القاضي العلامة محمد بن يحيى بن أحمد بهران، علامة كبير، وشاعر بليغ. معاصر للعلامة المحدث الصوفي العارف بالله عبدالهادي السودي، وشاركه في الأخذ عن بعض مشايخه كالعلامة محمد بن أحمد مرغم، ولابن بهران أخذ عن الإمام شرف الدين، والعلامة المرتضى بن القاسم بن إبراهيم.
كان ابن بهران في ابتداء أمره يرتحل للتجارة، ودخل الحبشة، وزار كثيرًا من بلدان اليمن. وكان يأكل من كسبه ممتهنًا صنعة الحرير، وكانت وفاته -رحمه الله- بصعدة سنة 957هـ.
شيوخه
أخذ العلامة القاضي ابن بهران على الإمام شرف الدين، وأجازه وامتدحه قائلًا: "الفاضل، المحدث، الأصولي، النحوي، المفسر، فريد دهره، وشمس عصره... العلم ثيابه، والأدب مِلء إهابه، ما يؤنسه في الوحشة إلا الدفاتر، ولا يصحبه في الوحدة إلا المحابر، علم الفضل، وواسطة عقد الدهر، ونادرة الدنيا، وغرة العصر، علامة الأوان، والمفسر للقرآن".
وقال عنه شيخه المرتضى: "الفقيه، الأفضل، العلامة، بهاء المجالس، وعماد المدارس، ذو القريحة المنقادة، والفطنة الوقادة، الأديب النجيب، الآخذ من كل فنٍ بأوفر نصيب، الرامي في (كذا وردت! ولعل الصواب: الرامي بـ) كل سهمٍ مصيب".
من مؤلفاته
- تخريج أحاديث البحر الزخار، للإمام أحمد بن يحيى المرتضى.
- حاشية على الكشاف.
- التفسير الجامع بين الرواية والدراية. جمع فيه بين تفسير الزمخشري وتفسير ابن كثير.
توضيح لا بد منه
لطالما كنت أقرأ أنا وبعض الأصدقاء كتاب «جواهر الأدب»، للعلامة الأزهري الأديب السيد الهاشمي، وكان ضمن هذا الكتاب الأدبي ثلاث لاميات؛ الأولى منها للعلامة العبقري والشاعر الكبير إسماعيل بن أبي بكر المقري، وهي:
"زيادةُ القول تحكي النقصَ في العملِ
ومنطقُ المرء قد يهديهِ للزللِ"
والثانية نسبها الهاشمي للصلاح الصفدي. وهو أديب ومؤرخ مشهور ممن أخذ عن ابن تيمية، وله تاريخ «الوافي بالوفيات». ذيله على «وفيات الأعيان»، لابن خلكان.
وكنا نظنها له، لكن اتضح أنَّ الهاشمي أخطأ في نسبتها للصفدي. ولعلها تصحفت عليه من الصعدي إلى الصفدي. وقد نبه على هذا الخطأ وصححه الوالد الأستاذ الأديب المؤرخ زيد الوزير، في تحقيقه لكتاب «مكنون السر في تحرير نحارير أهل السِّر»، للعلامة يحيى بن محمد المقرائي (ت: 980هـ)، ووردت القصيدة في سيرة الإمام شرف الدين «السلوك الذهبية»، لمحمد بن إبراهيم مفضل، تحقيق الدكتورتين: أمة الملك الثور، وأمة الغفور الأمير.
وهي أيضًا قصيدة حكمية لا تقلُّ براعةً ولا بلاغةً عن قصيدة ابن المقري، وتبدأ بقوله:
"الجَدُّ في الجِدِّ والحرمانُ في الكسلِ
فانصبْ تُصِبْ عن قريبٍ غايةَ الأملِ"
وقد خمسها العلامة الصوفي سعيد بن داود الآنسي (ت: 1010هـ).
وللقاضي العلامة علي بن محمد راوع أبيات وجهها إلى ابن بهران، يقول فيها:
"سلامٌ وما التسليمُ يقضي لنا فرضا
إذا لم نقبِّلْ بين أيديكمُ الأرضا
فلا تحسبوا طولَ المدى عن مزاركم
لأجل ملالٍ في القلوبِ ولا بُغْضَا
ولكنها الأقدارُ تجري على الفتى
ضِرارًا بما لا يشتهيهِ ولا يرضى"
فأجابه القاضي ابن بهران:
"حرامٌ على عينيَّ أن تطعمَ الغَمْضَا
إذا لم أرَ وجهَ التواصلِ مُبْيَضَّا
أحبةَ قلبي شرِّفوني بزورةٍ
يعضُّ بها الحسادُ أيديهمُ عَضَّا
ولا برحتْ مني إليكم رسائلٌ
يموتُ بها أهلُ العداوةِ والبَغْضَا"
ولابن بهران قصيدة رائعة على فواصل سورة مريم، يمتدح فيها الإمام شرف الدين:
"بدا كالبدرِ تُوِّجَ بالثريّا
غزالٌ في الحِمَا باهي المُحيَّا
رماني باللحاظِ فصرتُ مَيْتًا
وحيَّا بالسلام فعدتُ حيَّا
وبالكفِّ الخضيبِ أشارَ نحوي
وأدناني وقربني نجيَّا
فقلتُ لهُ ونحنُ بخيرِ حالٍ
أتفقدُ من جنانِ الخلد شيّا؟
فقال وقد تعجب من مقالي:
جنانُ الخلدِ قد جُمِعتْ لديَّا
فقلتُ: صدقتَ يا سمعي وبصري
فمنْ حازَ الجمالَ اليوسفيَّا؟
فقال: حويتهُ بالإرثِ منهُ
وقد ظهرت دلائلهُ عليَّا
فقلت: فسحرُ بابلَ أين أضحى؟
فقال أما تراهُ بمقلتيَّا
فقلت: الورد أين يكونُ قل لي
فقال أما تراه بوجنتيَّا
فقلت: فهل ترى لك قطُّ شبهًا
فقال: انظر وكن فطنًا ذكيَّا
فقلتُ: البدرُ قال ظلمتَ حسني
بدا التشبيهِ فاهجرني مليَّا
متى كان الجمادُ وأنتَ أدرى
يشابهُ حُسنهُ بشرًا سويَّا؟!
تأملْ هل ترى للبدر عينًا
مُكحلةً وثغرًا لؤلؤيَّا
فقلت: إليك معذرتي فمثلي
يُسامحُ إذ أتى شيئًا فريَّا"
ولابن شهاب قصيدة على غرارها، وهي في مدح سلطان لحج العبدلي:
"بدتْ فأغاضت القمرَ الضويَّا
وأخجلت السِّنانَ السمهريَّا
بِربكَ هل ترى قمرًا سِواها
بدا متمثلًا بشرًا سويَّا
وهل أبصرتَ يومًا للعوالي
كما لقوامها ثمرَا جنيَّا
محجبةٌ تباركَ مَنْ براها
وأودعَ لحظها السِّر الخفيَّا
بديعةُ منظرٍ تمشي الهوينا
فتسبي ذا الصبابةِ والخليِّا
وتأنفُ وهي صادقةٌ إذا ما
نسبتَ لها الجمالَ اليوسفيَّا"
أما القصيدة الأخيرة، فهي للشيخ العارف بالله القطب شعيب أبو مدين (ت: 594هـ) التلمساني، وهذه الأبيات يؤديها الوشاحون والمسمِّعُمون في تهامة، ومنهم الأخ الفنان محمد حلبي:
"لستُ أنسى الأحبابَ ما دمت حيَّا
مذ نأوا للنوى مكانًا قصيَّا
وتلوا آيةَ الوداعِ فَخرُّوا
خِيفةَ البينِ سُجَّدًا وبُكِيَّا"
وللأخ العزيز الأديب الشاعر الكبير أحمد المساح أيضا قصيدة بعنوان «يدًا بيد»، على نفس المنوال:
"دمعُ الوفاء يسيلُ من عينيَّا
فامدُدْ يديكَ لقد مددتُ يديَّا
للهِ أشكو ما لقيتُ من الأُلى اتـ
ـخذوا القطيعةَ مسلكًا مَرْضيَّا
إني أُعيذُك أن تكونَ كمثلهم
فتزيدَ في دربِ الجهالةِ غَيَّا
فلقد رأيتُ من الأنامِ عجائبًا
ومن العجائبِ أن تعيشَ خَليَّا
فاحذرْ حبيبَك أن يصيرَ مُعادِيًا
وارجُ البغيضَ فقد يكونُ وَليَّا
فهلمَّ يا من بالودادِ قتلتني
لأعيشَ في دربِ الوفاءِ هنيَّا
ولقد بلوتُك في الخطوبِ وما أرى
في الناس مثلَك مخلِصًا وَوَفِيَّا
يَمَّمْتُ شطرَك تاركًا كلَّ الورى
خلفي فأقبِلْ يا أُخَيَّ إليَّا
فُكَّ القيودَ فقد أتيتُكَ شاردًا
والقيدُ أثقلَ في الخُطى رِجْلَيَّا
ما زلتُ ظمآنًا وواحةُ حُبِّكم
تروي الغليلَ فهل تجودُ عليَّا؟
وهجيرُ هجرِ الخائنين يُذيبُني
وسَمُومُهُ يكوي فؤاديَ كَيَّا
وأَفِرُّ منه إلى ظِلالِ ودادِكم
عَلِّي أُلاقي في ودادِك فَيَّا
ومرارةَ الهجرانِ ذُقْتُ فأسقِطَنْ
رُطَبَ الوِصالِ على الفؤاد جَنِيَّا
لو كنتَ تعلمُ ما تُكِنُّ جوانحي
شَوْقًا وحُبًّا صادقًا وبَرِيَّا
لوهبتَ لي ما يُستَلَذُّ من الهوى
وعلمتَ أنَّ الناسَ ليسوا شَيَّا
أَطْفِئْ بماء الوصْلِ دونَ تأخُّرٍ
نيرانَ حُبٍّ أشعلتْ جنبيَّا"