صنعاء 19C امطار خفيفة

طبَّاخ الجمعية اليمانية الذي أنجب وزيرين وخبيرين وقائدة نسوية!

طبَّاخ الجمعية اليمانية الذي أنجب وزيرين وخبيرين وقائدة نسوية!
قائد الأغبري ( طباخ الجمعية اليمانية وحزب الاحرار)

في استرجاعاته السيروية يتذكر حسين السفاري "بنجلة الأغابرة"، أو العمارة التي كان مستأجرًا لها رجل الأعمال المعروف عبدالملك أسعد الأغبري، بالقرب من ممر العطّارين في "كريتر" بمدينة عدن، أواخر أربعينيات القرن الماضي، وكيف كان يفدُ إليها العديد من الشبان القادمين إلى المدينة من جهة "حيفان"، مثلها مثل فرن الحاج هائل أحمد قاسم في "التواهي"، الذي كان يتيح هو الآخر للقادمين الإقامة على سطحه؛ وكيف أن هؤلاء القرويين الفقراء قليلي الخبرة كانوا يعملون في الدكاكين والحوانيت والورش في أعمال بسيطة، وأن المحظوظ منهم من يجد عملًا في بيوت ومساكن الأسر العدنية والأسر الإنجليزية الميسورة، تتصل بأعمال خفيفة في المطابخ والتسوق (شراء المؤن)، وأن الكثير من هؤلاء الشبان اكتسبوا تعليمًا معقولًا في المدارس الأهلية والخاصة بفعل دفع الآباء والأقارب لهم في هذ الطريق.

 
حالة شائعة لازمت حياة العديد منهم، وهي امتهان طباخة الأطعمة والوجبات بالطرق الحديثة، بعد أن اكتسبوها من طباخين ماهرين من أبناء القرى، الذين سبقوهم إلى مدينة عدن بسنوات طويلة، وإن الأخيرين بدورهم اكتسبوها في الأصل من "شيفات" مميزين، عملوا في معسكرات الجيش البريطاني، وفي مطاعم واستراحات وفنادق المستعمرة البريطانية الراقية، حينما عملوا إلى جوارهم كمساعدين.
 
اكتسب جيل الآباء الكثير من الخِبرات العصرية في طريقة اللبس، والاعتناء بالمظهر الخارجي، وتحضير سُفرات الطعام. وحينما تأسس نادي "الاتحاد الأغبري" في عدن العام 1937، كان العديد من هؤلاء الطباخين العِصاميين أعضاء فاعلين في هيئته الإدارية، فدفعوا بالعمل الاجتماعي والخيري في قرى 'حيفان' خطوات متقدّمة، ومنها الاهتمام بالتعليم، حيث ساهموا بدعم مدارس في المنطقة، بدأت تُعلِّم الأطفال بطرق ومناهج تعليمية حديثة، نقلها القاضي عبدالله عبدالإله الأغبري معه من جيبوتي التي عمل في مدرستها الأهلية العربية لثلاث سنوات، قبل أن يعود إلى المنطقة للإشراف على مدرسة ومكتب الفلاح، إلى جانب شقيقه عبدالقادر والأستاذ عبدالوهاب عبدالرحيم (قام النادي لاحقًا بإضافة طابق خاص على مبناها القديم ليكون مقرًا للطلاب المتفوقين، إلى جانب استحداث مدرسة أخرى في قرية "المعصرة").
 
عمل النادي أيضًا على دفع مرتبات ثابتة للمعلّمين في المدرستين، وعمل زيًا موحدًا لطلابهما، وزوّد المدرستين بطاولات وكراسٍ خشبية، بواسطة وكيل "الشاهي السيلاني" في عدن وقتذاك (ثابت صبيح العريقي)، كما يقول أبو الوليد.
ضاقت سلطة الإمام بهذا التوجّه، فعملت على إعادة فرض مناهج التعليم التقليدية في المدرستين، بالطريقة ذاتها التي اتبعتها مع المدرسة الأهلية في "ذبحان"، إبان وجود الأستاذين محمد حيدرة وأحمد محمد نعمان فيها، منتصف الثلاثينيات؛ وقتها لم يكن أمام الآباء سوى استقدام الأبناء إلى عدن، وإلحاقهم بالمدارس الخاصة والحكومية.
 
