صنعاء 19C امطار خفيفة

قبل الخراب

قبل الخراب

قبل الخراب، كنتُ أعيش فوق الأرض، لكنني لم ألمس ترابها كفاية. كانت قدماي تسيران فوق الإسمنت، فوق البلاط البارد، فوق الأرصفة التي تفصلنا عن التراب. لم أفكر يومًا فيما تحته، لم أنحنِ لألمسه، لم أسأل كيف يتنفس وهو محبوس تحت الخرسانة. كنتُ أعبره، لكنه لم يكن يعبرني. 

 
ثم جاءت الحرب، وأخذت الإسمنت معها. محته كما تمحو الريح آثار الأقدام على الرمل. لم يبقَ بلاطٌ أضع عليه خطاي، لم تبقَ جدران تحميني من وجه الأرض العاري. وجدتُ نفسي مكشوفًا أمام التراب، بلا فاصل، بلا حاجز، بلا طبقة من المدنية تمنعني من أن أصبح جزءًا منه. 
الكاتب بجوار أرض كان يزرعها
في البداية، شعرتُ أنني غريب هنا. خائف وتائه، كنتُ أبحث عن الإسمنت كما يبحث الإنسان عن ظلّه، أبحث عن شيء صلب يردّني عن هذا الامتداد الطيني المخيف. لكن التراب لم يكن مُوحشًا كما ظننت. كان حيًّا، وكان ينتظرني. 
 
في الأيام الأولى، كنتُ أنفض الغبار عن يدي كلما لمستُه. كنتُ أخشى أن يلتصق بي، أن يترك أثره على جلدي. لكنه، شيئًا فشيئًا، بدأ يعلّمني أن أترك يدي فيه قليلًا، أن أنتظر. وحين زرعتُ حول الخيمة، شعرتُ لأول مرة أنني لا أضع بذورًا في التربة، إنما أكتب كلمات لم أنطقها من قبل. 
 
وبدأت الأرض تردّ. نبتت الأوراق الأولى كهمسات خجولة، ثم صارت تتمايل مع الريح كأنها تحاول أن تتحدث. بدأتُ أفهم، دون أن يخبرني أحد، متى تكون التربة عطشى، متى تحتاج أن أتركها ترتاح، متى يكفيها القليل، ومتى يجب أن أهبها أكثر. كنتُ أراقب النحل وهو يدور حول الزهر، كما تدور الذكريات حول الناجين، وأتابع الفراشات وهي تأتي للحظة ثم ترحل، كأنها أفكار ناقصة لم تكتمل. 
الحرب كسرت الإسمنت، لكنها صنعت بيني وبين الأرض صداقة. لم تعد مجرد سطح، صارت، بالنسبة لي، كائنًا يعرف كيف يصبر، كيف يمتص الألم دون أن يشكو، كيف يبتلع كل شيء ولا ينسى. فهمتُ أن الجذور التي تمتد في التربة لا تثبت النباتات فقط، إنّها تثبتنا نحن أيضًا. تعلمتُ أن من يضع يده في الأرض لا يشعر أنه يزرع فقط… بل يشعر أنه يعتذر.
 
 

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً