في أعوام الحرب العشرة، وفي سنوات الأزمة التي مهدت لها أيضًا، فقدنا الكثير من المبدعين اليمنيين شعراء، ونقادًا، وفنانين، وصحافيين، في حالة لم تتشابه بغيرها على الأقل في ثلاثة عقود، لم يميز الموت فيها بين ضحاياه، لكنه صبغ فعله بالمباغتة والكمد، وجعل من صنيعه المؤلم مستسهلًا وعاديًا في حياة الجميع، لأنه ساوى بين من احتمى ببطن الأرض، ومن يدب منكسرًا على ظهرها. وهنا جردة (ناقصة) لبعض مبدعي اليمن الذين رحلوا بصمت في سنوات الأزمة والحرب.
ففي أبريل 2013 توفي بعدن جراء مضاعفات الفشل الكلوي الفنان الأبيني علي سيود الذي كان يجيد أداء أغلب الألوان الغنائية، ومنها الصنعاني واللحجي والعدني والحضرمي، عزفًا وغناء، ويعي بشكل نابه المرجعيات الشعبية للغناء التقليدي في أبين ولحج، وله ألحانه الخاصة المستوحاة من هذه البيئات، و له لحن أغنية مشهورة زاوجها بإيقاعات سواحلية رائعة، وهي "على نفسك قفلت الباب"، وعرفت أكثر بصوت الفنان نائف عوض.
في ربيع العام 2014، حين كانت الحرب تشحذ سكاكينها على الأحجار القاسية في صعدة وعمران، كان جسد الشاعر والناقد عبدالله علوان يقطِر آخر مباهجه في 24 مارس، على أحد أسرّة مستشفى الثورة بصنعاء، بعد اعتلالات سكرية طويلة، رافق هذا الرحيل صمت مطبق من المؤسسات الثقافية، وجحود لا يعقل. عبدالله علوان أحد الأدباء العصاميين الناحتين في الصخر، وفي عقود أربعة ظل وفيًا لمشروعه الإبداعي كشاعر وناقد وكاتب قصة، ومبشِّر بالكتابة الشابة والجديدة. أصدر في حياته مجموعتين شعريتين ومجموعة قصصية وثلاثة كنب نقدية، وترك عشر مخطوطات مختلفة، تبخرت كل وعود طبعها بعد رحيله. أما أهم أعماله الشعرية "مزامير الزمن القرمطي" والقصصية "رقبة الزير" والنقدية "القصة اليمنية الموقف والاسلوب" و"المأسوي والهزلي في شعر البردوني".
وفي خريف ذات العام (منتصف شهر سبتمبر2014) رحل الشاعر الغنائي الأبيني الكبير عمر عبدالله نسير، الملهم الأكبر للفنان محمد محسن عطروش وخاله. فهو الذي كتب له كلمات أغانيه الخالدة "يا رب من له حبيب/ جاني جوابك/ طبع الزمان هكذا/ بالله اعطني من دهلك سبوله/ يا عيل يا طائر/ بائعات البلس والقات"، وغيرها من الأغاني التي حفظها اليمنيون شمالًا وجنوبًا.
في 8 مارس 2015 توفي في أحد مستشفيات القاهرة، الأديب والصحافي عبدالودود المطري، فجأة، وهو أحد الأسماء المعروفة في سماء الصحافة منذ كان محررًا للصفحة الثقافية في صحيفة "الثورة" بصنعاء، أواسط الثمانينيات. مطلع التسعينيات أصدر صحيفة "الراصد" الأهلية، لكنه بعد حرب صيف 94 غادر إلى لندن، وانضم إلى المعارضة الجنوبية، وهو الشمالي. عن تجربته في لندن بين 94 و97، أصدر كتابه "تائه في بلاد الإنجليز"، وهو خليط من النصوص والمذكرات اليومية الساخرة. وأصدر في القاهرة ديوان شعر حمل عنوان "خمسة شروط لدخول جهنم".
في تموز/ يوليو 2015، توفي بجنوب إفريقيا الصحافي فارس حمود غانم، الذي استقر هناك برفقة عائلته في السنوات الأخيرة قبل رحيله، وتوفي إثر جلطة قلبية، بعد معاناته الطويلة مع مضاعفات مرض الكبد، وكان فارس أحد الأسماء الجديدة في عالم الصحافة الذي تشكل في حواضن التعددية والإعلام غير المكبل مطلع التسعينيات.
في 12 أكتوبر 2015، وبلا مقدمات، مات عبدالكافي الرحبي عن 57 عامًا. الناقد والباحث المجتهد لم يعبأ أحد برحيله، وما فعلناه نحن أصدقاءه رتبنا تأبينًا أربعينيًا على عجل، وزعنا فيه مطوية بدائية عنه، بمعية كتابه الثاني "فضاء الخطاب النقدي"، والذي صدر بعد رحيله، وبعد أكثر من عشرة أعوام على صدور كتابة الأول المعنون بـ"أعمدة الشمس". ويشكل الكتابان معًا تجربة نقدية رائدة، وما تُبينه لمتفحصها أن ثمة مثقفًا متنوعًا، تُظهِر مهاراته جملة الاشتغالات النقدية والبحثية والدرسية التي قام بها على مدى ثلاثة عقود، ملامسًا وبوعي مختلف، العديد من القضايا والموضوعات الفكرية والتاريخية والأدبية، الحاضرة كمكونات في البنية الثقافية للمجتمع، والمؤثرات العميقة فيها، التي أحدثتها عملية التثاقف القرائي، الذي خاضته النخب الثقافية والتنويريون اليمنيون على مدى الثمانين عامًا الماضية، والتي قارب إسهاماتها تلك، من أكثر الزوايا جدة وعقلانية.
