كتب: ألكسندر دوري
ترجمة: ربيع ردمان
كَتَبَ إدوارد سعيد في كتابه "مسألة فلسطين"، وهو كتاب أساس في مجاله، أن كلمة "فلسطين" «أصحبتْ رمزاً للنضال ضد الظلم الاجتماعي... إذا تصورنا فلسطين على أنها تجمع بين المكان الذي يجب العودة إليه والمكان الجديد تماماً... فسوف نفهم معنى الكلمة بشكلٍ أفضل». في عالم اليوم صار بالإمكان كتابة هذه الكلمات بسهولة، لكن إدوارد سعيد فعل ذلك منذ ما يقرب من خمسين عاماً، وفي فترةٍ كان يُشار فيه إلى الفلسطينيين في وسائل الإعلام الغربي على أنهم "إرهابيون".
نُشِرَ "مسألة فلسطين" في عام 1979، بعد عامٍ واحدٍ من نشر كتاب سعيد المهم "الاستشراق" وقبل عامين من كتابه "تغطية الإسلام"، وهذه السلسلة المكونة من ثلاثة كتب كان لها دور في تأسيس نظرية ما بعد الاستعمار وتشكُّل إطار لانتقاد منظور الغرب النمطي والعنصري في كثير من الأحيان للعالمين العربي والإسلامي. كان الأَوْلَى أن يحظى "مسألة فلسطين" باهتمامٍ خاص لكونه أولَ كتابٍ باللغة الإنجليزية يروي التجربة الفلسطينية ويفكك الصهيونية بوصفها مشروعاً استعمارياً استيطانياً.
يظل هذا الكتاب من القراءات الجوهرية للباحث الفلسطيني الأمريكي الأكثر تأثيراً على الإطلاق. إن قراءته تثير تأملاتٍ حول كيف أن كلّ شيء تغيَّر ولم يتغيّر شيء على أرض الواقع، بدليل استمرار هجمات الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على غزة، وقصفها للبنان، وسعيها لضم الضفة الغربية. وهذا ما يجعل توقيت إعادة إصدار الكتاب في طبعة جديدة مناسباً للغاية. وقد صدرتْ طبعة الكتاب الجديدة في المملكة المتحدة ضمن منشورات فيتزكارالدوFitzcarraldo في 21 نوفمبر 2024، وتضمَّنتْ مقدمةً جديدة كتبها الناقد الأدبي (ابن شقيقة سعيد) ساري مقدسي، وزُوِّدتْ بفصل ملحق بعنوان "حلّ الدولة الواحدة" كَتَبَه سعيد لصحيفة نيويورك تايمز في عام 1999. وفيما يخص القارئ الأمريكي، فسوف يجري إعادة طبع السلسلة الثلاثية المحورية لسعيد في طبعات جديدة عند طريق دار نشر فينتاجVintage وستكون الكتب الثلاثة متاحة قريباً.
تُوفّي إدوارد سعيد عن عمرٍ يناهز السابعة والستين عاماً بعد معركة طويلة مع سرطان الدم. له من الأبناء اثنان: وديع سعيد أستاذ القانون [في كلية الحقوق بجامعة كولورادو]، ونجلاء سعيد ممثلة وكاتبة وناشطة. حين نُشِر كتاب "مسألة فلسطين" كان وديع ونجلاء في مرحلة الطفولة، غير أنهما تحدثا عن سنوات نشأتهما في نيويورك في ظل رعاية الأستاذ الفلسطيني الأمريكي في جامعة كولومبيا، وكيف صمد كتابه منذ نشره للمرة الأولى قبل 45 عاماً.
تحدَّثتْ إليّ نجلاء قائلةً: "بعد مرور أكثر من عام على ما يحدث في غزة والآن في لبنان، أعتقد أن الناس يحتاجون إلى معرفةٍ أكثر نقديةً وذات درجة أكبر من الفهم العميق لما حدث قبل ذلك". وأشارت إلى الطريقة التي ينتهجها الغربيون عادةً في بداية اهتمامهم بفلسطين إذ يذهبون أولاً إلى قراءة الأعمال التي يجنح الناشرون إلى الترويج لها ككتب إيلان بابيه Ilan Pappé [مؤرخ إسرائيلي] أو نعوم تشومسكي أو رشيد الخالدي [وخاصة كتابه الأخير] "حرب المائة عام على فلسطين" [2020]. وعلى الرغم من أن نجلاء تعدُّ كتب هؤلاء كلها ذات أهمية، إلا أنها ذهبت إلى القول إن والدها كان أول كاتب يتحدث عن كل هذا باللغة الإنجليزية، ويتعين على القراء العودة إلى المادة المصدر.
سياق تأليف الكتاب
تستطرد نجلاء قائلة: "لم يعد خافياً اليوم مدى صعوبة كونك فلسطينياً وتجهر برأيك في الغرب أو في أمريكا على وجه الخصوص. أعتقد من المهم أن نعرف أن هناك أشخاصاً ظلوا يصدحون برأيهم لفترةٍ طويلة". ومن ناحيةٍ أخرى، أشار شقيقها وديع إلى أنه كان من المعتاد أن يُعهد بالكتابة عن فلسطين إلى المؤرخين الإسرائيليين واليهود – "لأن المؤرخين الفلسطينيين، بالطبع، لا يُعْتَمد عليهم، ألم يكن هذا السائد؟ فلا بد أن يكون مؤرخاً إسرائيلياً مَنْ يتولَّى قول الحقيقة" – ولم يبدأ هذا التوجه في التغير سوى في الآونة الأخيرة.
أَلَّفَ سعيدٌ كتابه في ذروة شهرة ياسر عرفات رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية، وكانت حينها تخوض مواجهات مع القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية ولبنان خلال الحرب الأهلية اللبنانية. في تلك الفترة، لم تكن وسائل الإعلام الغربية تنظر إلى الفلسطينيين سوى من خلال هذا المنظور – كمقاتلين في منظمة التحرير الفلسطينية، أو كـ “إرهابيين". أراد سعيد أن يروي تأريخهم على هذه الأرض وفي منفاهم اللاحق ونضالهم وحقهم في العودة بعد نكبة عام 1948، التي عايشها سعيد بشكلٍ مباشر حين كان طفلاً.
كَتَبَ سعيد في ذلك الحين: «إذا كانتْ لا توجد دولة اسمها "دولة فلسطين" فليس معنى ذلك عدم وجود الفلسطينيين. إنهم موجودون بالتأكيد، وما هذا الكتاب إلا محاولة لوضع الحقيقة الفلسطينية في متناول القارئ». أخبرني نجله وديع أن "الكتاب يضطلع بدور تطوير قضية استقلال فلسطين وتحريرها، لكنه يمثل استجابة لحقائق تلك الفترة، والتي كان على رأسها الإصرار على تمثيل الفلسطينيين في العالم الغربي، وفي وقتنا الحاضر لم تعد مسألة التمثيل موضع تشكيك".
صدر الكتاب في الولايات المتحدة أثناء إدارة جيمي كارتر، وفي الفترة ذاتها التي أُبرمتْ فيها اتفاقيات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل. قال وديع سعيد إن الرئيس كارتر "كان يرمي إلى إرساء مستوى معين لحكم ذاتي فلسطيني قد يؤدي إلى إقامة دولة، على الرغم مما قد يواجه مسعاه من عداء شديد... لاحقاً، فاز رونالد ريغان في الانتخابات [عام 1981]، وتغير الأمر بعد رحيل كارتر عن السلطة فلم تُبْدِ أيّ إدارة أمريكية لاحقة استعداداً لمناقشة هذه المسألة". يعكس هذا القول وجهات نظر مشتركة بين العديد من الأصوات الفلسطينية البارزة اليوم، فعلى سبيل المثال يذهب مصطفى البرغوثي إلى أن بالإمكان القول إن جيمي كارتر كان الرئيس الأمريكي الوحيد الذي دعا باستمرار إلى حق الفلسطينيين في تقرير المصير.
شخصية سعيد وإرثه
في إطار الحديث عن كتاب "مسألة فلسطين"، قالت نجلاء سعيد "إذا قمتَ بإزالة أسماء اللاعبين [منظمة التحرير الفلسطينية أو عرفات] أو استبدلتها، فلن يتغير الأمر كثيراً في الواقع... باستثناء آلة القتل التي أصبحتَ أكثر بشاعةً وإجراماً الآن". لكنها، بالاستفادة من دروس والدها، تصر على أنه يتوجب على الناس "أن يتعلموا مما يحدث بدلاً من اليأس"، وأن يتفطَّنوا إلى مدى اتساع حركة التضامن مع فلسطين. تتذكر نجلاء والدها كشخصٍ "يحب الإنصاف للغاية، ومتعاطف، ولطيف، وإنساني"، إنه "رجل غير عادي" يتمتع بشخصية جذابة تجعل الأشخاص – حتى أولئك الذين اختلفوا معه – يرغبون في الاقتراب منه. وقالت عن والدها، الذي كان استاذاً للغة الإنجليزية والأدب المقارن بجامعة كولومبيا: "كنتُ الطفلة التي تلقتْ درساً عن [يوم الاحتفال] بكريستوفر كولومبوس منذ 40 عاماً وقبل أن ينادي أي شخص بأن يحل محله يوم السكان الأصليين" [يُحْتَفَل به في كل ثاني اثنين من شهر أكتوبر، وبايدن هو أول رئيس أمريكي احتفل بيوم السكان الأصليين في 11 أكتوبر 2021].
عند الحديث عن جامعة كولومبيا، قال وديع سعيد "لو كان والدي موجوداً، لما سار الأمر على هذا النحو"، وهو يشير في هذا إلى استجابة الجامعة العنيفة تجاه الطلاب المؤيدين لفلسطين في العام الماضي. وأضاف "كان والدي الشخصية النموذجية في جامعة كولومبيا في النصف الأخير من القرن العشرين... وكان يتمتع بمهارةٍ عالية في الحفاظ على العلاقات مع الأشخاص الذين أداروا الجامعة بصورةٍ أساسية". لكن كلاً من وديع ونجلاء يدركان أن "إدارة الجامعة مختلفة تماماً اليوم"، وأن الإدارات السابقة كانت أكثر دعماً لسعيد وسياساته.
يُرْجِع جاك تيستارد مؤسس منشورات فيتزكارالدو إعادة إصدار كتاب "مسألة فلسطين" إلى "مدى أهميته ومعاصرته بعد مرور 45 عاماً... لكل من يسعى إلى فهم الصهيونية وتأثيرها على الشعب الفلسطيني". وكان من المهم أيضاً أن زُوِّدتْ الطبعة بمقال سعيد لعام 1999 "حل الدولة الواحدة"، إذ لا يزال السياسيون الغربيون يدعون إلى حل الدولتين، في حين كان سعيد من أوائل الأصوات التي خاطبت الجمهور الغربي بأن «السلام الحقيقي لن يأتي سوى من خلال دولة إسرائيلية – فلسطينية ثنائية القومية». وفي اقتراح الدولة الواحدة هذا، والذي لا يزال موضع اعتراض حتى اليوم، تصوَّر سعيد الفلسطينيين والإسرائيليين يعيشون في نفس الدولة كمواطنين متساويين يتمتعون بحقوق ديمقراطية. كَتَبَ: «حالما يتم التوافق على أن الفلسطينيين والإسرائيليين باقون معاً، فعندئذٍ يجب أن يكون الاستنتاج المناسب هو ضرورة التعايش السلمي والمصالحة الحقيقية».
لو قُدِّر لسعيد أن يمتد به العمر ليشهد حجم العنف اليوم، فمن الصعب تخيل أنه سيكون لديه أمل كبير في حدوث مثل هذه "المصالحة"، لكن وديع يتذكر أن والده "حاول تخيل مستقبلٍ أفضل". يعمل وديع ونجلاء على استئناف إرث والدهما بطرق عديدة في النضال من أجل فلسطين حرة. تقول نجلاء، التي لا تزال تقيم في نيويورك، كونك تحمل اسمه نوع من المسؤولية، "لكنها مسؤولية لا يترتب عليها ضرر".
"كنتُ أُفْصِحُ عن كوني ابنته أحياناً، ولكن في العام الماضي بشكل خاص، بدا لي أن هذا الأمر يعني الكثير للناس بطريقة لم أفهمها تماماً. لا أقارن والدي بمارتن لوثر كينج جونيور، لكن الأمر يبدو كذلك نوعاً ما، أن تكون ابناً لشخص من هذا النوع. وأن تظهر هذا الجانب فهو يعني الكثير للناس... خاصة الفلسطينيين الأمريكيين".
"لا يغيب عني أيضاً ما علمني إياه والدي، وهو أننا جزءٌ من شعبٍ يحاول بناء حياة أفضل لنفسه وللآخرين، لذلك ليس هناك سبب يمنعنا من التوقف عن ذلك... كلما كان يتواصل فلسطينيٌ بوالدي، بغض النظر عن مدى شهرته أو انشغاله، كان يستجيب دائماً، لذلك أحاول أن أسير على طريقه".