بعد قرابة أربعة عشر عامًا من تأسيس النادي، واهتمامه بقضية التعليم، وتحويله بعض حجراته إلى فصول دراسية مسائية ومحو أمية الكبار (العام 1951م)، ابتعث أربعة طلاب متفوّقين للدراسة في مصر، وهم: محمد قائد الأغبري، وأحمد محمد ثابت، وعلي عبدالحق، وطالب رابع من نادي "أبناء الشويفة" هو أحمد غالب الجابري.
 
وشكل هؤلاء الأربعة مسارات فارقة في الحياة الجديدة في البلاد.
غدا الأول واحدًا من أمهر أطباء الأوبئة في زمنه، وخبيرًا دوليًا، والثاني مصرفيًا معروفًا وناجحًا في البنك اليمني، والثالث قانونيًا لا يشق له غبار، أما الرابع فهو شاعر كبير تغنّى بشعره وقصائده أهم فناني اليمن في شمال البلاد وجنوبها.
ما يهمنا من الطلاب الأربعة المبتعثين من نادي "الاتحاد الأغبري"، هو الطالب الأول، نجل المناضل قائد محمد الأغبري، الذي عُرف بـ"طبَّاخ" الجمعية اليمانية الكبرى، وأحد أبرز واجهات نادي الاتحاد الأغبري؛ فخبرات الرجل في الحياة جعلته يؤمن بأن التعليم هو الوسيلة الأنجع لتجاوز محنة التخلّف التي ترزح تحتها البلاد.
 
أقام قائد محمد في مدينة "التواهي"، وعمل طباخًا في الفندق المشهور وقتها "مارينا هوتيل"، المقابل للنادي، وكان شخصًا ديناميكيًا معروفًا عند الجميع. وحتى يتمكن أبناؤه وأبناء أقاربه من الحصول على تعليم نظامي وحديث في المدارس الحكومية في المستعمرة الإنجليزية، كان يقوم باستخراج شهادات ميلاد بأسماء الأطفال المولدين في القرية، باعتبارهم من مواليد المدينة، ليتمكنوا لاحقًا من الالتحاق بالمدارس بكل سهولة، بعد أن صار شرط القبول الرئيس في المدارس الحكومية هو مكان الميلاد.
 
يروي علي محمد عبده تفاصيل هذه الطريقة على النحو الآتي: "عندما كان يولد لقائد محمد أو أحد أقربائه ولد في القرية، يذهب بنفسه إلى مكتب البلدية في "التواهي" لتسجيله هناك، ويقول إنه ولد في الحي، ويسلمهم عنوان الشارع ورقم المنزل المفترض الذي ولد فيه الطفل، وعندما ترسل البلدية إحدى العجائز للتأكد من صحّة ذلك المولود، يكون قد رتّب مع بعض العائلات التي أنجبت طفلًا في تلك الفترة، ولكثرة معاريفه عند كثير من الموظفين ومكانته الاجتماعية، فقد كان الموظفون والعجائز المُرسلات من قِبل البلدية يؤكدون صحّة ذلك، وقد مكنته تلك الطريقة من إلحاق أبنائه وأقاربه في مدارس عدن الحكومية، بدلًا عن المدارس الخاصة الأقرب للكتاتيب، أو مدارس الإرساليات البسيطة والمعاهد التجارية.
 
أما قصة قائد محمد الأغبري مع حزب الأحرار اليمنيين والجمعية اليمانية الكبرى، فتتلخص في أنه كان متشيعًا كبيرًا لرموزها الأوائل من النعمان والزبيرى ورفاقهما، ومؤمنًا بأهدافها الساعية للتغيير، وكان يوفّر لهم الوجبات على حسابه الشخصي في مطعم الفندق الذي يعمل فيه. وحينما تأسس حزب "الأحرار اليمنيين" في العام 1944، تبرّع بحُلي ابنته دعمًا لمالية الحزب، كما يقول عبدالرحمن نعمان.
 
وبعد أربعة أعوام من تأسيس الحزب، كان ضمن مجاميع الفدائيين، التي صعدت من عدن إلى صنعاء مع عبده عبدالله الدحان، ومحمد عبده الأغبري، وسعيد أحمد طاهر، ومحمد سعيد مدعُر، وآخرين من نادي "الاتحاد الأغبري"، الذي جهَّز أربعين فدائيًا في عملية دعم وفداء للحركة الدستورية في فبراير 1948.
 