وفي أحد مشافي القاهرة توفي شابًا خالد الصوفي، الإعلامي المعروف، وأستاذ العلاقات العامة في كلية الإعلام بجامعة صنعاء، مطلع يناير 2016، بعد معاناة مؤلمة من الإصابة التي تعرض لها في ثورة 2011، نتيجة اعتداء جنود عليه بالضرب المبرح. ولخالد كتاب مهم عنوانه "دور الإعلام في تشكيل اتجاهات النخبة الأكاديمية العربية في اليمن نحو الربيع العربي: دراسـة ميدانيـة"، بالاشتراك مع علي البريهي.
وفي أحد مشافي عدن، توفي في مطلع فبراير 2016، الدكتور عبدالمطلب أحمد جبر، الأكاديمي وأستاذ النقد الأدبي في كلية التربية بجامعة عدن، بعد معاناة طويلة مع سرطان الرئة. وجبر أحد قيادات اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، وشغل فيه موقع الأمين الثقافي، وتاليًا رئيس تحرير مجلة "الحكمة".
بعيدًا عن مسقط رأسه مدينة عدن،، رحل بصمت في مدينة نيويورك الشاعر الرائد عبدالرحمن فخري، في 21 اغسطس 2016. لم أذكر أن أحد الرسميين أصدر بيان عزاء في رحيله. وفخري أحد رواد شعر الحداثة ونقدها في اليمن، وأحد آباء التمرد، وظلت مجموعته الأولى "نقوش على حجر العصر"، 1978، أيقونة الصوت السبعيني، وكتابه النقدي "الكلمة والكلمة الأخرى -إضاءة نقدية على الأدب اليمني المعاصر"، 1983، عنوانًا للمشاكسة النقدية بمقارباته الضاجة لأكثر الموضوعات إشكالية مثل "الثورة وهموم الأدب"، "حول التراث والعصر"، "شاعر قديم في حلة جديدة" عن الجرادة، و"بائع التوابل الأول" عبدالله باذيب. وفي 1988 صدرت له مختارات باللغة الإنجليزية ضمن "ليالي الأدب العربي الحديث".
صحيح أن انشغاله بالعمل الدولي كخبير ومستشار إعلامي في الأمم المتحدة خفف كثيرًا من حضوره داخل المشهد، لكنه حينما عاد مطلع الألفية، وأصدر مجموعته الثانية "من الأغاني ما أحزن الأصفهاني"، 2000، وأعقبه بثالثة حملت عنوان "من جعبة الفراشة"، 2007، كان لم يزل تنويريًا، مؤمنًا بالجديد كأداة للتغيير. لكنه لم يستطع الإقامة في بلد بدأ بالتهتك، فاختار أن يموت بعيدًا في مغتربه البارد غربًا.
وفي شتاء العام ذاته، وبعيدًا مدينة عدن أيضًا، رحل الفنان الرائد فرسان خليفة هناك في أبوظبي، في 20 نوفمبر 2016. وخليفة أحد رموز الأغنية العدنية واليمنية بشكل عام. غنى لكبار الشعراء وشعراء الأغنية المعروفين عشرات القصائد. للشاعر محمد سعيد جرادة غنى في 1957 الأغنية التي انتشر بها "حيّا ومر مثل القمر"، وغنى للشعراء أحمد الجابري وأحمد شريف الرفاعي وعبدالله سلام ناجي وسعيد الشيباني وزكي بركات، ولم تزل أغانيه مثل "روح الشروق" و"نجم الصباح بكر" و"ياخي الصغير أنت العديل على أبي"، الجزء الأهم من ذاكرة الأغنية اليمنية، التي اعتمدت البساطة اللحنية، وعامية الكلمات، التي لم تعقها حواجز اللهجة فوصلت إلى ذائقات التلقي المختلفة بسلاسة.
في أول أيام العام 2017 مات في أحد مشافي صنعاء أحمد قاسم دماج، المناضل والمثقف والأديب المعروف، وأحد رموز اليمن الجديد. تساءلت بعد وفاته لو أن العمر امتد به قليلًا هل كان سيفرد صفحة إضافية لسيرة اليمن، التي تتسرب من بين يديه، وتتبخر من حلمه! أم أنه اختار الرحيل، حتى لا يرى موتًا ناجزًا للوطن، بسكاكين القتلة "المشحوذات" بعناية، على حجر الحقد الخشن؟!
اليمن انحفرت في وجدانه على هيئة روح كبيرة، وارتسمت بكل تفاصيلها بوعيه كقارئ متفحص لتاريخها البعيد، وباعتباره شاهدًا وفاعلًا في معتركات أحداثها المعاصرة. والراحل أحد رموز التغيير في البلاد، وأبرز مؤسسي اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، ورئيسه الطويل. وعلى مدى ستة عقود كان شاهدًا على كل منعطفات السياسة شمالًا وجنوبًا.
(يتبع)