صنعاء 19C امطار خفيفة

في رثاء أبي

2025-02-27
في رثاء أبي
الحاج عبده رحمه الله - ريشة رقمية

اتصلتُ به بعدَ ظهر الجمعة (21 فبراير 2025). تحدثنا وضحكنا، وكانت من المرات النادرة التي نضحك فيها خلال الفترة الأخيرة، فغالبًا ما يكون متعبًا أو متهيِّئًا للنوم. وحصلتُ منه على بعض الدعوات المعتادة. كانت العافية جليةً من خلال صوته وكلامه. و45 دقيقةً بعد منتصف الليل، جاءني الخبر الصاعق والنبأ الفاجع، إذ قال لي أخي الكبير أحمد، بعد تمهيدٍ قصير: أبي مات!

الحاج عبده مع فائز

وفي التفاصيل التي سردتها أختي إيمان، أنها اطمأنت عليه، وقد تهيأ للنوم، بعد أن تناول عشاءه، وكل شيءٍ على ما يرام، قبل أن تستيقظ لاحقًا على صوته خارج غرفته، يخبرها بأنه سيموت. أعادته إلى مرقده، وهنالك لفظ أنفاسه. لم يستغرق الأمر سوى دقائقَ معدودةٍ. واستغرق الأمر دقائقَ أكثرَ من ذلك، في ترددهم قبل إبلاغي هاتفيًا. هم في القرية الجبلية، الواقعة في محافظة تعز، وأنا في العاصمة صنعاء، والانتقال من مكان إقامتي إلى مسقط رأسي، قد يستغرق 20 ساعة. لذلك أقنعوني بعدم السفر، لإصرارهم على إتمام مراسيم الدفن صباحًا.

لم أرَه منذ أن مكث، هو ووالدتي، في صنعاء، أشهرًا، قبل خمسة أعوام، بينما مضى على آخر زيارة لي إلى القرية، أكثرُ من عشر سنوات. الوضع الأمني والصراع العسكري الدائر في البلاد منذ أكثرَ من عقدٍ من الزمن، أدَّيا إلى نتائجَ قاسيةٍ وشديدة الخطورة على المواطنين لجهة صعوبة التنقل ومشاقّ الطرق ومتاعب السفر ومضاعفة تكاليفه الباهظة، فضلًا عن المخاطر الناجمة عن الفرز السياسي والمناطقي، والتهم الكيدية التي تطلقها الأطراف المتحكّمة بمناطق البلاد، ويكون ضحاياها أناسٌ كل ما أرادوه هو زيارة أهاليهم، أو السعي في أرض وطنهم بحثًا عن العمل ومصدر الرزق، وكثيرٌ منهم لا علاقة لهم بأطراف الصراع، ولا يفقهون ماهية الصراع ذاته.

إن فقد الأب مؤلمٌ وعصيبٌ. إنه شعورٌ يفوق الوصف، ويصعب تحمّله. لم أكن، قبل هذا، أتخيّل أن أعيشه، وأتجرّع مرارته، وإني لأسمع وأحسّ دموع القلب تنحت بين أضلعي، عوض دموع العين التي تحجّرت في مآقيها، وانحبست في محاجرها، واستعصت على مغادرة مقلتيَّ، لكأنها أرخص وأهون من أن تبذل نفسها تعبيرًا عن حزني الجليل الذي يعصر أحشائي عصرًا، والكمد الذي يستنزف آهاتي الحرَّى.

ولقد أجزم بأنني كنت أظنني أقدَرَ على تحمُّل ثقل الفراق، وأشجعَ من أن يرهبني هول الفاجعة، وأنني سوف آوي إلى ركنٍ يعصمني من الحزن، لكنني فقدتُ كل أسلحتي تلك، وجُردت من جيشي، فصرتُ وحيدًا في مواجهة ضعفي، وأيقنت أنني مهما كبرتُ، مهما استغنيت، واستقللت، ومهما ابتعدت، فما أنا بناجٍ من الشعور باليُتم؛ ذاك الشعور الرهيب الذي يصنعه موت الأب.

وأدركتُ أن العلاقة مع الأب ليست زمنيةً، فتنتهي في مرحلةٍ ما من العمر، وليست بماديةٍ، فتنفرط بانقضاء الحاجة إلى الرعاية، ولا هي حسية، فتنعدم ببُعد المسافة. إنها علاقةٌ فطريةٌ، تولد بميلادنا، ولا تنقطع بموت أحدنا. علاقةٌ باطنها روحيٌّ ممتدٌّ حدَّ القداسة والمثال، وظاهرها قلبيٌّ يرتقي منازل السمو والكمال.

