لا يميل التاريخ دائمًا إلى من تصدروا المشهد السياسي، واحتلوا العناوين، بقدر ما ينحاز إلى الشخصيات التي تركت بصمة حقيقية في وعي الأمم. وفي تاريخ اليمن الحديث، برزت أسماء عديدة بعضها تألق لفترة ثم خبا، وأخرى ظلت شامخة بفضل ثباتها على المبدأ وانحيازها للمصلحة الوطنية العليا، ومن بين هذه الأسماء القليلة المتميّزة يبرز الأستاذ يحيى حسين العرشي بوصفه رجل دولة حقيقيًا، وصوتًا للاعتدال، حافظ على توازنه ووطنيته في مختلف المناصب التي تقلدها، وفي مختلف المحطات الحرجة التي مر بها اليمن.
رجل دولة بعيدًا عن الأضواء
لم يكن يحيى حسين العرشي يومًا ممن يسعون إلى الأضواء أو يسابقون الآخرين نحو المناصب؛ فمعظم المحطات التي شغلها جاءت من واقع ثقة الآخرين بقدراته ونزاهته وحكمته، ونظرًا لتلك الخصال، تكرر تكليفه بعدد من الحقائب الوزارية والمهام الدبلوماسية الحساسة في مختلف الحِقب التاريخية الحديثة، لأنه يدرك المعنى الحقيقي لـ"المسؤولية الوطنية".
لقد جسّد العرشي مفهوم "خادم الدولة اليمنية" لا "مالك السلطة". وفي بيئة سياسية كثيرًا ما شهدت صراعات حادة بين النخب، تميّز هو بقدرته على إدارة الملفات الحساسة بعيدًا عن الدعاية الشخصية أو المكاسب المؤقتة. فهو يدرك أن المنصب تكليف لا تشريف، وأن القيمة الحقيقية للساسة تكمن في إسهاماتهم في بناء الوطن، وليس في حجم ما حققوه من منافع.
سياسي بحجم الفكرة
يرى كثير من اليمنيين في شخصية العرشي صورة السياسي الذي يتخطى حدود المنصب إلى آفاق أرحب، حيث الانشغال بهمّ الوطن ككل. فأينما وُجد، سواء كوزير للثقافة والإعلام، أو وزير لشؤون الوحدة، أو حتى سفير للجمهورية اليمنية، حمل هاجس تثبيت أركان الدولة وتعزيز حضورها الداخلي والخارجي.
لقد أدرك يحيى حسين العرشي، منذ وقت مبكر، أن قضية الوحدة اليمنية ليست مجرد شأنٍ سياسي عابر أو اتفاقية مؤقتة بين سلطتين، بل هي مشروع وطني شامل يستوجب تصميمًا دستوريًا ورؤية بعيدة المدى تضمن تحقيق العدالة والتنمية والتكافؤ لجميع أبناء الوطن. وعندما تولى مسؤولية وزارة شؤون الوحدة، حمل هذه القضية على عاتقه بوصفها هاجسًا شخصيًا يتجاوز منطق الوظيفة الرسمية، ووجد في رفاقٍ وطنيين أمثال راشد محمد ثابت، وباذيب، وعشيش، سندًا قويًا في صوغ الأفكار التي من شأنها أن تزيل الحواجز بين الشمال والجنوب، فأسهموا معًا في بناء رؤية تضع الدستور والحوكمة الرشيدة في صلب مشروع الوحدة.. وقد تمخض هذا التعاون عن مفاوضات مثمرة أفضت إلى صياغة دستور حديث يحدد شكل الدولة القادمة وطبيعة نظامها السياسي، ويؤسس لقواعد التعددية وحماية الحقوق والحريات، الأمر الذي فتح أمام اليمنيين بابًا جديدًا نحو الاندماج الوطني.
لم يقتصر الدور الوطني للأستاذ يحيى حسين العرشي، على ملف الوحدة اليمنية، رغم أنه كان من الشخصيات المحورية التي لعبت دورًا كبيرًا في مراحل التفاوض والإعداد لتحقيق حلم اليمنيين في التوحيد، بل امتدت إسهاماته لتشمل العديد من الميادين الحيوية في بناء الدولة اليمنية الحديثة. لقد تقلد العرشي وزارة الإعلام والثقافة في فترات دقيقة من تاريخ اليمن، وأسهم من خلالها في رسم السياسة الإعلامية والثقافية للدولة، إذ عمل على تعزيز الهوية الوطنية، ودعم الإنتاج الثقافي والفني، وفتح المجال أمام حرية التعبير المسؤولة في فترة كانت البلاد بحاجة ماسة لصوت وطني موحد.
