لماذا لا نثير قضايا مهمة في تأريخنا ونقول إن علاقة الدولة اليمنية بالصحفيين لم تكن سيئة؟ عندما نقول ذلك - ونحن نشير إلى ما قبل عشرين عاماً من الآن- فإننا ننقل الحقيقة لا غير.
عندما زرت الإصلاحية المركزية بصنعاء (السجن المركزي) لأول مرة في 16 أكتوبر 2006، وجدت: ورش متخصصة متعددة المهن، وأسواق، ومكتبة مركزية، ومصحة منفصلة غاية في التصميم والروعة.
في قلب المصحة حديقة مشجرة خضراء واستراحات مظللة لذوي الأمراض النفسية، وامتدادات واسعة للزهور والورد داخل المصحة، وأطباء متخصصين وأدوية مجانية.
المصحة النفسية منشأة مستقلة، وقسم النساء والأحداث أيضاً منفصلان بمباني مخصصة وبوابة مستقلة.
قطاع السجن الأكبر بأقسامه المتخصصة محكوم ببوابة مستقلة حيث يتم توزيع النزلاء فيها وفقاً لدرجات الجرائم: مدنية وجنائية جسيمة ومتوسطة وغير جسيمة، وأموال عامة وتجارية وغيرها.
نعم، هناك قسم التوبة وهناك قسم الغفران. وعلمت فيما بعد أن عبده شوعي النشري، الذي بذلنا جهوداً جبارة لإطلاقه، كان صاحب أشهر مطعم في السجن للحم المندي.
وأتذكر أنني عندما رافقته لحظة إطلاق سراحه سمعته وهو ينادي أحد السجناء بقوله: "أنا راكن عليك يا حسن تابع لي أمديون اللي عند الناس".
استغربت، لكن فهمت فيما بعد من سجناء آخرين أن شوعي، الذي ينتمي إلى مديرية كعيدنة (غرب محافظة حجة)، كان أشهر طباخ لحم مندي حيث لا يشتري منه إلا نزلاء السجن الأثرياء.
وفي السجن مكتبة مركزية متاحة للقراءة والاستعارة لكل السجناء.
وجدت مطاعم خاصة، ومصنع بلك، وورش مهنية بمختلف المهن. ودخلت إلى المطبخ المركزي الضخم والهائل بكامل تجهيزاته ومعداته، يقوم عليه طباخون متخصصون ببدلات مخصوصة وكلهم سجناء يعملون فيه بمرتبات رسمية أو بأجور.
الساحات واسعة ونظيفة بامتداداتها، وفي قلبها مسجد يقع إلى جواره مستوصف وغرف الخلوة الشرعية التي تبرع ببنائها التاجر الحباري، ومغسلة مركزية ضخمة كان يديرها المرحوم علي حمود الحميضة.
دخلت السجن المركزي عشرات المرات في الأيام العادية ومرتين في الليل ومرة واحدة في عيد الأضحى.
هذه حقائق كنت أؤجل نشرها بسبب كثافة الأفكار، حيث إن الأولوية في النشر تتركز من أجل عرض قصص الحالات التي تستوجب الإفراج بعد انتهاء فترة المحكومية القضائية طبقاً للقانون، وتحديداً سجناء الحقوق الخاصة (المعسرون).
كان هناك قصور لدى بعض القضاة وأعضاء النيابات ارتبط في تفسيرات القانون ضمن أخطاء شخصية وقع فيها بعض أعضاء النيابات (تحديداً) وبعض موظفي وزارة الداخلية. لكن حين يتم عرضها في الصحافة، كانت الدولة ممثلة بالنائب العام الأسبق الدكتور عبدالله العلفي، ورئيس مجلس القضاء فضيلة القاضي عصام السماوي، ووزير العدل حينها الدكتور غازي الأغبري، تتصرف (وتصرفون) بإيجابية مع معظم ما نشرته صحيفة "النداء" في هذا الجانب.
لقد تمكنا من الإفراج عن مئات الحالات من خلال النشر المعزز بالوثائق والجداول والبيانات ضمن سياق قانوني، وبالرجوع إلى لجنة دفاع قانونية تشكلت من أفضل الأدمغة القانونية في البلاد، على رأسهم المحامي نبيل المحمدي (سيتم النشر عن دور لجنة الدفاع القانوني وأسمائهم في حلقة منفصلة).
كانت جهود وإمكانيات الصحيفة أقل من أن تواكب كل هذا الزخم من المواضيع المثارة ومن حالات الإفراج ومن ردات الفعل المسؤولة من الجهات الرسمية، ولا سيما مكتب النائب العام (من 2006 وصاعداً).
عن نفسي ومن موقعي كمحرر ملف السجناء المعسرين في صحيفة "النداء" على مدى 3 سنوات ونصف، ومن بعدي الزميل هلال الجمرة، عرفت معنى هذه المقولة التي رسخت في إطار الدول ومجتمع الديمقراطيات العريقة: الصحافة سلطة رابعة.
يجب أن أقول الحقيقة:
كنا نقوم بدور السلطة الرابعة أيضاً!
يجب أن لا نستهين بما قد تحقق من إرث مدني وتعاظم في سياق دولة ناشئة، وأن نفخر به كإنجاز وموروث آخذ في التراكم، لكن بعثرته السياسة.
ماذا يعني أن يتصل بي النائب العام في الليل ليخبرني: "غداً سيفرجون عن صاحبك عبده شوعي!" وفي إحدى ليالي رمضان اتصل بي بعد الإفطار الدكتور عبدالله العلفي (النائب العام الأسبق): "تحرك الآن، سيتم الليلة الإفراج عن أكبر دفعة من المعسرين ومن الذين شملتهم المكرمة الرئاسية أيضاً."
وعندما ذهبت ودخلت إلى باحة السجن الداخلية، لم يكن دخول السجن موحشاً في الليل كعادتها مثل هذه الأماكن. كانت الأضواء ساطعة وأعمدة الإنارة ساطعة في كل زوايا السجن ومساحاته الشاسعة.
كان كل وكلاء النيابات متواجدين هناك، وكان العقيد مطهر علي ناجي الشعيبي شعلة من النشاط والجاهزية بكشوفات الفرز والتوديع.
لقد كان مطهر علي ناجي الشعيبي أفضل شخصية مرت على الإصلاحية المركزية في تاريخها. رجل كبير ومسؤول ومثقف: شجاعاً وحازماً.
عندما قابلته في رمضان 2006 أبدى تعاوناً، لكنه رفض بغضب عندما طلبت منه بعض الكشوفات. وقال لي: "لا تكرر معي هذا الطلب مرة ثانية!"
لقد احترمته وأدركت ما معنى أن تكون رجل دولة أمين ومسؤول عن أكبر منشأة وطنية تابعة لوزارة الداخلية.
لم أزعل على الإطلاق. ومطهر الشعيبي في البداية رفض التعاون معي إلا بعد أن بادرته بسؤال استفزازي: "هناك شكاوى تلقيناها من سجناء قالوا إنهم جياع!" فانتفض ونهض واقفاً ليخبط براحته على لوح مكتبه: "هذا كذب وإذا أردت أن تدخل بنفسك إلى المطبخ المركزي وترى كل شيء فسأمنحك هذه الفرصة."
وهي لم تكن فرصة فحسب، بل وأمنية بالنسبة لصحفي يريد أن يرى ويسمع أكثر وأن يقدم للقراء مادة شيقة ومثيرة من قلب السجن.
تحركنا العقيد مطهر علي ناجي ويحيى الحيدري مدير التأهيل في السجن وضابط أنيق من صنعاء لقبه الحكيم ـ كان صديقاً للشعيبي ومديراً لمكتبه ـ وأنا.
دلفنا البوابة الوسطى واتجهنا يساراً لأتفاجأ برجل قاعد في الظل على كرسي أبيض، وعندما رآنا وقف مرحباً ومرتدياً بدلة بنية أنيقة وفي يده مسبحة طويلة وخلف ظهره مغسلة ملابس وفرش أوتوماتيكية وعاملان ضمن مبنى مخصوص لهذا الغرض.
ذلك الشخص هو السجين ورجل الأعمال الذي أفلس المرحوم علي حمود الحميضة صاحب معرض القادسية للسيارات.
من عادة مدير السجن أن يمر على الحميضة كل يوم. كان يتعامل معه بصورة خاصة ونشأت بينهما صداقة متينة أدركتها من كلام الحميضة عنه ومن كلمات العقيد الشعيبي الحزينة عندما اتصل لي معزياً في الحميضة عصر اليوم الذي مات فيه صباحاً (بعد سنوات).
لا يبعد مبنى المطبخ المركزي عن مغسلة السجن كثيراً. وعندما دخلت إلى المطبخ لم أصدق أنني الآن في مطبخ السجن المركزي بصنعاء قبل أذان العصر (رمضان).
بناية مستقلة وفي جوفها صالة مربعة مزودة بأحدث التجهيزات: قدور هائلة تفور باللحوم وضغاطات كبيرة مكتوبٌ عليها made in Russia
وطهاة متخصصون ببدلات خاصة ومساعدين يقطّعون الخضار ويقشرون البطاطس من مختلف الأعمار وشبان يسكبون أكياساً من الأرز داخل قدور ضخمة ويقومون بغسلها.
لم أكن أعرف أن هؤلاء جميعاً سجناء يعملون برواتب كموظفين أساسيين في مطبخ السجن إلا عندما سمعت صوت رجل متوسط العمر من "خارف" كان ضمن مجموعة تقطيع البطاطس ويقول لي عندما عرف أنني صحفي: "المدير باهر باهر يا صحفي."
سألني: "هيا عتكتبوا علينا نضوي عند الجهّال".. قلت له على الفور: لماذا !! هل أنت سجين!
قال: "نعم. أنا صالح المحمي من خارف وهذه بطاقتي ولي 9 سنوات هنا."
لحظتها عرفت أنهم سجناء وكان صالح المحمي هذا محكوم بسجن بضع سنوات على ذمة مليون ونصف قيمة سيارة اشتراها من سارق وباعها تشليح. أنهى العقوبة بالحبس لكنه بقي على ذمة الحق الشخصي. وهنا يكمن الخطأ ويكن الكثير من الجدل الذي لا يحسم بعد.
كان يعمل ميكانيكياً قبل السجن في ورشة بمدينة عمران وفي السجن صار صاحب أكبر ورشة رنج وميكانيك سيارات ودرّب الكثير من النزلاء الذين غادروا السجن كمعلمين ناجحين.
وبالمناسبة كان دخولنا إلى المطبخ مفاجئاً ولم يكن قائماً على ترتيب استباقي.
اتجهنا إلى الداخل حيث البوابة الثالثة المؤدية إلى العمق وحيث العنابر والأقسام والساحة الداخلية لقسم التوبة.
كان الوقت عصراً (رمضان) وهو وقت الذروة: أشد الأوقات ازدحاماً بالزيارات.
في الداخل، آلاف البشر خرجوا من العنابر إلى الساحة في وضع هيجان. ومكبر الصوت يصدح بأسماء المدعوين من صالة الزيارة البعيدة.
ضجيج وجهود جبارة يبذلها الجنود لترتيب الوضع، وسجين عفط يعتدي على شرطي في لحظة دخول المدير الذي باشره بـ"كف" حتى طاح على قفاه.
كان لمطهر علي ناجي الشعيبي حضوره وهيبته داخل السجن: ضخم القامة، شجاع، جبار، ونزيه في نفس الوقت. وقال لي أحد المفرج عنهم في وقت لاحق إن الشعيبي جاء إلى السجن والوضع داخله أشبه بفوضى عارمة، حيث الصوت الأقوى فيه كان لزعماء العصابات الذين تكتلوا داخل السجن على هذا النحو: عصابات ومناطق.
قبل مجيء العقيد مطهر الشعيبي، كان غالبية نزلاء السجن مقسمين على أربع عصابات، وعلى رأس كل مجموعة زعيم من أشجع السجناء وأسمخهم، وكانت تحصل حوادث وصدامات جماعية.
كانت مجموعة قد تمكنت من تسلق جدران السجن وقفزت من الأعلى، فهرب بعضهم وبعضهم تكسروا وعولجوا ثم أعيدوا إلى السجن!
كان مدراء السجون لا يدخلون إلى العمق إلا نادراً ويتم التعدي عليهم. لكن عندما جاء الشعيبي عمد إلى اتخاذ عدد من الإجراءات: أولها تغيير طاقم الحراسة وكتيبة الأمن (ما عدا الجيدين)، ثم قام برفع السور وعززه بشبك حمائي.
وفي الداخل، أنشأ مساراً طويلاً كممشى داخل شبك يسير فيه السجين إلى صالة الزيارات ثم يعود من تلقاء نفسه. ثم اختار المدير أفضل الكوادر الأمنية التي من شأنها ضبط الشؤون الداخلية للسجن ويقتضي عملها الاحتكاك اليومي بالسجناء من ذوي البنية والكياسة، ثم أخذ حراسته الشخصية ودخل إلى قلب الساحة الداخلية وقد أمر الجنود بأن يجمعوا كل السجناء إلى مكان واحد وهم بالآلاف.
وكان العقيد الشعيبي بعد أن اتخذ كل هذه التدابير الاستباقية قد عرف كل التفاصيل التي تعتمل بين السجناء وكيف أن الكلمة التي تمضي هي كلمة وقرار زعماء المجموعات وليس للإدارة والضباط.
قبل أن يدخل إلى الساحة المزدحمة بالجموع، سأل الشعيبي الموظفين عن أسمخ وأشجع سجين فقالوا له: فلان.
كان العقيد الشعيبي قد اشتهر في عملية ضبط ومطاردة العصابات داخل حواري مديرية السبعينة التي كان مديراً عليها، وكان ذلك أحد الأمور التي لفتت انتباه الرئيس صالح فأرسل للسجن هذه الشخصية الفذة: العقيد مطهر علي ناجي الشعيبي لضبط الأمور وعززه بموازنة كافية.
انتقل الشعيبي إلى السجن بحراسته نفسها ـ وفيهم الحكيم ـ مدير مكتبه الذي كان من أقرب الناس إلى نفسية المدير وإلى مزاجه.
آلاف السجناء متجمهرين بالساحة الداخلية التي هي أشبه بميدان. وصل مدير السجن الجديد واختط طريقه مباشرة يشق الجموع إلى الوسط معززاً بالحراسة والسجناء ينظرون، ثم نادى على أكبر رأس يتزعم الفوضى: أين فلان.
وعندما تقدم إليه باشره بـ"كف" شهير طارت له رؤوس الشجعان، وحاول ذلك السجين أن يرد وأن يقاوم فكتفته الحراسة وأمر المدير الجميع بالانصراف.
أخذ الشعيبي هذا السجين صاحب الرأس الصلبة إلى غرفة وتركه فيها أياماً، ثم ذهب إليه وشرع في احتوائه: حواره وأكرمه، ومع الأيام نشأت بينهما علاقة تعززت أكثر وأكثر حتى أصبح هذا السجين من أهم الكوادر التي عززت الأمن والسلام الداخلي للسجن، فعينه المدير لاحقاً كبير المشرفين على قسم الغفران، القسم الخاص بالعتاولة وأصحاب الجرائم والقضايا الجسيمة.
لقد ساهم هذا السجين مع مرور الوقت في توطيد حالة الاستقرار والوئام الداخلي داخل العنابر وأصبح من خيار النزلاء. بل وقدوة للجميع في التعامل والعمل، وأظنه احترف الصرافة والبيع والشراء داخل السجن وغادر بعد 16 سنة ليعود إلى أهله مثلما يعود أي رجلٍ ميسور قادم من الغربة.