قلبت على العالم سيف المجن.
 
الغريب في الأمر أن ترامب القادم المستجد لمعبد الرأسمالية الأوروبية الاستعمارية العتيدة التوسيعة، هذا المعبد أفاق مذهولًا على أن من رباه زمانًا، ها هو يتمرد عليه سادة الرأسمالية، وجدوا أنفسهم مع صرخات ترامب في لحظات من سكرات الموت البطيء، حيث رأس المال أهوج لا يعرف وطنًا، بل لا يعرف أباه وأمه.
 
وها هو ترامب يطلقها قوية أن أمريكا أولًا، والتحرير ثانيًا من ربقة الاستحواذ على الأسواق الأمريكية. وها هو يلوح بفرض المزيد من الرسوم والتعريفات الجمركية تحت شعارات إنهاض قطاع الصناعة الأمريكية مجددًا. لم يدرك ترامب أو لعله يدرك أن الآخر هو العدو أيًا كان، إلا الصهيونية العالمية.
 
المعادلات السابقة اختلت، لم تعد أمريكا سيد اللعبة الوحيد، بل لعله قد بات ضمن محيط هائج تضطرب أمواجه بشدة عكس اتجاه الرياح الأمريكية، بات ترامب أشبه بقائد سفينة تيتانيك جديدة، ليست فقط آيلة للغرق، بل هي تغرق بالفعل، وتريد إغراق العالم كله معها على السواء لا تستثني أحدًا عدا دولة الكيان الصهيوني، إسرائيل. هذا الكيان الذي يحظى بالدعم والمؤازرة اللامحدودة أمريكيًا وأوروبيًا، وحتى إذا لاحظنا تباينًا أمريكيًا أوروبيًا في قضايا التجارة والعملة، لكنهما ربيبا إسرائيل أولًا ودائمًا.
 
ترى إلى أين سيقود ترامب أمريكا وباقي العالم؟ المؤشرات الأولية تشير لاتجاهات معاكسة لرغبات ترامب، فالداخل الأمريكي مضطرب، والعالم بتشكيلاته من أول الصين التي يخشاها ترامب أولًا، باتت في حل من تهديدات ترامب مقدرة وسوقًا وقدرات اقتصادية ومعرفية مذهلة، ولم تعد تايوان خطرًا تخشاه، وروسيا لم تعد روسيا جورباتشوف، روسيا عادت قوة معادلة، أما التابع الأوروبي فقد بات فقط يعض نواجذه حسرة على تمرد طفل الأمس وأخطبوط اليوم.
 
العالم بات محكومًا بالمصالح وتوازن عناصر القوة، وعناصر القوة لم تعد حكرًا على أمريكا، حتى ميادين عالم المعرفة لم تعد حكرًا بيد الولايات المتحدة التي باتت تتآكل من داخلها، بخاصة مع رئيس يريد أن يقدم تقريرًا عن إنجازاته خلال الـ100 يوم الأولى من فترة حكمه بحصيلة مالية تتأتى من فرض رسوم جمركية على الأصدقاء والأعداء، ولكن كل المواشرات تشير عكس ذلك، ولعل في حديث الاقتصادي الأمريكي الكبير جيفري ساكس، أستاذ الاقتصاد بجامعة كولومبيا الأمريكية، دليل على صحة ما ذهبنا إليه.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً