غني عن البيان ما للشعر من أهمية في تثوير الشعوب، فهو وسيلة للتعبير عن الألم والمعاناة التي تواجهها الشعوب، فقد اتهم الجاهليون رسولنا الكريم بأنه شاعر، قال عز من قائل معبرًا عن سادات قريش: "ويقولون أننا لتركوا آلهتنا لشاعر محنون".
فالشعر من أهم الوسائل التي تعبر عن أحلام وطموحات الشعوب، يعمل الشعر كأداة لتسليط الضوء على القضايا الاجتماعية، ويشكل الوعي حول الظلم والاستبداد، مما يحفز الناس على التفكير والتحرك ضد هذه الظواهر.
كما أنه يشجع على المقاومة من خلال الإلهام. يمكن أن تكون القصائد حافزًا للناس للقيام بأعمال مناهضة للظلم، سواء من خلال الاحتجاجات أو التعبير الفني؛ كما أن الشعر يمثل أداة قوية للتعبير والمقاومة، إذ يمكن أن يكون له تأثير عميق على الأفراد والمجتمعات في مواجهة الظلم.
وفي هذا السياق، سوف نتناول قراءة قصيدة "دع القصائد لا حرف ولا قلم" للشاعر "فايز أبو
جيش".
دعِ القصائدَ لاحرفٌ ولا قلمُ
يُبلسمُ الجُرحَ أو يشفى بهِ الألمُ
دعِ القصائدَ قدْ ماتتْ مشاعرنا
مذْ ماتَ قيسٌ وعافَ الدارَ معتصمُ
دعِ القصائدَ وارحلْ مثلما رحلوا
فاللصُّ قاضٍ وذا المسروقُ مُتَّهمُ
دعِ القصائدَ لاخيلٌ لتعرفنا
لا السيفُ لا الرمحُ لا القرطاسُ لا القلمُ
ما عادَ فينا دمٌ يجري لنسكبهُ
ليصبحَ الشعرُ قلبًا فالحروفُ دمُ
من بعد ما كانَ عرشُ الشعرِ يجمعنا
بتنا على عُشرِ شَرعِ الشعرِ نُنْقَسَمُ
يا أمةً قد سرى (فيروس) فرقتنا
فيها وأعجبُ منها كيف تبتسمُ
يا أمّةً نكأتْ فينا هزائمنا
وكيف يضحكُ مغلوبٌ ومنهزمُ
كل الجراحِ بنا ما عاد يسعفنا
طبٌّ ولا بلسمتْ أوجاعنا القممُ
الداءُ منّا وفينا ألفُ معضلةٍ
أيُصلحُ الشعرُ ما عاثوا وما هدمُوا؟
قدْ باتَ يرعى بنا ذئبٌ ونحرسهُ
قلْ لي بربِّكَ ماذا يفعلُ الغنمُ
قد قال ربي بحبل الله فاعتصموا
حتى دمانا أباحوها وما اعتصموا
هل يبلغُ المجدَ مذلولٌ ومنكسرٌ
أو يُحْسنُ الجريَ من غاصتْ به القدمُ؟
لن نرفعَ الرأسَ بعد اليوم يا وطني
حتى يرفرفَ في الأقصى لنا علمُ
حتى يصافحَ نهرُ النيلِ دجلتنا
ويلثمَ التينُ والزيتونُ نخلهمُ
يا شامُ يا صرخةً بُحَّتْ بحنجرتي
يا جفلةَ الآهِ إن أودى بي الندمُ
يا بسمة الطفل يا خيراتَ سنبلةٍ
يا رقَّةَ الوردِ يُهدى حينَ نختصمُ
دعِ القصائدَ واكتبْ نصرَ أمَّتنا
فأجملُ الشّعرِ ما تحيا بهِ الأممُ
وفي ما يلي قراءة سريعة لهذه القصيدة من الزاويتين (الأدبية) و(السياسية) في ظل الظروف الراهنة؛ والأحداث الدامية في "فلسطين" و"لبنان" و"سوريا"، وتعكس بعمق هذه الأوضاع السياسية والإنسانية المأساوية. يمكن قراءة هذه القصيدة من زوايا أدبية وسياسية تعكس واقعًا مؤلمًا.
فمن الجانب الأدبي يلاحظ أن الشاعر يتهكم على الشعر، ويقلل من شأنه من باب السخرية، إذ يبدأ بالتأكيد على عدم جدواه في مواجهة الألم والمعاناة، مما يعكس شعورًا بالعجز وفقدان الأمل. يظهر هذا من خلال العبارات التي تشير إلى موت المشاعر، مما يدل على حالة من الإحباط واليأس.
كما أن الشاعر استخدم الرموز مثل "قيس" و"معتصم"، مما يربط الحاضر بالماضي، ويعكس انكسار القيم الثقافية والتاريخية. يبرز هذا الفقدان للأبطال والأساطير التي كانت تمثل القوة والتضحية؛ متوسلًا لغة شعرية قوية ومؤثرة، إذ يستخدم الشاعر صورًا مثل "دم يجري" و"عرش الشعر"، مما يضفي عمقًا على المعاني، ويعكس المعاناة الفردية والجماعية.
كما أنه من حيث الجانب السياسي؛ فإن القصيدة تعكس الوضع السياسي المتأزم في الدول العربية، حيث يشير الشاعر إلى الفساد والظلم، مستخدمًا تعبير "اللص قاضٍ" للدلالة على انعدام العدالة. يعبر هذا عن فقدان الثقة في الأنظمة السياسية.
ويضيف الشاعر فكرة الانقسام بين الأقطار العربية، وهو ما نلاحظ من تعاطف دول عربية مع الكيان الغاصب الذي يقوم بأعمال إجرامية غير مسبوقة لأربعة أقطار عربية "فلسطين" و"لبنان" و"سوريا" و"اليمن". كما يسلط الشاعر الضوء على تأثير الفتن والنزاعات على الهوية المشتركة. كما يستنكر الشاعر غياب الوحدة في مواجهة التحديات؛ رغم اليأس، ينتهي الشاعر بدعوة للكتابة عن مناصرة قضايا الأمة المصيرية، مما يشير إلى إمكانية النهوض والتغيير.
وتجمع القصيدة بين الألم السياسي والإنساني، وتعكس حالة من الإحباط والفقد، لكنها تحمل أيضًا خيطًا من الأمل والتحدي. تعبر الكلمات عن واقع مؤلم، لكن تحمل دعوة للتغيير، مما يجعلها نصًا قويًا يستحق التأمل في ظل الأحداث الراهنة.
فهل نلبي دعوة الشاعر الظاهرة؟ فلم يعد لدينا حرف ننطقه، ولا قلم نكتب به، فقد تكسرت الأقلام، وجفت الصحف، وما عاد فينا دمع فنذرفه، ولا دم فنسفكه، ولا مشاعر حية؛ أن نلبي دعوته الإيقاظية للمشاعر والأحاسيس، فنعيد رص الصفوف، ونتناسى الأحقاد، ونعيش أمة واحدة ذات رسالة خالدة كما تخيلها مؤسسو حزب البعث؟