في تقديمه لديوان "دق القاع" للشاعر أحمد علي النصري (1933-1997)، والصادر عام 1989، قال الأستاذ عمر الجاوي عن صاحب الديوان الذي كان موظفًا بسيطًا في إدارة الانتاج السينمائي بوزارة الثقافة طيلة عقدي السبعينيات والثمانينيات:
"ولد النصري في لحج المشهورة بخضرتها وطيبها وريحانها، وهو واحد من كوكبة من الشعراء الغنائيين الذين أثروا الفن اليمني عقودًا طويلة من هذا القرن {القرن الماضي}، وكانوا ومازالوا استمرارًا جميلًا لفن القمندان كلمة ولحنًا وتذوقًا".
النصري هو تلميذ للشاعر الكبير عبدالله هادي سُبيت، وتلقى على يديه مبادئ القراءة والكتابة حينما كان الأخير معلمًا في المدرسة المحسنية العبدلية بالحوطة في أربعينيات القرن الماضي، والذي قال عنه لاحقًا إنه "ملحمة شعرية رائعة في وفائه وإخلاصه ونبله واحتفائه بالكلمة المشرقة وباللحن الرائع".
وهذا الوفاء تجسد في إهداء الديوان "إلى من أدين له بالوفاء.. إلى معلمي وأستاذي القدير الشاعر عبدالله هادي سبيت".
الديوان حمل عنوان القصيدة الأولى فيه "دق القاع"، المؤرخة في فبراير 1965، وقام بتلحينها وقتها محسن أحمد مهدي، وأداها بلحنه الفنان الراحل يسلم حين صالح، قبل أن يقوم الفنان أحمد قاسم بتلحينها بشكل مختلف قليلًا، وأداها بصوته، ثم أدتها الفنانة رجاء باسودان.
"دق القاع دقه لا تجهب ولا/ شق البحر شقه ما دامك حلى/ إن جالك حبيبك احذر تهمله/ شوفك لا هملته تصبح مشكلة"
وعلى منوالها كتب الشاعر عبدالله عبدالوهاب نعمان قصيدة ذائعة بذات العنوان، قام بتلحينها وأدائها الفنان أيوب طارش، منتصف السبعينيات:
"دُق القاع دُقه لا تمشي دلا/ دق القاع دقه ما دامك حلا/ واعطِ القلب حقه من دنيا السلا"
ديوان النصري احتوى على العديد من النصوص الغنائية المعروفة، ومنها قصيدة "يا سماء صُبّي" المستلهمة من التراث الشعبي وألحانه في لحج، والتي تقول بعض كلماتها:
جينا وفي الروضة/ قمري في الجنة/ نظرات له تسبي/ يا سما صبي
ذقنا من الروضة/ خمر من دنه/ ومائها المكبي/ يا سما صبي
شفنا في الروضة/ بعض من فنه/ وما خلق ربي/ يا سما صبي
ماشي كما الروضة/ والذي فيها/ في الصين أو بُمبي/ يا سما صبّي
احتوى ديوان "دق القاع" الجزء الأهم من المساجلة الشعرية التي تحولت إلى أغنية "كحيل الطرف ما بلقى مثيله"، مع الشعراء عبدالله هادي سبيت، ومحسن صالح مهدي، ومحسن أحمد مهدي، وصالح مهدي، في العام 1956، في ذروة نشاط الندوة الموسيقية اللحجية (العبدلية).. هذه المساجلة قام بتلحينها وغنائها أول مرة الفنان الراحل فضل محمد اللحجي، وتقول الكلمات التي كتبها النصري:
مسك لي سيف في قلبي وقطّع/ وانا صابر وأقول أيوه وهي له
قطع قلبي على ستة وسبّع/ وقلبي لم يزل عاده حلي له
هجرني باعني والعين تدمع/ وايش اعمل ولا باليد حيلة
مسيت أعمى وذكره جاء ونوّر/ مسح لي هم قده من ألف ليلة
خياله مر في قلبي ودوّر/ جزع شاخط ولا كني عميله
حبيب القلب قلبه ليه تحجر/ مع اني من الأبجد زميله
غير أن أهم قصائد الديوان وأكثرها ذيوعًا قصيدة "والله ما تحلحل حتى يلتفت"، التي قام بتلحينها منتصف الخمسينيات الأمير محسن بن أحمد مهدي العبدلي، وأداها أول مرة الفنان حسن كريدي، ثم شقيقته الصغرى فطوم كريدي، قبل أن تصير واحدة من الأغاني الرائجة بأصوات فناني لحج المشهورين، وعلى رأسهم فيصل علوي.
من قصائد الديوان البديعة، والتي تحولت إلى أغنية رائجة بصوت الفنان فيصل علوي، قصيدة ظنون، التي تقول بعض أبياتها:
أنا والظن في قومة وسقطة/ من اللي فاتني قرب المحطة
بلا أسباب يا ريت بس غلطة/ أكون مرتاح من قومة وسقطة
تركني نصف ميت في ظنوني/ ولا أدري لمن أشكي ظنوني
ومن يجزع تفرج لا عيوني/ يقول مسكين قلبه فيه جلطة
الفنانة اللحجية كاميليا عنبر أعادت تقديمها من جديد، وبصوتها القوي صارت أكثر انتشارًا خارج حاضنتها الثقافية رغم خصوصيتها اللهجوية المحلية الصارخة.
ما با اترك محلي حتى لو يـبست/ وان يبست رجولي با قول له التفت
وان ماشي التفت لي بلعب له توست/ والله ما اْتحلحل حتى يلتفت
شي هذا تكبّر أو ذي تِحْجِبَه/ أو يظهر بأنه ماشي منتبه
يحسبني باولّي، أو أني يئستْ/ والله ما اْتحلحل حتى يلتفت
ما بيأس ولا ببترك ذا المكان/ خلّي مَنْ جزع يجزع حتى ثمان
وانْ قلوا تجنّن، باجوّب جننت/ والله ما اْتحلحل حتى يلتفت
ليه هـذا مقفّي؟ أيش ذي كلّفه؟/ خاف يومه مقفّي ماشي باعرفه
وا خلّي عرفتك بس أنته التفت/ والله ما اْتحلحل حتى يلتفت
الملاحظة التي سجلها الجاوي على بعض مفردات قصائد "دق القاع"، وأتفق معه تمامًا فيها، أنها من محكي اللهجة اللحجية الشعبية القديمة التي اختفت من التداول، ولهذا يتوجب في حال إصدار طبعة جديدة من الديوان، أن تفرد مساحات كافية لشرح الكلمات المندثرة من ألسنة التداول اليوم.