استشهد حينها محمد عبده والد المؤرخ والأديب علي محمد عبده، وأصيب سعيد أحمد طاهر، أما هو وعبده الدحان فاعتقلا لسنوات في سجن "القلعة" في صنعاء، وحينما اُفرج عنه عاد إلى عدن، ليُسهم في تأسيس الاتحاد اليمني العام 1952، الذي صار واجهة لعمل سياسي جديد، انتظم تحت لافتاته من تبقى من ناشطي حزب "الأحرار اليمنيين"، بعد التصفيات المروِّعة لكثير من رموز الحركة، والزّج بالبقية في سجن "نافع" الرهيب في مدينة "حجة" بعد فشل الحركة.
عاد -بعد تجربته القاسية في السجن- إلى عمله ككبير الطباخين في "مارينا هوتيل" قبل احتراقه، وبدأ بمساعدة الطلاب من موقعه هذا. إذ كان هائل أحمد (صاحب فرن الأغبري) يخصص عددًا محددًا من الروتي (نوع من أنواع الخبز) لكل طالب يُقيم في سطح الفرن أو في مقر النادي. فيذهب الطلاب إلى موقع عمل قائد محمد في مطعم الفندق، فيقوم بحشو خبزهم (الروتي) بالزّبدة والمربّى قبل ذهابهم إلى المدارس.
 
بعد ثورة سبتمبر مباشرة، جاء إلى صنعاء برفقة عبده عبدالله الدحان، وافتتحا في أحد المباني القريبة من القصر الجمهوري (بيت الشامي)، أول فندق عصري في صنعاء، سمياه "فندق صنعاء". قدَّما فيه كل خبراتهما التي اكتسبها الأول من عمله في "مارينا هوتيل"، والثاني من إدارته لفندق "قصر الجزيرة" في ميدان "كريتر". وخلاصة ذلك تمثلت بخدمات فندقية جديدة، لم تعهدها مدينة صنعاء، وكان الفندق مكانًا تلتقي فيه النّخبة السياسية، التي تواجدت في المدينة أول مراحل عصرنتها بعد ثورة سبتمبر 1962.
 
بعد سنوات، تفرّغ قائد محمد للعمل التعاوني في المنطقة، وتُوفي في أوائل الثمانينيات، وهو شيخ كبير يجري ويلهث بين حيفان، وتعز، وصنعاء، والحديدة، وغيرها من مدن اليمن، من أجل دعم حركة التطوّر، والتعاون، وتوفير الماء، والنور، والطريق، والعلاج، والعلم لأبناء بلدته، كما يقول أمين أحمد نعمان.
نجله الكبير محمد قائد محمد الأغبري تخرج طبيبًا من جامعة "الإسكندرية"، مطلع الستينيات (1963م)، متخصصًا في الطب الوقائي، وتدرج في مواقعه كخبير متخصص في منظمة الصحة العالمية في الهند والصومال، قبل أن يصبح مديرًا لمكافحة الأمراض الوبائية في مناطق "شرق البحر الأبيض المتوسط". هذا الطبيب الماهر، الذي توفي في مايو 1986، في صنعاء، كان تولى حقيبة وزارة الصحة في "الجمهورية العربية اليمنية" لمرتين بين عامي 1970 و1974م.
أما نجله الأوسط فؤاد قائد محمد، خريج "القاهرة"، تخصص اقتصاد، من إحدى الجامعات الأمريكية، فقد تولى العديد من الحقائب الوزارية، منها: الاقتصاد والتموين والتجارة، والتخطيط، حتى أواخر ثمانينيات القرن الماضي.
وإلى جانب هذين الاسمين، أنجب قائد محمد مجموعة من الأبناء، صاروا خبراء مشهودًا لهم في مجالات التخصص الذي انغمسوا فيه، منهم المهندس عبدالرحمن قائد، الخبير النفطي المتميّز، والبروفيسور طارق الأغبري، خبير الاقتصاد الزراعي المرموق، الذي غادرنا قبل فترة قصيرة، بعد حياة مهنية رائدة كأستاذ في كلية الزراعة بجامعة صنعاء، وابنة رائدة هي سميرة قائد محمد، التي كانت من أبرز قادة العمل النسوي في فترة الكفاح المسلح ضد الاستعمار البريطاني، وكانت تنشط تحت اسم حركي هو "مريم".
______ 
(*) الاستشهادات التي اعتمد عليها الكاتب في محتوى النص هي من مجموعة مقالات تضمنها كتاب تأبين الدكتور محمد قائد محمد الأغبري -صنعاء، يونيو 1986.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً