في مشهد بات مألوفًا في شوارع العاصمة صنعاء، لوحات "للبيع" تزيّن واجهات المحلات التجارية، ولكن ليس بسبب ازدهار السوق العقارية، بل هروبًا من "الجبايات" التي تبتلع أرباح التجار. غرامات ورسوم مجحفة وغير قانونية، تحوّلت إلى كابوس يومي لأصحاب المشاريع الصغيرة، مما دفع العشرات لبيع محلاتهم "عرطة" بأبخس الأثمان. في غضون شهري أكتوبر ونوفمبر فقط، ظهر أكثر من 140 إعلان بيع على منصة واحدة، في مؤشر ينذر بتآكل الطبقة التجارية الصغيرة في العاصمة.
يقف "أحمد" صاحب بقالة صغيرة، في أحد الأحياء، محاطًا بواجهات الثلاجات المليئة بالبضائع، ولكن بخلاف ما يبدو عليه المشهد، قرر أحمد عرض بقالته للبيع. وفي حديثه لـ"النداء" يقول بأسى: "لم أعد أحتمل الجبايات اليومية من جهات مختلفة، ضرائب، رسوم محلية، تحسين ونظافة، زكاة، وحتى رسوم غير مبررة، وكل جهة تطالب بدفع مبالغ تحت مسميات غامضة".
أحمد ليس وحده. فخلال الشهرين الأخيرين، تجاوز عدد إعلانات بيع المحلات التجارية على منصة "السوق المفتوح" في صنعاء 140 إعلانًا، تنوعت بين بقالات، مخابز، محلات ملابس، مطاعم ومقاهي، ومحلات جوالات. هناك عشرات الاعلانات المشابهة على منصات أخرى أو على الارض. الظاهرة ليست مجرد عرض وطلب، بل باتت تعكس أزمة أعمق يعيشها صغار التجار في صنعاء ومناطق سيطرة الحوثيين عموما.
نزيف المشاريع الصغيرة
تعددت الأسباب التي دفعت أصحاب المشاريع الصغيرة إلى عرض ممتلكاتهم للبيع، لكن الجبايات والرسوم غير القانونية التي تفرضها جهات متعددة في صنعاء، تأتي على رأسها. يقول "محمد"، صاحب محل لبيع الملابس في منطقة الروضة: "في الشهر الواحد أتعرض لثلاث إلى خمس زيارات من جهات تدعي أنها رسمية، وكل جهة تطلب مبالغ مالية تحت مسميات مختلفة".
تشير الإحصاءات إلى أن بعض التجار يدفعون ما يصل إلى 30% من دخلهم الشهري في شكل "رسوم قانونية وغير قانونية"، وفقًا لتقارير محلية. وتشمل هذه الرسوم ضرائب المبيعات، رسوم الزكاة، رسوم خدمات محلية، إلى جانب ما يُعرف بـ"المجهود الحربي"، وهو مبلغ يُفرض على التجار لدعم الحرب المستمرة في البلاد.
أحد التجار، صاحب محل جوالات في حي حدة، عرض محله للبيع بـ5 ملايين ريال يمني. المالك ذكر أن السبب يعود إلى "استمرار المضايقات المالية"، مؤكدًا أنه تلقى 7 زيارات خلال شهر واحد من جهات مختلفة، وأُجبر على دفع مبالغ لم تكن في حسبانه.
من بين الإعلانات التي ظهرت مؤخرًا، نجد إعلانًا لبيع "بقالة حديثة مع خمس ثلاجات ومعدات جديدة" في منطقة بيت بوس، عرضت بسعر مليون ريال يمني فقط، وهو مبلغ يعتبر زهيدًا مقارنة بتكاليف تجهيز مثل هذا المشروع. الإعلان أشار إلى أن "صاحب البقالة مسافر"، وهي العبارة التي عادة ما تُستخدم كرمز لإخفاء الأسباب الحقيقية للبيع.
في شارع هائل، وُضع إعلان لبيع سوبر ماركت يحتوي على 5 فتحات ومخزن، مع التأكيد على أنه يقع في موقع استراتيجي بالقرب من ثلاثة مراكز تخفيضات. لكن خلف هذا الإعلان، وفقًا لمصادر محلية، يقف تاجر محلي تعرض لضغوط مالية متزايدة بعد أن رفض دفع مبالغ إضافية لجماعة محلية طالبت برسوم جديدة.
وفي منطقة الأصبحي، عُرض محل خياطة صغير للبيع بمبلغ 2.5 مليون ريال يمني فقط، وهو مبلغ لا يكاد يغطي تكلفة المعدات المستخدمة فيه. يشرح "سعيد"، أحد أصحاب المحلات في نفس المنطقة، أن الجبايات والابتزاز أصبحت أشبه بـ"سلسلة لا تنتهي"، حيث يدفعون ضرائب ثم يُطلب منهم دفع "رسوم نظافة" و"رسوم تحسين"، وصولًا إلى رسوم "تصاريح تشغيل" رغم أنهم يعملون منذ سنوات.
تسعيرة للفقر
على مدار نحو أربعة عقود، لم تغلق شواية أبو خالد في صنعاء أبوابها يومًا في وجوه الزبائن، باستثناء أيام الأعياد. لكن قبل أسبوعين، توقفت الشواية الشهيرة عن العمل نهائيًا، وسرّحت عمالها العشرة، بعدما أصبح إيرادها غير كافٍ لتغطية الرواتب والنفقات الأساسية. يصف عبدالله، أحد العاملين المسرّحين، الموقف قائلًا: "ما حدث جريمة"، لكنه لا يلوم صاحب الشواية، فهو "ضحية ويعتبر أبرز الخاسرين. وحاول مرارًا الحفاظ على المشروع، لكن الخسائر كانت تتزايد يوميًا". ويلقي عبدالله باللوم على السلطات في صنعاء التي "فرضت تسعيرة محددة تضمن هامش ربح لا يتجاوز 200 ريال لكل دجاجة، وهو أمر مجحف لا يراعي الارتفاع الحاد في النفقات والأسعار".
ولا تقتصر الضغوط على شواية أبو خالد، بل تمتد إلى مشاريع صغيرة ومتوسطة أخرى، حيث تواجه أساليب متعددة للابتزاز من قبل الجهات الرسمية. يروي علي نعمان، صاحب بقالة صغيرة في حي معين، معاناته مع الابتزاز المنهجي الذي استمر ست سنوات. يقول نعمان إنه تعرض قبل أسبوعين لحالتي ابتزاز في غضون ثلاثة أيام فقط. في الحادثة الأولى، زاره موظف من مكتب التحسين والنظافة بحجة البحث عن سلعة منتهية الصلاحية. وعندما طلب منه نعمان الانتظار لحين انتهاء انشغاله بالزبائن، طالبه الموظف برشوة قيمتها ثلاثة آلاف ريال. وعندما رفض دفع الرشوة، فوجئ بمخالفة قيمتها 30 ألف ريال بزعم "عدم الاهتمام بنظافة ملابسه وأظافره".
أما الحادثة الثانية، فقد بدأت عندما توقفت دراجة نارية أمام بقالة نعمان، وترجل منها ثلاثة أشخاص يرتدون الزي التقليدي. تظاهروا بأنهم زبائن عاديون يرغبون في شراء بعض البضائع، لكن بعد سماعهم للسعر الذي زاد عن تسعيرة مكتب التجارة بـ50 ريالًا، كشفوا عن هوياتهم كموظفين وفرضوا عليه غرامة فورية.
مثل هذه الحوادث ليست استثنائية. أصحاب البقالات مثل نعمان وماجد عبدالله، الذي يدير بقالة أكبر، يؤكدون أنهم اضطروا للتوقف عن بيع بعض السلع المطلوبة لتجنب الغرامات والابتزاز المستمر. وأكد ماجد بأن أحد موظفي التحسين وضع سلعة منتهية الصلاحية إلى بضاعته وفرض عليه غرامة 30 ألف ريال.
روافد للبطالة
تسريح أصحاب المشاريع الصغيرة وبيعها له آثار اقتصادية خطيرة. تشير التقديرات إلى أن المشاريع الصغيرة توفر نحو 60% من فرص العمل في الأسواق المحلية، وإذا استمرت هذه الظاهرة، فإن الآلاف من العاملين في هذه المشاريع قد يجدون أنفسهم في صفوف البطالة.
يقول خبير اقتصادي محلي إن "المشاريع الصغيرة هي العصب الرئيسي للاقتصاد الشعبي. عندما يتم استهدافها بالجبايات والابتزاز، فإن الأثر لا يقتصر على صاحب المشروع، بل يمتد إلى أسرته، موظفيه، والمستوردين المحليين".
إحدى أبرز الحالات التي أثارت الجدل، هي بيع "معرض ومعمل حلويات" مكون من 4 فتحات في شارع تجاري رئيسي بمبلغ 25 مليون ريال. وفقًا لمصادر قريبة، اضطر المالك إلى البيع بعد أن تجاوزت المبالغ المطلوبة منه شهريًا 500,000 ريال، ما دفعه إلى الاستسلام والبحث عن مشترٍ.
الحلول المقترحة
في ظل تزايد الظاهرة، يطالب أصحاب المشاريع الصغيرة السلطات المحلية بالتدخل لوقف الابتزاز والجبايات غير القانونية. ويشير "محمود الصلوي"، وهو مالك لمخبز في منطقة السبعين، في حديثه لـ"النداء" قائلًا: "الحل الوحيد هو إنشاء جهة رقابية واحدة مسؤولة عن تنظيم الرسوم، بحيث يدفع التاجر مبلغًا موحدًا سنويًا مقابل كافة الخدمات والرسوم، بدلًا من تعدد الجهات".
ويضيف: "نحتاج إلى جهة رقابية تكون لها سلطة على جميع الجهات الأخرى التي تزورنا باستمرار". كما دعا بعض التجار إلى توثيق الانتهاكات المالية والإبلاغ عنها، رغم أن الكثيرين يخشون الانتقام إذا أبلغوا عن تلك الجهات، كما حدث مع صادق محمد، أحد التجار السابقين.
ظاهرة بيع المشاريع الصغيرة في صنعاء تعكس معاناة صامتة تواجهها شريحة واسعة من التجار. بينما تسعى السلطات إلى زيادة الإيرادات عبر الجبايات، فإن الأثر العكسي يتمثل في انهيار المشاريع الصغيرة، وارتفاع معدلات البطالة، وزيادة حالة التوتر الاجتماعي. إذا استمر الوضع على حاله، فإن العاصمة قد تشهد المزيد من الإعلانات المشابهة، وهو ما يهدد بتدمير البنية الاقتصادية للمجتمع المحلي.
يقول صادق، معلقًا على بيع متجره: "ظننت أنني أبني مستقبلًا لي ولأولادي، لكنني وجدت نفسي أبيع أحلامي قطعة قطعة".