ثبات رغم التقلبات السياسية
في بلد مثل اليمن، اتسمت فترات طويلة منه بالتقلبات السياسية الحادة، من ثورات وتحولات وانقلابات واضطرابات، كان كثير من السياسيين يغيرون ولاءاتهم ومواقفهم تبعًا للمصالح والضغوط الآنية. لكن العرشي قدّم نموذجًا مغايرًا في الساحة السياسية.
سياسي لا يساوم
فحتى في أحلك الظروف التي مرت بها اليمن، ظل وفيًا لفكرة الدولة الجامعة، وصوتًا معارضًا لأي توجهات قد تنزلق بالوطن إلى صراعات داخلية لا نهاية لها، ولم يكن مستعدًا للمشاركة في مغامرات أو تحالفات ضيقة تُقصي الآخرين، لأنه يدرك جيدًا أن اليمن أكبر من أي فصيل أو تحزب.
الوحدة اليمنية.. خيار لا مساومة عليه
لقد أدرك العرشي، منذ وقت مبكر، أن وحدة اليمن ليست مجرد مكسب سياسي عابر، بل خيار استراتيجي يجسد تطلعات الشعب اليمني على مدى عقود طويلة.. وعندما تولى مسؤولية وزارة شؤون الوحدة، حمل على عاتقه تحدي إبراز الوحدة باعتبارها قيمة وطنية عليا، تتجاوز حدود الإطار السياسي إلى آفاق ثقافية واجتماعية واقتصادية.
ومع اعترافه بوجود إخفاقات في إدارة هذا المشروع، لم ينجر إلى دعوات التقسيم والتشظي، بل بقي متمسكًا بالرؤية التي ترى في تصحيح الأخطاء وتعزيز الحكم الرشيد والتوزيع العادل للثروة والسلطة بين كل أبناء اليمني جنوبًا وشمالًا؛ شرقًا وغربًا.. السبيل الأمثل لترسيخ الوحدة كمصلحة حقيقة يلمسها الناس ويعيشون خيرات هذا المُنجز العظيم.
بالنسبة للأستاذ يحيى حسين العرشي، فإن تفتيت اليمن هو طريق للعودة إلى الوراء يعيد البلاد إلى صراعات مناطقية تتنازع فيها القوى الداخلية، وتعود إلى الحقبات التي تضررت فيها الوحدة الوطنية، حيث تستفيد من هذه الفوضى والانقسامات فقط قوى خارجية معادية لا ترى في اليمن الموحد المستقر والديمقراطي مصلحة لها.. ويعتقد أن من أكبر أخطاء التاريخ هو الإصرار على تمزيق الجسد اليمني تحت شعارات ضيقة، وهو يرى أن أي مشروع يؤدي إلى التقسيم لا يخدم سوى أعداء الوطن، الذين يسعون لتدمير الوحدة الوطنية واستغلال الفجوات لتعزيز مصالحهم الخاصة.
وعلى الرغم من الأوضاع الصعبة التي مرت بها البلاد، يرى العرشي أن الحل يكمن في "الوحدة العادلة والمرنة"، التي تستند إلى العدالة الاجتماعية والمساواة، ولا تفرّق بين شمال وجنوب.. شرق أو غرب، بل تضمن لكل أبناء اليمن حقهم في المشاركة في البناء والتنمية.. الوحدة العادلة لا تعني فقط جمع الشطرين الشمالي والجنوبي، بل تعني أيضًا احترام خصوصية كل منطقة، والحفاظ على التعددية السياسية والاجتماعية، وتعزيز التنوع الثقافي بما يخدم الشعب اليمني في كافة أرجاء الوطن.