*

في حياته، كان أبي يمثل حالةً إنسانية ملهِمة، ويجسد نموذجًا أبويًا فريدًا، وكان حكيمًا إذا تحدث، حليمًا إذا غضب، رحيمًا إذا عاقب.

تقطر الحكمة من فيه، قولًا رشيدًا، ونصحًا أكيدًا، ورأيًا سديدًا. يطرّز حديثه بقطعٍ من خبرته المديدة، ولمحاتٍ من تجاربه العديدة، ويزخرفه بالأمثال والحكم السائرة، ويزيّنه بقصصٍ من الأساطير المروية، وحكاياتٍ شهد أحداثها أو وقعت قريبًا منه، زمانيًا أو مكانيًا.

ذاكرته زاخرةٌ بالحكايا والمواقف والأشعار والتجارب؛ يضعها في ثنايا حديثه حيثما يجب أن توضع، وينقشها نقشًا كفنانٍ بارعٍ، ويوشّي كل حديثٍ بما يناسبه من استدعاءاتٍ داعمةٍ، أو استشهاداتٍ ملائمةٍ، ويضفي عليه شذراتٍ من الفكاهة والتندّر، فلا يأتي فيه حشوٌ مخلٌّ، ولا يعتريه زائدٌ مملٌّ.

نظرته ثاقبةٌ وفاحصةٌ؛ يتفكّر في الماضي، فيستخلص الدروس والعبر، لا ليستفيد منها وحسب، وإنما يحرص أن ينقلها إلى الآخرين ممن يهمّه أمرهم، يتأمّل الحاضر، فيلتقط من الأحداث مكنونها، ومن الوقائع كنهها، ويستشرف المستقبل، متبيّنًا مآلات الأمور، وملتمسًا صيرورة الأشياء.

كان ذا فراسةٍ صائبةٍ، وتحليلٍ عميقٍ. توقعاته يصدقها اليقين، وتنبؤاته لا يعتريها الشك، وتحليلاته لا تخالطها الظنون، وأحكامه لا تحتمل البطلان. يعرف الأشخاص الجيدين، ويألفهم سريعًا، ويُظهر الودّ لمستحقيه، ويجذبهم إليه بسرعةٍ.

حين يغضب، فإنه يمسك أعصابه، فلا تنفلت، ولا يفقد السيطرة عليها، ويمتلك زمام نفسه، فلا يتمادى، ولا يتعدَّى، أو يتجاوز حدود الاحتمال. يلزم أخلاقيات الخصومة، فلا يشتم، ويلتزم آداب الخلاف، فلا يفجر.

يجنح للسلم دومًا، وينحو إلى السلام، حتى لو دفع الثمن ظلمًا. يتجنّب الإشكالات، ويبتعد عن النزاعات، وإن كان مقابل ذلك تحمّل شديد المتاعب، وتجرّع مرارة القهر. ولعل ذلك أكثر ما ورثته منه.

كما كان يتسامح كثيرًا، ويسامح بكثرةٍ، ويعفو ويصفح وهو القادر، ولا يُكنُّ ضغينةً لمن عاداه، ولا يحمل حقدًا على من خاصمه.

تسكن الرحمة قلبه، وتستوطن الشفقة شغافه، فلا يظلم ولا يجور، ولا يضيم ولا يطغى. تأخذه الرأفة، فيُحسن، ويتملكه العطف، فيحنو، وتنضح نفسه الطيّبة، بالطيّب من كل شيءٍ. وإن اضطرّ إلى عقابٍ، فمع وقف التنفيذ، وإن استلزم الأمر غير ذلك، فالأخفّ والأدنى.

هذا ما وجدتُ عليه أبي. الرجل الذي عصرته الظروف القاهرة، وعاصر المواقف الجائرة، وعصفت به البأساء، وخاض التجارب المريرة، فاجتاز الصعاب والعقبات، وتحمّل الشدائد والمشاقّ، ونهض إثر كل عثرةٍ، وخرج من كل تجربةٍ بعبرةٍ. حتى هزمته أخيرًا ذبحةٌ صدرية مفاجئة، ليفارق دنيانا عن عمرٍ ناهز 82 عامًا.

 

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً