صنعاء 19C امطار خفيفة

اليمن: دولة لم تكتمل.. وقبيلة لا تريد أن تموت!

في كل المجتمعات، توجد صراعات بين الأجيال (المجايلة)، وبين ماضيها وحاضرها، وبين ما ورثته من أنساق فكرية واجتماعية، وما تطمح إلى تحقيقه من تحولات وتغييرات في المستقبل (الأصالة والمعاصرة، التقليد والتجديد... إلخ). لكن اليمن يبدو استثناءً، حيث إن القبيلة ليست مجرد كيان اجتماعي، بل هي بنية ذهنية تستوطن الوعي الجمعي.

 
تمارس القبيلة حضورها في هندسة العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بل تسهم في صياغة معايير الانتماء للوطن والمجتمع، وتحدد مدى شرعية ومشروعية هذا الانتماء. وهذا ما يحدث عندما تعلن قبيلة ما "براءتها" من شخص معين ينتمي إليها، كما يحدث مع الفنان عمار العزكي حاليًا من قبيلته.
 
العودة إلى الماضي والانتصار له على حساب المستقبل، هو في جوهره استدعاء رمزي لمسار متكرر من الارتداد نحو مفاهيم وسلوكيات أصبحت معيقة للتحول المجتمعي. والقبيلة هي أساس ذلك المسار الارتدادي. فمنذ القرن السادس عشر، تموضعت أنماط السلطة ضمن تصورات سلالية لم تَدَّعِ فقط حقها الإلهي في الحكم، بل وجدت في البنية القبلية حاضنة ملائمة لترسيخ مشروعها السياسي، إذ لم يُنظر إلى القبيلة كمرحلة في مسار التطور الاجتماعي، بل كغاية نهائية لتنظيم المجتمع ووحدة تنظيمية مؤسسة وقارة يبنى عليها.
 
وهنا يتجلى المأزق، ففي حين أن القبيلة في معظم المجتمعات تمثل حلقة في سلسلة التشكّل الاجتماعي المتدرج نحو الدولة، فإنها في اليمن توقفت عند حدودها، مما عرقل نشوء الدولة الحديثة. فبدلًا من أن تكون القبيلة جزءًا من منظومة سياسية أوسع، ظلت هي الوحدة المركزية التي تُقيّد الحراك نحو أي شكل من أشكال التنظيم الأكثر شمولًا. وهذا التوقف ليس مجرد خلل في بنيّة السلطة، بل هو نتاج لعقلية لم تستطع بعد تجاوز التصور القبلي إلى أفق المواطنة والدولة.
 
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما هي القبيلة؟ هل هي بناء اجتماعي، أم نسق ثقافي، أم مجال جغرافي محدد، أم أنها منظومة معقدة تجمع كل هذه الأبعاد والتصورات في آن واحد؟ وإذا كانت كذلك، فهل ظهورها واختفاؤها مرهونان بظروف خاصة، أم أنها كيان دائم يعيد إنتاج نفسه في كل لحظة تاريخية؟
 
من زاوية اجتماعية، تمثل الدولة والقبيلة نموذجين متناقضين للتنظيم الاجتماعي: الدولة هي الإطار الذي يُفترض أن يحتوي كافة التكوينات الجزئية، بما في ذلك القبيلة، ويصهرها في كيان جامع يتجاوز الولاءات الأولية لصالح مفهوم أشمل للمواطنة. بينما تسعى القبيلة، بطبيعتها، إلى المحافظة على استقلالها ونفوذها، معيدةً إنتاج ذاتها ضمن إيقاع لا نهائي من الصراعات وإعادة التشكل.
 
إن الإجابة على هذه الأسئلة تشكل مدخلًا جوهريًا لإعادة قراءة الواقع اليمني وتفكيك بنيته التقليدية، تمهيدًا لإعادة تشكيله وفق منظومة حديثة قادرة على تأسيس دولة تتجاوز القبيلة، لا بنفيها، بل باستيعابها ضمن أفق اجتماعي وسياسي أكثر رحابة وعدالة.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً