العودة إلى الذكريات تفرح القلب، وتجعل الإنسان يعيش أجمل لحظات عمره الذي يمضي سريعًا هنا مع زحمة الأحداث وتسارعها في بلد مضطرب كاليمن. أتذكر أننا يوم أن يأتي موعد سفرنا من قريتنا إلى صنعاء، تحتشد كل قريتنا لتوديعنا، ويتحول هذا اليوم إلى يوم حزين للجميع، يختلط فيه مطر الغيم الصباحي بدموع الأمهات، ليرسم لوحة للعذاب الذي كنا نعيشه جراء ترك أسرنا صغارًا، والذهاب إلى مدينة صنعاء البعيدة هناك خلف جبال ووديان وجبال وجبال. كان هناك سؤال طفولي يخطر ببالي دائمًا كلما عشت هذه اللحظات المتعبة، وأقول لنفسي: لماذا لا نكتفي بالسفر إلى مدينة تعز، والبقاء والعمل والدراسة فيها، فهي قريبة وجميلة، وفيها جبل صبر، والوصول إليها سهل، وناسها هادئون، والحياة فيها بسيطة، وتشعر فيها بأمان وسكينة وهدوء؟
بسرعة تكتمل مراسيم ومشاهد الوداع، وحينما تتحرك السيارة تبقى عيوننا شاخصة باتجاه بيوتنا التي تبتعد وتغيب رويدًا رويدًا عن عيوننا التي تبقى معلقة بكل التفاصيل والذكريات التي عشناها هناك.
قبل أن نصعد نقيل تماح، علينا أن نلتفت إلى مزار الغوري في منطقة السويقة، وهو معلم صوفي كان الجميع يزوره في يوم الجمع للتبرك ولحف قليل من ترابه، مثله مثل ابن علوان في يفرس. وبالطبع عليك أن تمنحه العطاء ليمنحك البركة والبقاء والنقاء والصفاء، وهي فكرة صوفية أيضًا. كما يقع نظرك على دار المكادن المهجورة الرابضة فوق هضبة مطلة على جميع قرى منطقة السويقة، ويبقى نقيل تماح هو نقطة مغادرة مشهد رؤية قرانا وذكرياتنا، وهناك نرسم مشهد الوداع الحزين لنخرج إلى عالم آخر.
بعد الخروج من فتحة شناخب نقيل تماح الذي يفصل بني شيبة وبني محمد والزعازع والكويرة والبذيجة وراسن، عن باقي منطقة الحجرية ومديرية الشمايتين، الآن وفي الوقت الحاضر، وعند الخروج من هذا النقيل، تنبسط أمامك قرى منطقة الشماية الغربية والرجاعية، وعلى امتداد البصر يمينك ستظهر قرى منطقة العزاعز كبساط أخضر يشرح النفس ويبسطها، وبسرعة عليك أن تتذكر قلم محمد المساح و"لحظة يا زمن"، هاشم العزعزي "من تعلى هدش"، كروية عبدالرقيب العزعزي، أكاديمية د. عبدالله فارع العزعزي، د. وديع العزعزي، طبيب السمع محمد فارع العزعزي، مقهى فارع في الحديدة، وفلسفة علي عبدالفتاح، والكثير الكثير من الهامات والكوادر الوطنية التي أسهمت في رسم حياة جميلة في كل اليمن، ولا يمكن نسيان شخصية جباح، والخيال الشعبي تجاهها، وكذا ترشحه لانتخابات مجلس النواب، وذكره دائمًا يرسم البسمة في كل الأماكن. وتلتفت يمينًا لتشاهد منطقة الشماية الشرقية التي تحتضنها سلسلة جبال شامخة كحاضنة لها تشعرها بالدفء لتنام بأمان.
كان الطريق وعرًا بين قرانا وسوق المركز، الذي يستغرق الوصول إليه الكثير من الوقت والمعاناة والصبر والأمل.
قبل الدخول لسوق المركز تقابلك مدرسة 13 يونيو، لتذكرك بمرحلة مشرقة من تاريخ اليمن، ومن هنا بدأت سواعد رجال التعاونيات بشق طريق نقيل تماح، كجزء من تجربة رائعة عاشتها اليمن بسهولها وجبالها ووديانها، وهنا يكاد يصل إليك صوت رجل التعاونيات حسن سعيد عبدالجبار، بسيارته الحبة والربع القديمة، وهو يمسك بالميكروفون، ويدفع الناس للعمل وشق الطريق. وما إن نصل سوق المركز حتى نعلن أننا دخلنا حياة المدينة والطريق الإسفلتي، ومنها نستعد لحياة أخرى مليئة بالضجيج والصخب والتعب. الناس هنا يتحركون كخلية نحل، ولا تجد أحدًا هادئًا هنا، فالكل يبحث عن رزقه، فيوم المركز قصير، ينتهى بانتهاء صلاة الظهر، وبعدها يخيم الصمت على أرجاء المكان، إلا من سيارات عابرة باتجاه مدينة التربة والمناطق المحيطة بها.
زحمة خروج السيارة من سوق المركز تساوي عندنا لحظات مليئة بالزحام والذكريات الجميلة التي نعيشها، وتنطبع في الذهن حتى آخر العمر. وما إن تبدأ السيارة تطوي الطريق، حتى نشاهد الأراضي الزراعية من الجهتين، مع انتشار أشجار السدر الكثيفة، وهو منظر يخلق البهجة في نفوس المسافرين، ويمنحهم راحة مختلطة بحزن الفراق، لتبدو الصورة في قمة الجمال حين تجتمع المتناقضات في صورة واحدة.
تقابلك في الطريق غبيرة الأبشور بمطباتها التي اعتادت عليها السيارات، وفيها لا بد أن تتذكر رجل الأعمال يوسف عبدالودود، وعلى يسارك تمتد هيجة أسس بمائها الغزير ومزروعاتها، لتعلن أنها حاضرة في خاصرة حياة الحجرية.
نصل إلى أعلى نقطة في نقيل مجرجح، يقال: إن معركة حامية دارت في هذا النقيل، بين جماعة عبدالله عبدالعالم، ممثلة بلواء المظلات، وقوات الغشمي. ومنه نسجت حكايات وحكايات عن بطولات غابت بين دهاليز السياسة والمصالح والصراعات التي مزقت حاضر اليمن ومستقبلها.
تهرول السيارة من أعلى نقيل مجرجح، لتصل إلى شمسرة (سمسرة) دبع أسفل النقيل، وهي تسمية ترجع لمكان تقديم الخدمة للجمالة والمسافرين. على يمينك تنتصب جبال الأعلوم والأخمور والقرى المعلقة فوقها، في منظر بديع يرسم شكل هذا الإنسان وجوهره، وقدرته على تحمل المتاعب والأخطار. وهنا لا بد أن تتذكر الأستاذ عبدالله الخامري، وزير الثقافة والإعلام وشؤون الوحدة في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، ود. رشاد العليمي. وعلى يسارك تنتثر قرى دبع الخارج، وفي مقدمتها قرية دقم الغراب، وخلفها تختفي دبع الداخل وجبال ظالفان ومائلة في لوحة كثيفة من لوحات الحجرية.
هنا عليك أن تتوقف قليلًا لتتذكر ملك العطور محمود سعيد، وشقيقه عبدالخالق سعيد، عبدالسلام شمسان، محمد شمسان، عبدالكريم الأسودي، فتح الأسودي، ووزير الإدارة المحلية عبدالرقيب فتح، وغيرهم الكثير والكثير، ومنهم على سبيل الذكر أيضًا: د. سامي الدبعي، صاحب مختبرات العولقي، ود. وديع عبدالحفيظ الدبعي.
وهنا أيضًا عليك أن تشتم عرف العطور والبخور من شارع جمال، وتجار الملابس في كل مدينة وشارع من شوارع بلادنا، وعليك أيضًا أن تتذكر حافة دبع في الشيخ عثمان.
ما إن تجتاز منطقة الشمسرة، حتى ترتسم على يسارك شجرة الغريب المعمرة. وشجرة الغريب هذه حكاية عجيبة من حكايات الزمن، فقد كانت تمثل عنوانًا للحياة، وظلًا للجمّالة والمسافرين، ونسجت حولها حكايات ومغامرات، ومثلت عنوانًا للأدب الشعبي، ورمزًا للقدرة على الصمود ومقاومة تقلبات الزمن بصلابة وثبات.
من هنا مر الجميع، وتغيرت أحوال البشر والسلطات، وبقيت شجرة الغريب صامدة وشاهدة على كل شيء، وتختزن عندها كل ذكريات العابرين. هذه الشجرة عمرها أكثر من ألفي سنة، ومحيطها كبير يصل إلى 35 مترًا، وهي تمثل نقطة فاصلة في حياة الحجرية، ومازالت تحكي قصتها للمسافرين كل يوم.
تمر السيارة من هنا سريعًا، غير أن عيوننا لا تترك شجرة الغريب، إلا وقد غابت تمامًا، لنصل بعدها إلى مفرق الصافية، وهو مفرق لطريق مناطق مهمة هي بني شيبة الغرب، بني عمر ودبع الداخل. ومن استذكار هذه المناطق ستقفز إلى بالك مجموعة شركات عبدالجليل ردمان، وعشرات الشخصيات المؤثرة في الحياة العامة، منها: د. سعيد الشيباني، سعيد الجريك، عبدالغني عبدالقادر، أحمد عبدالله الشيباني، طه الشيباني، محمد أحمد سالم، إسماعيل شيباني، يوسف محمد عبدالله، سالم الشيباني، عبدالقادر الشيباني، ولا يمكن نسيان مطاعم الشيباني وأعمامنا عبدالقوي ومحمد عبده الذين يهتمون بغذاء البطون.
بعد الصافية لا بد أن تصل إلى وادي البركاني، بحضوره البيئي الذي يعد من أهم أودية اليمن الدافئة، بغزارة مائه، ومنتوج فاكهتي المانجو والجوافة.
وعليك أن تقف كثيرًا لمشاهدة أو شراء المانجو والليمون، وكثير من الفواكه المعروضة على ضفتي الطريق.
ولطالما خطر بذهني إمكانية إنشاء مصانع لتعليب المانجو هنا.
ومن وادي البركاني لا بد أن يخطر بذهنك الشيخ سلطان البركاني. ثم عليك أن تصعد إلى منطقة الخيامي، حيث تبدأ حدود منطقة السواء التاريخية، التي أنجزت حولها عشرات الدراسات التاريخية والآثارية المهمة، منها دراسة عبدالغني الشرعبي المميزة.
وقبل الوصول إلى منطقة نجد النشمة بقليل، لا بد أن يقابلك منعطف خطير يحكي قصة الموت ورائحة الدم.