العرشي كان -ولايزال- من المدافعين عن هذه الرؤية، وقد وجدت هذه المبادئ تأكيدًا لها من قبل عدد من رفاقه من جنوب الوطن العزيز، الذين عملوا جنبًا إلى جنب لتحقيق حلم الوحدة.. من أبرز هؤلاء الرفاق، القائد الشهيد سالم ربيع علي (سالمين)، الذي كان جزءًا أساسيًا من الحركة الوطنية في الجنوب، ورفيقه في النضال الوطني الرئيس علي ناصر محمد، الذي وقف مع العرشي في دعم وحدة الوطن وتوحيد الصفوف في مرحلة ما بعد الاستقلال.. كما كان هناك العديد من الشخصيات البارزة من الجنوب والشرق اليمني، الذين شاركوا في مراحل مفصلية من تاريخ الوحدة، مثل الرئيس علي سالم البيض، وعبدالفتاح إسماعيل، وصالح مصلح، والعطاس، ود. ياسين سعيد نعمان، وعمر الجاوي، وجار الله عمر، وعلي شائع، ومحمد صالح مطيع، وراشد محمد ثابت... وغيرهم من القادة العظام الذين حملوا همّ الوحدة كقيمة وطنية عليا، وبذلوا كل شيء لتحقيق مشروع يمني موحد يحقق العدالة والتنمية لجميع أطياف الشعب.
وبهذه الروح.. ظل العرشي ورفاقه من الجنوب والشمال على حد سواء، يؤكدون أن الوحدة الحقيقية لا تنبني على القسمة والفرقة (وهذا لي وهذا لك)، بل على التفاهم والتعاون المتبادل، وعلى عقد اجتماعي جديد يعيد لليمنيين كرامتهم، ويضمن لهم الأمن والازدهار في ظل دولة مدنية ديمقراطية حديثة.
ما بعد المناصب.. حكمة رجل الدولة
اليوم، ورغم ابتعاده عن واجهة المناصب التنفيذية، يظل العرشي ناشطًا في المشهد العام من خلال وجوده في مجلس الشورى، ومشاركته في النقاشات السياسية والفكرية حول مستقبل اليمن. يحمل في جعبته خبرة سياسية وإدارية ممتدة، ومواقف صلبة لا تتزعزع أمام العواصف السياسية.
هذه الخبرة المتراكمة جعلته مرجعًا مهمًا في أوقات الأزمات، يُستشار لرأيه، ويُستأنس بتجربته. ففي مرحلة متخمة بالصراعات، نادرًا ما نجد شخصية تحظى بالاحترام من مختلف الأطراف، لكن العرشي استطاع بفضل نزاهته وترفعه عن المكاسب الشخصية، أن يحافظ على هذه المكانة الفريدة.
حاجتنا لأمثاله
في ظل التحديات الراهنة التي تواجه اليمن، تغدو الحاجة ملحّة إلى شخصيات تشبه العرشي في عقلانيتها ووطنيتها وثباتها. إنّ المشهد اليمني المكتظ بالأزمات والصراعات يتطلب عقليات تسعى للحل والبناء، لا لزيادة الانقسامات.
اليوم، أكثر من أي وقت مضى، يحتاج اليمن إلى نخبة سياسية تملك الرؤية الممتدة والأفق الواسع، وتدرك أن مصالح الشعب تتقدم على أي مكاسب ضيقة. وفي هذا السياق، يبقى يحيى حسين العرشي نموذجًا يحتذى به، ورمزًا للسياسي الذي يعلو بمبادئه فوق الرهانات الآنية، ويضع مصلحة اليمن فوق كل اعتبار.
رؤيته للمستقبل وموقفه من القضايا الراهنة
يرى الأستاذ يحيى حسين العرشي أن مستقبل اليمن يعتمد بشكل رئيسي على بناء دولة مدنية ديمقراطية، تُعلي من شأن حقوق الإنسان، وتضمن العدالة والمساواة لجميع أبناء الشعب اليمني. في سياق القضايا الراهنة، يؤكد العرشي على أهمية الحوار الوطني الشامل كأساس لحل الأزمات السياسية والاجتماعية التي تواجه البلاد. من خلال التحالف المدني للسلم والمصالحة الوطنية الذي يرأس فيه مكوّن الشخصيات الوطنية، لا يدخر جهدًا في بذل ما يمكنه لتعزيز التفاهم بين مختلف الأطراف السياسية والاجتماعية في اليمن، داعيًا إلى نبذ العنف والصراعات الداخلية والتوجه نحو بناء توافق وطني يحقق الاستقرار.
وبالرغم من الدور الكبير الذي لعبه العرشي في بناء الدولة اليمنية الحديثة، فإنه واجه العديد من التحديات السياسية والاقتصادية التي عصفت بالبلاد في مراحل مختلفة، تعامل معها بحكمة ومرونة، محافظًا على ثباته على المبادئ الوطنية الحاكمة لثورتي سبتمبر وأكتوبر، والتي ظل يدافع عنها طوال مسيرته.. كان العرشي دائمًا يسعى إلى بناء جسر من التفاهم بين مختلف القوى السياسية والمجتمعية، وقد برزت هذه الروح في مواقفه السياسية والقرارات التي اتخذها في فترات دقيقة من تاريخ اليمن.
وحين تُعاد كتابة التاريخ المعاصر لليمن، سيظل اسم يحيى حسين العرشي حاضرًا كأحد أولئك الذين حفظوا الود للوطن، ورفضوا التفريط في وحدته واستقراره. لقد عاش بفكرته عن الدولة اليمنية الواحدة، وستبقى سيرته دليلًا على أن السياسة في أصلها شرفٌ ومسؤولية، وأن الثبات على المبادئ هو القيمة التي تخلّد أصحابها في الذاكرة الوطنية.
وقد أحسنت قناة بلقيس صنعًا؛ من خلال برنامجها الوثائقي "الشاهد" في نسخته الرابعة، الذي يقدمه الإعلامي القدير أحمد الزرقة، في إلقاء الضوء على مسيرة وسيرة الأستاذ يحيى حسين العرشي، كأحد الرموز الوطنية التي أسهمت في رسم ملامح الدولة اليمنية الحديثة، وفي سرد تفاصيل دقيقة من محطات هامة في التاريخ السياسي والإداري لليمن. ولقد استطاع البرنامج أن يوثّق شهادات العرشي عن مراحل حساسة من تاريخ اليمن، بدءًا من دوره المحوري في تأسيس المؤسسات الإعلامية، إلى كيفية مواجهته لتدخلات الغشمي والسعودية في الإعلام الرسمي، وصولًا إلى دوره الدبلوماسي ودوره الحاسم في ملف الوحدة اليمنية.
من خلال الحلقات، كشف العرشي عن كواليس صناعة القرار في مراحل معقدة، مثل تأسيس الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، وإعادة هيكلة الإعلام والثقافة، وأيضًا عن الموقف السياسي الحرج الذي أعقب اغتيال الرئيس الحمدي ثم الغشمي، ودور السعودية في ترجيح كفة علي عبدالله صالح لتولي السلطة، رغم وجود اتجاهات داخلية تدفع نحو بناء نظام مدني برلماني. كما قدم العرشي في شهاداته خلاصة تجربته في العمل الدبلوماسي، التي عكست مهاراته في تمثيل اليمن، وحرصه على تحقيق مكاسب عملية لوطنه في المحافل الدولية، كما حدث خلال عمله سفيرًا في المغرب عندما أسهم في تعزيز العلاقات الثنائية في وقت دقيق.
لقد وُفّق "الشاهد" كثيرًا في فكرة استضافة هذا الرجل وأمثاله من الشخصيات الوطنية اليمنية المؤثرة، في توثيق هذه المرحلة بكل ما تحمله من تعقيدات، واستطاع أن ينقل صورة واقعية ودقيقة عن العرشي كصانع قرار حقيقي، وكمسؤول ترك بصمة واضحة في مؤسسات الدولة اليمنية.. ويُحسب للبرنامج ومقدمه أحمد الزرقة جهودهما في تسليط الضوء على هذه الشخصية التي كانت ولاتزال جزءًا من ذاكرة الدولة اليمنية، وتجسيدًا لروح المسؤولية الوطنية في أصعب المراحل.
وحين تُعاد كتابة فصول التاريخ اليمني الحديث، سيظل اسم يحيى حسين العرشي حاضرًا كأحد القادة القلائل الذين لم يخونوا ثقة الناس، ولم يبدلوا مواقفهم، ولم ينجروا إلى الفوضى، بل ظلوا أوفياء لفكرة اليمن الكبير، الواحد، المستقر.